الدماء لن تزيد الجماهير السورية إلا إصراراً

محمد فاروق الإمام

الدماء لن تزيد الجماهير السورية

إلا إصراراً على انتزاع الحرية

محمد فاروق الإمام

[email protected]

عشت والألم يعتصر قلبي مع منظر الدماء وهي تسفك من أجساد أبناء بلدي سورية في درعا الفداء والتضحية والشموخ والإباء.. تزين الشاشات الفضائيات العربية والأجنبية تصحبها صيحات الله أكبر تطلقها حناجر أباة درعا وزغاريد أمهات الشهداء تعانق الجوزاء وهي تزف أرواح أبنائها وهي تعلو مرفرفة فوق أجنحة طيور بيضاء لتلتحق بمن سبقها إلى السماء العلى لتنير درب الأحرار أباة الضيم الذين ما زادتهم الدماء إلا إصراراً على مواصلة المسيرة نحو شمس الحرية ونسماتها وأريج رائحتها التي مهرها غال وثمنها مرتفع، وقد أقسم الأحرار إلا الوصول إليها وانتزاعها بصدورهم العارية وأكفهم البيضاء التي لا تقبض إلا الجمر وحناجرهم الصادحة (سلمية.. سلمية).. (الله.. سورية.. حرية وبس).

ينطلقون بمواجهة ذئاب جائعة وضباع ظامئة لا يشبع جوعها إلا أجساد الأحرار ولا يطفئ ظمأها إلا دماء شرايين الأباة.. معركة طويلة وطويلة بين جلاد بيده سوط ومزمار وفأس وبندقية، وضحية مصفدة الأيدي والأرجل مكمم الأفواه لا يملك إلا الإيمان بانتزاع الحرية.. وضع روحه على كفه، وهي كل ما يملك مهراً لمحبوبته (الحرية) التي هام بها لعقود طويلة، وكان الموت والاعتقال والسجن والمنافي دونها لأكثر من أربعين سنة ظلامية عجاف، لم تحطّ من عزم الرجال أو توهن من إرادتهم، فأنبت خريفها ربيع اشتد ساق رياحينه حتى بات سنديانة عصية ونخلة باسقة تأبى الانحناء تندفع بعزيمة وثبات نحو الجوزاء غير آبهة بالجبناء وما يحملون من عصاً كهربائية وما يلقون من قنابل غاز سامة وما يطلقون من رصاص حي فالنهاية محسومة.. هزيمة الباطل وانتصار الحق، فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.

يوم أمس كان يوماً طويلاً على أهلنا في درعا وهم يتصدون بصدورهم العارية لعدو شرس لا يعرف إلا شريعة الغاب، دلف إليهم من عمق سنين التخلف والهمجية وكهوف الظلام، يريد النيل من صمودهم وكسر إرادتهم، وهو الذي لا يعرف إلا الفأس والبندقية لغة للحوار، وهو الذي لم تسمع أذنه إلا عبارات التذلل والخنوع والاستجداء ونباح المطبلين وعواء المزمرين ونعيب المستشارين ونعيق الأخلاء، ولم تر عيناه إلا قامات مقوسة وظهور منحنية وأياد مصفدة وأفواه مكممة، وسجون ومعتقلات أبوابها مشرعة، ومقابر جماعية ومجازر ومقاصل وأعواد مشانق منصوبة في كل ساحة وميدان وزنقة.

هاله تغير الحال وتغير الوجوه وطول القامات واختفاء الظهور وانتصاب الصدور وارتفاع الجباه والخطى المديدة تتقدم غير هيابة لسوط ولا رشاش أو مدفع، ما الذي غير القوم وبدل حالهم وكان مجرد ظهور خفافيش الأمن يجعل سيقانهم تلامس أظهرهم (كما فعل أقزام النظام يوم تخليهم عن الجولان وفرارهم من العدو كما تفر الجرذان)، ما الذي جعل هؤلاء يواجهون ويصمدون ويتقدمون وقد ولدوا وعاشوا وتربوا في عهد هذا النظام وقد تلقنوا شعاراته وهتافاته ودعواته وأفكاره ومعتقداته، إنهم حسب دعواه ناكرين للجميل ويجب قتلهم وسحقهم وبتر أطرافهم وجدع أنوفهم وقطع آذانهم وتمزيق أحشائهم حتى يعودوا إلى أقفاص العبودية، ولم يدر ببال هذا الجلاد أن الشباب السوري شبوا على قيده ومزقوا ثوب العبودية وكسروا قضبان أقفاصه فقد باتت صغيرة على قاماتهم فلا عبودية بعد اليوم ولا سراديب ولا كهوف ولا أقبية ولا مواخير.. اليوم يوم الحرية ولا شيء غيرها مهما غلى مهرها.

النظام السوري المخادع بوعوده (سين.. وسوف.. وتشكيل اللجان) لم يعد محل ثقة أو قبول لدى الجماهير السورية وقد مجَّ دعاويه الكاذبة ووعوده الزائفة ولابد له من الخضوع لمطالب الجماهير العادلة اليوم قبل الغد فالجماهير تريد حرق الزمن وطي المسافات وقد استهلك النظام من عمرها نصف قرن جعلها في آخر الشعوب والأمم واللحاق بها لا يحتمل الانتظار ولا سين ولا سوف ولا تشكيل اللجان.

على النظام أن يصيخ السمع لصوت العقل فالدماء لن تسعف طغيانه، وزهق الأرواح لن توقف المسيرة أو تؤخر تقدمها، فالعاصفة هبت وانطلق إعصارها ولا يقف بوجهها إلا أحمق أو غبي أو جاهل، وقد طوت قبله أنظمة ظن الجميع أنها راسخة رسوخ الجبال فإذا هي كالعهن المنفوش وبيتها أوهن من بيوت العنكبوت فتهاوت كما تتهاوى الفراشات عند ملامسة اللهب، أين نظام زين العابدين بن علي، وأين نظام حسني مبارك وقد صارا من الماضي حكاية تروى تحمل في طياتها الكثير من الآلام والجراحات والعذابات، ولكنها طويت إلى غير رجعة، وهذا نظام القذافي وقد آثر ذبح شعبه يترنح، وهذا نظام عبد الله صالح المعاند يستجدي سفينة الخلاص، فأي هذه الأنظمة يريد النظام السوري استنساخها والاقتداء بها وتمثلها، وقد حزم الشعب السوري أمره ووطن النفس على تحديها والإصرار على انتزاع الحرية من بين أنياب النظام ومخالبه، والتعامل مع النظام بالطريقة التي يريدها لحسم هذا الصراع!!