الجامعة: خطوة للخلف
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يوم تفاءلنا عقب الثورة بخطوة أولى خطتها الجامعة المصرية إلى الأمام ، تمثلت في إخراج الحرس الجامعي ، وطرد أمن الدولة من أرجاء الجامعة ومكاتبها ، وإجراء انتخابات طلابية – لأول مرة – نزيهة وشفافة دون استبعاد أو منع أو شطب ، وإعادة الاعتبار للأساتذة كبار السن ، ووعود بتحرير المناصب الإدارية والقيادية من عشوائية الاختيار أو المحسوبية ، والعمل على تحسين مرتبات الأساتذة التي انحطت حتى تفوق عليها مرتب الفراش في بعض الجهات ... كان تفاؤلنا نابعا من إحساس الثورة
وضرورة التغيير ، وأملا في وضع الأمور في نصابها الصحيح بعد أن ساد الخلل طويلا لدرجة أن صار الأستاذ الجامعي مسحوقا في هيبته ووجوده وكرامته وتأثيره !
تفاؤلنا ذهب مع الريح مع وجود الوزير السابق ، وحل مكانه التشاؤم مع مجيء الوزير الحالي ، فمنذ تشكيل الوزارة العتيدة ، والوزير الجديد الذي كان نائبا لرئيس جامعة القاهرة لم يتحرك قيد أنملة نحو تحقيق الوعود التي وعد بها الوزير السابق ، وينتظر الأساتذة تنفيذها ، وهي وعود لا يحتاج معظمها إلى ميزانيات ولا قرارات صعبة .. كل ما تحتاجه هو تقديمها إلى جهات الاختصاص للتصديق على تنفيذها .
التشاؤم بدأ عندما تراجعت وزارة التعليم العالي عن تغيير القيادات الجامعية ، وصدر عن المجلس الأعلى للجامعات بيان يشير إلى أن المجلس وأعضاؤه من القيادات التي تم تنصيبها في عهد النظام الفاسد البائد ، قد قرر عدم تحقيق رغبة الأساتذة في تغيير القيادات ، متكئا على القانون الذي يوجب أن تتغير القيادة بعد انتهاء المدة القانونية !
ويبدو أن السادة أعضاء المجلس الأعلى للجامعات تناسوا أن الشعب أسقط النظام الفاسد ورموزه دون انتظار للدستور أو القانون ، ثم إن تعيين القيادات الجامعية كما يعلم الوزير الحالي تم بترشيح الجهات الأمنية ، التي تقدم الموالين لها ، المنفذين لإرادتها ، أو الراضين عن النظام البوليسي الفاسد ، وممارساته الشاذة ضد الأساتذة والطلاب والبحث العلمي ، وتحرم الأكفاء الذين يرفضون النظام الفاسد ولا يتناغمون معه .
من الطبيعي أن ترفض القيادات الجامعية الراهنة منهج التغيير ؛ لأنها مستفيدة من الوضع الحالي ، وتدافع عن مصالحها ، فالواحد منهم يتقاضى مائة ضعف مرتبه على الأقل ، أي ما يساوى مرتب مائة زميل له لم يحظ بالرضا السامي لأجهزة الأمن التي كانت تحكم الجامعة ، وفضلا عن ذلك فالمنصب مع أضوائه وغواياته يمثل سلطة يصعب التخلي عنها بسهولة ، وخاصة من يشتاق إلى منصب أعلى أو ينتظر أن يكون له حضور في مواقع أخرى تتجاوز جدران الجامعة .
هناك من القيادات من هو طيب السيرة ، ولا يقدح فيه أن يكون اختياره قد تم عن طريق أمن النظام ، وهذا لا يضيره أن يستقيل وتتم إعادة انتخابه مرة أخرى ، فيكون محصنا بإرادة زملائه ، قويا بدعمهم ، مستضيئا بأفكارهم ومشورتهم .. ولكن الأغلبية فيما يبدو لها منهج آخر ، وتتصور أن التخلي عن المنصب إهانة للأساتذة ونيل من كرامتهم ، وهذا تصور غير صحيح ، فالكرامة الجامعية قد استباحها الأمن منذ سنوات بعيدة للغاية يوم صار نقيب الشرطة أقوى من عميد الكلية ، وعميد الشرطة أقوى من
رئيس الجامعة ، وأمين الشرطة أقوى من الأستاذ والمدرس والمعيد ..
كرامة الجامعة ، وهيبة الأستاذ ، وحرمة دار العلم سحقها النظام البوليسي الفاشي ، وساعده على ذلك بعض أبناء الجامعة الباحثين عن مصالحهم الخاصة ، ومنافعهم الشخصية ، فقصرت هاماتهم أمام الغزاة الذين استباحوا المحراب المقدس خدمة للديكتاتور الطاغية ، وطأطأوا الرءوس ذلا وهوانا لدى خصوم الحياة والكرامة والشرف .
الجامعة اليوم في حاجة إلى أن تجعل الانتخابات طريقا وحيدا لاختيار قياداتها في كل المستويات ، والانتخابات أفضل الطرق للاختيار مهما كانت سلبياتها ، لأن البديل أكثر سوءا وبؤسا ، وآثاره أخطر وأكبر !
ثم إن تغيير قانون الجامعة يمكن أن يتم في أربع وعشرين ساعة لو أراد السيد الوزير ، ولدى الأساتذة ونوادي هيئات التدريس والأقسام والكليات تصورات تكاد تكون متطابقة لتعديل القانون الحالي للجامعات أو تغييره تماما .
لقد آن الأوان أن تلغى وزارة التعليم العالي ، والمجلس الأعلى للجامعات ، وتضاف المؤسسات التابعة للأولى إلى وزارة التعليم ، ويستطيع وزير التعليم أن يعلن نتائج مكتب التنسيق التي تكاد تكون مهمة وزير التعليم العالي وحدها .
إن استقلال الجامعة في الحركة والنشاط كفيل أن يحقق تقدما ملموسا في العملية التعليمية ، فضلا عن إتاحة الفرصة للباحثين كي يعملوا وفق أهداف المجتمع ، ويحققوا نتائج جيدة أو لا بأس بها .
وأعتقد أن ضم الصناديق الخاصة إلى ميزانية الجامعة سيؤدي إلى تحسين ميزانية البحث العلمي وانتعاشه ، بدلا من توجيه أموال هذه الصناديق إلى مكافآت يحصل عليها المسئولون الكبار ، والموظفون الذين لا علاقة لهم بالتدريس ولا بالبحث العلمي .. ثم إن هذه الصناديق يجب أن يكون عائدها طيبا ومقبولا ، فلا يجوز أن تكون هناك دورات تفرض بطريقة تعسفية ، أو عن طريق ما يسمى التعليم المفتوح ، أو الانتساب الموجه وغير الموجه وفرض مقابل باهظ على الطلاب بما يجعل التعليم العالي في شبه
خصخصة لا تراعي غايات المجتمع في إشاعة العلم وتيسيره بالنسبة لأفراد الشعب ، وإذا كان النظام السابق قد اعتزم خصخصة التعليم ، وجعل التعليم المفتوح والانتساب مصدرا من مصادر الكسب والتربح دون مراعاة لمبدأ العدالة الذي يقوم عليه مكتب التنسيق ، فإن الأمر يقتضي مراجعة شاملة للتعليم المفتوح والانتساب .
لا أفهم أن يتقدم خريج من الجامعات أو المعاهد العليا للدراسة منتسبا في تخصص غير تخصصه ، فيفرض عليه أن يدفع خمسة آلاف جنيه في السنة ، ثم ينشئ ملفا يدفع بموجبه ألفا ومائتي جنيه ( ؟) في الكلية التي يدرس بها، هذا أمر غريب وغير مفهوم ، فهذا الذي أنهى الدراسة الجامعية ويريد أن يزداد علما بالانتساب لماذا نرهقه بدفع ما لا يطيق ؟ ألا يجوز أن يحقق تفوقا في دراسته الجديدة ؟
إن الصناديق الخاصة يجب أن تسعي للدخل الطبيعي ، وأن تتوقف حمى الدورات المحمومة التي لا غاية من ورائها غير الجباية ، ومثل الصناديق موضوع الكتاب الجامعي الذي يمثل حالة سرطانية تتنافي مع المنهج الجامعي . فلا يوجد في التعليم الجامعي ما يسمى بالكتاب المقرر ، وإنما هناك مراجع يعود إليها الطالب .. أما وقد وصلت الكارثة إلى التعليم الجامعي وصار هناك – بالعرف – كتاب جامعي ، فلا أقل من اختيار كتاب جيد تتولى الجامعة تسويقه بطريقة ما ، ومنح مقابل للأستاذ بطريقة شهرية أو
سنوية لتنتهي عملية التجارة الرخيصة التي شاعت وتجذرت ، وأضحت مصدر صراع عقيم .
استقلال الجامعة بات أمرا أساسيا يوجب انتخاب القيادات الكبرى والصغرى ، ويفرض مراجعة الخلل في البناء الجامعي حتى يكون لنا مكان في التصنيفات العالمية ولو على المستوى الإقليمي . والله الموفق .