أم فارس
أم فارس
يقول إبراهيم الهضيبي: الثورة دي فيها شيء لله. وفي برنامج «العاشرة مساء»، قال اللواء العصار: الثورة دي اللي عملها ربنا.
أنا أصدق تماما أن الله هو الذي ينصر الثورة المصرية، لأنها ثورة ضد الظلم، والخيانة، والعمالة، والخسة، والفساد، والقهر. هي ثورة ضد نظام أفسد «نوارة الأعين» بحق.. مصر.
مصر حبة عيون العالم، بفسادها يفسد العالم، وبصلاحها تنير الأرض.. حقيقة علمية ثبتت صحتها على مدى سبعين قرنا من الزمان.
ومصر هي عمود خيمة العالم. ومصر هي الدرع الحامية للعالم. ومصر هي شعبها. وشعب مصر خط أحمر. و«لو مصر مالهاش نيل كان شعبها حفره» كما هو وارد في قصيدة تميم البرغوثي.. «الفلسطيني الذي يتدخل في الشأن المصري» كما يقول اللواء الرويني.
منذ بداية تفجر الموجة الثانية من الثورة على أثر اعتداء جهاز الشرطة -المعادي للشعب- على أسر الشهداء ونحن نطالب بحل الداخلية القائمة وإعادة بناء جهاز أمن جديد مهمته أن يخدم هذا الشعب: سيد البلاد. إلا أن أصواتا علت تتساءل: ومن الذي سيحفظ الأمن؟ ثم إن تسريح عناصر الأمن العاملة الآن في الداخلية سينتج عنه تشكيل عصابات إجرامية تهدد البلاد.
الإجابة أرسلها الملأ الأعلى -مركز قيادة الثورة- وجسدها في أم فارس. استيقظنا في يوم 17 يوليو على صراخ إحدى المعتصمات باحثة عن ابنتها الطفلة التي اكتشفنا أنها مختطفة، وتمكن أمن الميدان من العثور على الطفلة وإلقاء القبض على السيدة التي اختطفتها.
بقوة ورباطة جأش، توجهت أم فارس -إحدى المعتصمات- إلى الخيمة التي تم احتجاز صفاء، مختطفة الطفلة فيها، وقامت بالتحقيق مع المتهمة من الساعة السادسة صباحا، وحتى الساعة الثالثة عصرا دون تعذيب، أو تنكيل، بل وفرت لها الطعام، وأعطتها وقتا مستقطعا للنوم، ولترضع وليدها، بل إنها أخرجت أم الطفلة المختطفة من الخيمة حين صفعت صفاء على وجهها، وبعد ساعات، خرجت علينا أم فارس بالاعترافات كاملة:
صفاء تعمل مع رئيس مباحث آداب قصر النيل أحمد زيور، وتسلمه الأطفال المختطفين في مقابل 300 جنيه، ثم يقوم زيور بدوره، ببيع الأطفال لأحد الملاجئ التي تتاجر في أعضاء الأطفال! كما أن زيور قد طلب من صفاء استدراج بعض شباب الاعتصام لشقته (جرسونيرة سيادة الضابط المحترم)، وذلك أملا منه في القبض عليهم في حالة تلبس وفضحهم والإساءة لسمعة الاعتصام... إلا أنها فشلت تماما في المهمة الأخيرة، وتبين أن شباب الاعتصام شرفاء وشمعتهم قايدة.
للأسف -وأقول للأسف- تم تسليم صفاء للشرطة العسكرية، وكنت أود أن تظل محتجزة في الميدان، لأن ذلك سيضمن لها الإقامة في ظروف إنسانية، وهو ما لا نستطيع الجزم به في حالة ما إذا تسلمتها جهة رسمية.
إذن، هذي وزارة الداخلية تؤوي الخارجين عن القانون، ويدير عناصرها شبكات تمارس أبشع أنواع الجرائم: الاتجار في أعضاء الأطفال، وها هم آل الميدان ينقذون البلاد من شبكة خطيرة، وتطرح أم فارس بديلا أكثر مهنية وإنسانية وحرفية ونزاهة من تلك المؤسسة التي لولاها لما سمعنا عن جريمة في مصر، وها هم أعضاء شبكة «تويتر» الإلكترونية يطالبون بتعيين أم فارس في منصب النائب العام.
و بلال فضل يكتب: تعظيم سلام لأم فارس:
أرجوك أتوسل إليك قبل أن تردد أسطوانة «الانفلات الأمني الرهيب» التي يلوكها الكثيرون مضغة في أفواههم دون أن يتثبتوا، ودون أن يكونوا شهودا مباشرين عليها، مكتفين بنقل أقاويل عن هذا وذاك لكيل الاتهامات للثورة وتصويرها أنها خربت البلاد وأضاعت العباد، حاول أن تقرأ قليلا عن أحوال الأمن في العالم، وصدقني ستشعر بالفخر لأننا تمكنا أن نحقق معدلات جريمة شديدة الانخفاض في ظل غياب أمني كامل تدرج إلى غياب أمني جزئي ثم إلى وجود أمني محسوس وغير فعال، وأخيرا وصلنا إلى وجود أمني يتحسن، ولكنه يتوقف حسب ضمير كل ضابط وأصله وتربيته.
لو كانت الداخلية شهدت إعادة هيكلة شاملة يتم فيها التخلص من كل القيادات التي تعتنق فلسفة «أسياد البلد»، ولو تم تفعيل رقابة قضائية وحقوقية على أداء الداخلية تجعل كل فرد شرطة يفكر ألف مرة قبل أن يتجاوز القانون، لشهدت مصر في أسرع وقت أمنا وأمانا، لا أقول لم تشهده في ظل مبارك، الذي استفحلت الجريمة في عهده، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة، وشهدت ظواهر إجرامية غير مسبوقة كان الكل يشكو منها، لكن «آفة حارتنا النسيان»، بل يمكن أن نشهد أمنا وأمانا لا تشهده بعض العواصم العالمية الكبرى.
في مدينة برشلونة على سبيل المثال لا الحصر، ورغم كل الاحتياطات الأمنية تعاني المدينة من حملات للجريمة المنظمة جعلتها تشهد كل يوم 90 حادثة سرقة بالإكراه في محطات المترو الرئيسية، يقوم بها أكثر من 150 مجموعة إجرامية، وعندما يئس الناس من تدخل البوليس لردع الظاهرة، قرروا أن يلجؤوا للحد منها بأنفسهم.
عندما شاهدت فيديو على «اليوتيوب» يصور سيدة مصرية شجاعة من أبطال اللجان الشعبية التي تحمي المعتصمين في التحرير اسمها أم فارس قامت بحسها الشعبي بالقبض على سيدة تخطف الأطفال وتبيعهم، تذكرت قصة خبرية نشرتها «الجارديان» البريطانية منذ يومين عن سيدة إسبانية عمرها 38 عاما اسمها إيليانا جويريو، قررت أن تتصدى لعصابات السطو بنفسها، فبدأت تلف على 12 محطة مترو رئيسية، متسلحة بصفارة تنفخ فيها كلما رأت محاولة سطو أو نشل ليأخذ الناس حذرهم، إيليانا تقول إن السبب الرئيسي لانتشار الجريمة وراءه القانون الضعيف الذي يعاقب الحرامي إذا سرق مبلغا أقل من 400 يورو بغرامة صغيرة، رغبة في عدم اكتظاظ السجون، وتشترط أن يشهد المجني عليه بنفسه ضد الحرامي، لذلك يستهدف اللصوص السياح والأسر التي لديها أطفال أو حقائب، في نفس الوقت الذي لا يمتلك البوليس قاعدة بيانات يسجل عليها من تم القبض عليه أم لا، والبوليس يفسر ذلك بضعف الإمكانيات النابع من الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، إيليانا تقول إن الأزمة لن تحل ما دام السياسيون والقضاة لا يستخدمون المترو، ولذلك لن يفهموا ما يحدث فيه، متحدية عمدة المدينة أن يركب معها المترو لكي يعرف أحوال الناس. إيليانا بدأت قرار التصدي للجريمة بعد أن شاهدت لصا يخطف حقيبة من سائح ألماني ويقوم ببعثرة محتوياتها التي كان بها أنابيب أنسولين يحتاجها السائح المريض بالسكر، ومن ساعتها قررت أن تتفرغ لمواجهة الجريمة، وتصبح بطلة محلية، وتتعرض لمحاولات رشوة من عصابات الجريمة تبعتها محاولات اعتداء، الأسبوع الماضي تعرض إصبعها للكسر كتحذير، ولذلك تحرص على أن تجعل مقر سكنها سريا، ولا تعود إلى بيتها كل ليلة إلا بعد احتياطات أمنية ترتجلها، (لا أدري هل هناك تعبير للارتجال خاص بالنساء أم لا؟). قرأت قصة إيليانا وأنا أضرب كفا بكف حسرة علينا، فلدينا وزارة داخلية تحصل على أعلى نصيب من ميزانية الدولة، ولديها إمكانيات لا تحظى بها المدارس والمستشفيات، ومع ذلك فين وفين عندما نجد ضابطا يتحلى بشجاعة أم فارس أو إيليانا.
خذ عندك أيضا مدينة مارسيليا الفرنسية التي تعاني من زيادة سمعتها كعاصمة للجريمة لدرجة أن فريق الكرة الخاص بها (أوليمبيك مارسيليا) لم يعد قادرا على الإتيان بمواهب رياضية عالية بسبب خوف اللاعبين الذين يذهب للتعاقد معهم من انتشار السطو المسلح، حيث وقعت خلال الأشهر الماضية أكثر من عشر حوادث سطو مسلح على منازل كبار اللاعبين كان آخرها تعرض مدافع برازيلي للهجوم على منزله في منتصف الليل، واحتجاز أفراد أسرته رهائن، ومع فشل البوليس في مواجهة الظاهرة بدأ نادي المدينة يتعاقد مع شركات حراسة خاصة، تكلف مبالغ باهظة لحماية اللاعبين ومنازلهم أملا في تحسين سمعة المدينة، خصوصا أنها ستكون عاصمة للثقافة الأوروبية العام القادم.
حدثتك عن إسبانيا وفرنسا، ولم أحدثك عن المكسيك التي وصلت جرائم القتل المرتبطة فيها بتجارة المخدرات خلال عام واحد إلى 15 ألفا و271 شخصا طبقا لمجلة «التايم» الأمريكية، ولا عن الكاميرون التي منعت القيادة ليلا لتخفيض عدد حوادث الطرق التي قتل فيها في العام الماضي 12 ألف شخص، ولا عن بعض المدن الأمريكية الكبرى التي تصنف كأعلى المدن في نسبة الجريمة في العالم، ولا عن البرازيل التي رغم تقدمها الاقتصادي الباهر لا تستطيع السلطات فيها الآن شق طريق سريع يوصل بينها وبين بيرو بسبب الخوف من أن يساعد الطريق على زيادة معدلات الجريمة، وادخل على الإنترنت -إن أحببت- وابدأ في قراءة أحوال الأمن في مدن العالم لتكتشف بنفسك خرافة الحديث عن غابة الجريمة التي نعيش فيها، ثم اقرأ كتاب (إغراء السلطة المطلقة) للباحثة بسمة عبد العزيز، الذي يفند بأسلوب علمي رائع خرافة أن مصر كانت تشهد أزهى عصور الأمان في ظل حسني مبارك.
لا أقول كل ذلك لكي أرد على المتخرصين الذين يرمون بلاهم على الثورة، أو لكي أذكرك بأن من رأى بلوى غيره هانت عليه بلواه، أو لكي أذكر ضباط الشرطة بأن عليهم أن يحمدوا الله لأنهم يمارسون عملهم وسط شعب متحضر لا يميل إلى العنف، وإلا لكانت قد حدثت مجازر سقط فيها الألوف في ظل غيابهم، ولا لكي أذكرهم بأنه من العار عليهم أن يربطوا مصيرهم بمصائر زملاء لهم خاصموا ضمائرهم وقبلوا أن يطلقوا النار على مواطنين مثلهم في الرأس والصدر دون حتى اتباع أبسط قواعد إطلاق النار التي درسوها وتدربوا عليها، وإنما أكتب كل هذا الكلام لكي أقترح تعيين أم فارس وزيرة للداخلية.