كارثة الثامن من ‏آذار‏

د. محمد بسام يوسف*

[email protected]

في صبيحة الثامن من آذار عام 1963م.. وقع انقلاب عسكري قاده الضابط (زياد الحريري) ومِن ورائه البعثيون، فأنتج حُكماً ديكتاتورياً بوليسياً أنهى المرحلة الديمقراطية للبلاد، وما يزال مستمراً حتى يومنا هذا، إذ فرض الانقلابيون أنفسهم على الوطن والشعب، بعد أن سيطروا على مقاليد الجيش والآلة العسكرية، ثم استخدموها وسيلةً للقفز إلى السلطة بدل أن تكون وسيلةً للدفاع عن الوطن وتحرير الأرض العربية المغتَصَبة، وأزاحوا عن الخارطة الوطنية كل القوى السياسية التي يمكن أن تنافسَهم، ووَأَدوا كل ما كان من حياة الحرية والتعدّدية، وأدخلوا البلاد في نفقٍ مظلمٍ ما تزال سورية تعاني من وطأته حتى اليوم!..

في صبيحة يوم الثامن من آذار عام 1963م، بدأت في سورية كارثة الكوارث الوطنية، حين استأثر حزب البعث بالسلطة، واتبع أساليب القمع والإرهاب ضد خصومه السياسيين، وقام بخطواتٍ استئصاليةٍ ضد الحركات الإسلامية والقوى الوطنية بشكلٍ عام، وذلك تنفيذاً لمقرراتٍ حزبيةٍ بعثيةٍ اتُّخِذَت منذ تسلّط الحكّام الجدد على مقدّرات الوطن والدولة والشعب السوريّ، إذ صُنّفت الحركات الإسلامية – بموجبها- ضمن القوى الرجعية المضادة للثورة، ففُتِحَت السجون والمعتقلات لأبناء الشعب السوريّ.. وقد كانت حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي فرضها الحكّام الانقلابيون على البلاد، وأساليب القمع ومحاولات استئصال الآخر التي اتبعها النظام القادم على ظهور الدبابات.. كانت الخطيئة الأكبر والسبب الأول والأهم، الذي أسّس للصراع بين الشعب السوريّ والسلطة المتسلّطة، التي قادت البلاد إلى حالاتٍ قصوى من الاحتقان المستمرّ حتى اليوم!..

*     *     *

كان انقلاب الثامن من آذار عام 1963م كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية تعاني منها حتى الآن، إذ دخلت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المنفرد المتسلط القمعيّ، فقُمِعَ الإنسان السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع، عبر صراعاتٍ اتخذت فيما بعد الصبغة الطائفية الواضحة، حين فتح حزب البعث الباب على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية، لتمسك بزمام الأمور ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد، وبدأت تظهر الحالة العدائية الحزبية للإسلام، عبر تحدي قِيَمِه وعقيدته، وعبر إكراه الناس على عقائد وسلوكياتٍ معاديةٍ لعقيدة الإسلام، وعبر منهجٍ تدميريٍ ثابتٍ أصيلٍ تمتعت به كل الحكومات المتعاقبة.. التي سارت على منهج:

آمنتُ بالبعثِ رباً لا شريكَ لهُ = وبالعروبةِ دِيناً ما لَهُ ثاني

كان وثوب حزب البعث إلى السلطة نقطةَ انعطافٍ خطيرةٍ في تاريخ سورية، فقد عمد إلى مصادرة الحريات العامة، وحَلِّ الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف والمجلات ومنابر الرأي، وفَرْضِ قانون الطوارئ والأحكام العرفية، واحتكار وسائل الإعلام، وإلغاء كل دورٍ للمعارضة السياسية!.. فقد بدأ في سورية حكمٌ فرديّ، عطّل الحياة السياسية، ولاحق الأحرار وأصحاب الرأي المخالف وطاردهم، وأعلن قوائم طويلةً للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال الفكر والدين والسياسة.. وتَشبّثَ بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية، وتبنّى عقيدة (العنف الثوريّ) لتصفية خصومه المخالفين له في الرأي، ولم ينجُ من عواقب هذا السلوك حتى رجال البعث أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت فيما بينهم، والانقلابات العسكرية التي وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر!..

*     *     *

أمام شدّة الهجمة القمعية، وتحت وطأة الاستبداد الدمويّ، التي بدأت بفرض قانون الطوارئ الصادر بالأمر العسكري رقم (2) وتاريخ (8/3/1963م)، أمام ذلك كله.. واجه المجتمع السوريّ البطشَ والتنكيلَ وعمليات التضليل الأيديولوجيّ والفكريّ!.. وعلى الرغم من أنّ الحركة الإسلامية كانت أول مستهدَفٍ بالاستئصال.. فقد وَعَتْ أنها دخلت مرحلةً صعبةً قاسيةً من التحدي الفكريّ والعقديّ والنفسيّ، فقرّرت خوض الصراع الشامل المفروض: فكرياً ودعوياً وعقدياً وتربوياً، وذلك من منطلق أنّ الدعوة فرض عينٍ على كل مسلم، وأنّ الدفاع عن عقيدة المجتمع السوريّ وحرّيته واستقلاله.. واجب شرعيّ لا يمكن التخلي عنه.. وما تزال الحركة الإسلامية ماضيةً في طريقها، منفتحةً على كل القوى الوطنية الشريفة ورجالها، ساعيةً إلى قلب صفحة (أمّ الكوارث) الوطنية المولودة في الثامن من آذار عام 1963م، التي ما يزال يكرّسها نظامُ القمع والاستئصال.. وذلك لتعودَ سورية ساحةً وطنيةً حقيقيةً لكل أبنائها وبناتها، وليس لفئةٍ متسلّطةٍ طاغية، كالفئة التي تستأثر بحكم البلاد منذ أكثر من أربعة عقود، وليس لديها من وسائل الاستمرار إلا الحديد والنار والبغي والطغيان والأحكام العُرفية وقوانين الطوارئ.. والعدوان السافر على حرّية الإنسان السوريّ وكرامته وأبسط حقوقه.

                

* عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام