مطالب عاجلة من أجل مصر

حسام مقلد *

[email protected]

لا شك أن مصرنا الغالية تعيش بعد ثورة الشعب المباركة لحظة فارقة وحاسمة في مسيرة تاريخها المجيد، فمصر بعد 25 يناير ليست هي مصر قبل ذلك؛ فنحن اليوم بصدد إرساء رؤية وفلسفة جديدة للدولة المصرية المدنية (غير الثيوقراطية) الحديثة التي نتمناها لنا جميعا، دولة ركائزها الأساسية: الاعتزاز بالهوية الحضارية العربية الإسلامية والحفاظ عليها، والعدالة الاجتماعية والحرية (الحرية المسئولة طبعا) والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وميثاق أخلاقها: المحبة والتسامح وقبول الآخر والتغافر والتكافل والتعاون والتراحم والبذل والعطاء...، والرغبة الحقيقية الجادة في بناء مجتمع حديث متطور يتخذ من البحث العلمي سبيلا لإنجاز نهضة شاملة للإنسان والبنيان، وفي هذه الظروف الدقيقة الحرجة والمرحلة بالغة الحساسية من عمر ثورتنا المباركة، ينبغي لنا جميعا أن نتصارح ونتحاور (دون تعصب أو تشنج) بمنتهى الوضوح والشفافية حتى نؤسس دولتنا على دعائم قوية راسخة "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [التوبة : 109]  وحري بكل منا أن يدلي بدلوه في هذا الحوار البناء، وانطلاقا من ذلك أود الحديث في النقاط التالية:

أولاً:

بداية يجب أن ندرك جميعا أن مصر تعيش بالفعل ثورة جذرية شاملة، وليست مجرد إصلاحات جزئية للنظام السابق، فهو أشبه بثوب خَلِقٍ مهترئ لا يصلح معه الترقيع والترميم؛ فذلك لن يزيده إلا اهتراءً، وهنا يجدر بنا أن نتوجَّه بالشكر الجزيل، وبأسمى مشاعر الاعتزاز والعرفان لجيش مصر الباسل على موقفه التاريخي العظيم والمشرف من الثورة المصرية البيضاء التي فجرها شباب مصر الأوفياء الأبرار؛ فبهذا الموقف الحكيم والنبيل والشجاع أثبت جيشُنا العظيم كما عودنا دائما أنه درع مصر والأمة العربية، وحامي حمى أمننا القومي.

ثانيا:

علينا في هذه المرحلة المهمة أن نعزز من ثقتنا في بعضنا البعض، ونشدد على أنه لا مجال للإقصاء ولا التهميش، ولا مجال لإحتكار أي طرف للحقيقة وازدراء الآخر واحتقار أطروحاته، ولا مجال للتخوين ولا للتشفي أو الانتقام؛ فهذا ليس من أخلاق الكرام، بل إن الصفح والعفو عند المقدرة هو من أرقى وأرفع وأسمى الأخلاق النبيلة التي يحثنا عليها الإسلام، ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، فقد قال لأهل مكة بعد الفتح، وهم الذين آذوه وعذبوه هو وأصحابه  وأخرجوهم منها ـ قال لهم: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟" قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وأحب أن أؤكد هنا على أن معركة مصر ليست مع الماضي، وإنما هي مع المستقبل وتحدياته الخطيرة، فمعركتنا الحقيقية هي بناء مصر المدنية الحديثة العصرية العادلة الديمقراطية الرائدة عربيا وإقليميا ودولياً.

ثالثا:

إذا كنا نؤكد على مبدأ التسامح والتصافح والتغافر، لكن هذا لا يعني إهدار ثروات الدولة المنهوبة التي سرقها رجال النظام السابق، وإن كانت الخسارة الكبيرة لمصر العظيمة لن تعوض، فبكل أسف ليس ممكنا إعادة هذه العقود الطويلة التي اُخْتُطِفَت فيها مصر وحُرِمَت من إنجاز أي نهضة حقيقية، فتراجعت وتقدم غيرها وضَعُفَت وقوِي غيرها!! إلا أنه ينبغي إرجاع الحق إلى أصحابه فهذا هو العدل، وبكل وضوح نقول: ينبغي أن يكون هناك محاكمة سريعة وعادلة وفقًا للقانون لكل رموز النظام السابق بدءا من الرئيس السابق وزوجته وأبنائه وكل رجال السلطة ورجال الأعمال المشتبه بهم أو المتورطين بالفعل في سرقة ونهب الأموال الطائلة والثروات الهائلة، ولا بد أن يطبق على الجميع قانون: "من أين لك هذا؟" وأن يخضعوا للمحاكمة بكل شفافية وعدل وإنصاف، لرد المظالم إلى أصحابها وإرجاع الحق لأهله، وإعادة هذه الأموال فورا لخزانة الدولة، على أن يُعلن ذلك بكل شفافية وبكل وضوح لأبناء الشعب المصري في وسائل الإعلام كافة؛ ليكون درسا رادعا لمن توسوس له نفسه ويزين له شيطانه أن يخون الأمانة ويسرق ثروات الوطن أو يستولي عليها دون وجه حق!!

رابعا:

بالنسبة لرجال الشرطة ووزارة الداخلية وتحديدا (جهاز أمن الدولة) فيجب أن تتم الإجراءات التالية على الفور دون أدنى إبطاء:

1.  حل (جهاز أمن الدولة) الآن ودون أي انتظار، وتكليف ضباطه بمهام أمنية أخرى بعد إعادة تأهيلهم نفسيا ومهنيا.

2.  إعادة النظر في أنظمة ومناهج وفلسفة كلية الشرطة، لبناء شخصية الضابط على أسس علمية ونفسية صحيحة، وتسليحه بالعلم النافع والخلق القويم، وبكل صراحة أقول يجب إعادة النظر في سياسة القبول بكلية الشرطة لتكون بناءً على معايير علمية دقيقة وحازمة بعيدا عن الوساطات والمحسوبيات ودفع رشاوى تصل إلى50 ألف جنيه؛ فكيف سيحرص من يلتحق بكلية الشرطة بهذه الطرق الملتوية على تطبيق القانون وخدمة المواطنين؟!!

3.  تغيير مفهوم العمل الشرطي برمته وإعادة هيكلته على أسس جديدة تُعْلِي من قيمة العدل واحترام كرامة المواطنين والحرص على حقوق الإنسان، فليس معنى توفير الأمن للوطن إهدار كرامة أبنائه!!

4.  التوقف تماما عن ممارسة كل أساليب التعذيب البشعة التي كانت تستخدم مع المواطنين لإجبارهم على الاعتراف، وتطبيق القانون بكل حيدة ونزاهة مع المتهمين خاصة السياسيين منهم.

5.  ينبغي التأكيد على أنه لن تفتح صفحة جديدة بين الشرطة والشعب ويعاد بناء الثقة بين الطرفين بمجرد تغيير الشعارات، أو توزيع الورود على الناس، وإنما باحترام المواطنين وعدم امتهان كرامتهم وظلمهم والتعالي عليهم.

6.  تطبيق القانون على جميع أبناء الشعب بكل حيدة ونزاهة، وتحقيق المساواة التامة بين الأثرياء والمسئولين ورجال الشرطة وبين غيرهم من المواطنين العاديين فالجميع أمام القانون سواء، أي تحقيق مبدأ سيادة القانون عمليا في أرض الواقع.

7.  الإسراع بمحاسبة كافة الضباط الذين يثبت تورطهم في تعذيب المواطنين أو قتلهم أثناء انتزاع الاعترافات منهم.

8.  حبذا لو يقدم السيد وزير الداخلية اعتذارا رسميا للشعب المصري عن كل ما اقترفته هذه الوزارة من أخطاء فادحة( ولن أقول جرائم) في حق المواطنين على مدى العقود الماضية، مع قطع الوعود الجازمة بأن تكون وزارة الداخلية وزارة متحضرة بالفعل تليق بمصر، وأن يكون على رأسها وزير سياسي وليس رجل أمن تربطه علاقات زمالة وعلاقات اجتماعية متشابكة مع الضباط، وينبغي أن تكون وزارة الداخلية المصرية كبقية وزارات الداخلية في دول العالم المحترمة تحقق الأمن وتحترم مواطنيها في ذات الوقت.

9.  ينبغي أن تختفي السلوكيات الهابطة التي يمارسها عدد كبير من منسوبي الشرطة (ضباطا كانوا أو أمناء شرطة) كانتهاكهم لقوانين المرور، أو فرضهم إتاوة على الناس، أو تعاملهم الفوقي واستعلائهم على المواطنين واستفزازهم وانتهاك حرماتهم وجرح مشاعرهم وخدش حيائهم بقاموس الألفاظ البذيئة الوضيعة التي أتعجب (أقسم بالله العظيم أتعجب!!) من قدرتهم على تحمل سماعها فضلا عن النطق بها!!! ( وما قصة عماد الكبير وخالد سعيد منا ببعيد!!).

خامسا:

أعتقد أنه قد آن الأوان كي يبادر المجلس الأعلى للقوات المسلحة باتخاذ إجراءات عاجلة وفورية لطمأنة الناس وبث الثقة في نفوس جميع المواطنين، وتعزيز مناخ التسامح والتراحم والتوجه الجاد البنَّاء نحو بناء مصرنا الحبيبة على أسس من الشفافية والنزاهة والعدالة والحرية والمساواة، ولعل أهم وأبرز هذه الإجراءات التي يجب أن تتخذ فوراً وبشكل عاجل جداً ما يلي:

1.    الوقوف بكل حزم وقوة في وجه فلول النظام البائد التي تحاول بشتى الطرق القيام بثورة مضادة، وتسعى لإشاعة الفوضى في مصر، وإحداث حالة من الفلتان الأمني والعنف الاجتماعي والاضطراب والعشوائية وتأزيم الأوضاع؛ بقصد الالتفاف على الثورة وإجهاضها وإفشالها وإبعادها عن تحقيق أهدافها.

2.    إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء سواء بعد ثورة 25يناير أو قبلها، بل لعل الأولى الآن الإفراج الفوري عن كل السجناء والمعتقلين الذين اعتقلهم النظام السابق وحبسهم دون وجه حق على مدى العقود الثلاثة الماضية، فهذه هي البداية الطبيعية للدلالة على حسن النية وطي صفحة الماضي بكل مراراتها وأحزانها، وبدء صفحة جديدة لعصر جديد ومستقبل مشرق زاهر بإذن الله تعالى، وبناء جسور الثقة بين السلطة الجديدة وبين جموع الشعب المصري العظيم والطيب والمتحضر، ومن حق كافة أبناء هذا الشعب العريق أن يتنفسوا نسمات الحرية، ويشعروا ببداية جني ثمار ثورتهم المباركة، ويلمسوا عمليا فكرة أن الحرية والعدالة والمساواة ( طبعا في الحقوق والواجبات) ستعم الجميع دون أدنى تمييز.

3.    اتخاذ إجراءات عملية سريعة لمحاسبة كل من قام بالاعتداء على أبناء الشعب المصري خلال ثورة 25 يناير المباركة، والإسراع في محاكمة المفسدين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحفظ الفوري على أموالهم وممتلكاتهم وتجميد أرصدتهم في البنوك وفرض الإقامة الجبرية عليهم حتى لا يتمكنوا من الهرب، أو تهريب أموالهم، أو إتلاف الوثائق والأدلة التي تدينهم، وبكل صراحة نطالب بالتحقيق فورا مع كلٍّ من: صفوت الشريف، فتحي سرور، زكريا عزمي، علي الدين هلال،... وكل رموز النظام السابق سواء كانوا من رفاق مبارك الأب أو الابن!!

4.    طمأنة الناس على تحقيق مطالبهم الفئوية العادلة، ويجب إجراء حوار مباشر معهم لبث الثقة في نفوسهم، والبدء فورا في دراسة رفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات، لاسيما  للشرائح الدنيا وطبقة محدودي الدخل؛ ليشعر المواطنون بتحسن عملي وحقيقي في مستويات معيشتهم، وتخفيف العبء عنهم ولو قليلا!!

5.    ينبغي إقالة حكومة الدكتور أحمد شفيق فورا مع كامل احترامنا له، فهو في النهاية ومعه وزيرا الخارجية والعدل وجوه من الماضي بكل ما في ذلك من رمزية فكيف يعبرون عن الحاضر ويؤسسون لصياغة المستقبل؟!! وهل يعقل أن حواريي مبارك و تلامذته سيغيرون قناعاتهم وأفكارهم بمثل هذه السرعة ليكونوا بناةً لعصر جديد؟! إن هذا الوهم يتصادم تماما مع كل حقائق علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي، ويتعارض مع كل النظريات والمعارف الإنسانية المتعلقة بعلم التغيير والحراك الاجتماعي الشامل، ولا أفهم مطلقا كيف يتوقع أحد أن تنطلي هذه الأوهام على أبناء الشعب المصري العريق!!

6.    البدء فورا في تطهير وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية من كهنة النظام القديم الذين تلونوا سريعا كالحرباء، وطبعا ليس من المنطقي استبعاد جميع الناس، فهذا غير معقول ولا مقبول، وإنما المطلوب استبعاد كافة الرموز المستفزة التي كان لها دور بارز في تزوير الحقائق وتزييف وعي المواطنين، وهم معروفون لكافة أبناء الشعب المصري الأصيل!!

7.    الانفتاح الحقيقي على كافة أبناء الشعب المصري وإجراء حوارات ولقاءات علنية وشفافة معهم، وعدم اختزال المثقفين المصريين في نفس الوجوه القديمة التي مللنا تقديمها باعتبارها رموزا لمثقفي مصر وعلمائها ومفكريها، وصدقا أقول إن أغلب هؤلاء لا يمثلون سوى أنفسهم فقط أو قطاعات محدودة جدا وشرائح ضيقة للغاية من المجتمع المصري، وهناك الكثيرون غيرهم لعلهم أصدق وأوسع تمثيلا للمجتمع المصري وأقدر على التعبير عن هموم الشارع والمواطن المصري، من بينهم: أ.د. حلمي محمد القاعود، أ.د. رفيق حبيب، د.عصام العريان، د.عبد المنعم أبو الفتوح، أ. فهمي هويدي، أ.د. محمد عمارة، أ.د. جابر قميحة، الشيخ. محمد حسان، د.هشام عقدة، أ.جمال أسعد عبد الملاك،أ.جمال سلطان... وغيرهم الكثير الكثير!!

سادسا:

علينا أن نحذر جميعا من التدخلات الخارجية الناعمة والمستترة، والتي بدأت تسعى سرا وعلنا لسرقة الثورة الشعبية المصرية، وتوجيه التغيُّر التاريخي الحادث حاليا في مصر، وتحاول التأثير عليه بشكل أو بآخر؛ لإجهاضه وتفريغه من مضمونه، والالتفاف عليه باستنساخ نظام جديد من حيث الشكل والوجوه لكنه يحمل نفس الجينات والعوامل الوراثية التي وجدناها في النظام السابق، والتي تسببت في استفحال خطر الفساد وتشعبه وانتشاره في كل مفاصل الدولة المصرية حتى تدهورت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتقزَّم دورها خارجيا وتفشت فيها كل عوامل الضعف والتفكك والانحلال، فلسنا بحاجة مطلقا لإعادة إنتاج هذه التجربة الفاشلة وإضاعة ثلاثة عقود أخرى من الزمن، وعلينا جميعا أن نتحلى بأقصى درجات الحذر واليقظة والوعي والنضج والحكمة والوطنية بحيث نساعد أنفسنا ونعمل جميعا يدا واحدة من أجل قيام دولة مدنية قوية تهتم ببناء الإنسان، وتطوير البحث العلمي الجاد والحقيقي، وتوفير الحرية الكاملة والمسئولة لجميع المصريين، وتسعى لتشييد مجتمع قوي ناهض قادر على إسماع كلمته وفرض إرادته في الساحة الدولية.

والله تعالى أسأل أن يحفظ مصر وأمنها، ويعز أهلها، ويصونها من كل مكروه وسوء، ويبقيها حصنا منيعا ودرعا قويا لأمتها ووطنها، ويحميها من الوقوع في شباك أية خديعة أو مكيدة محلية أو دولية تريد أن تلتف على ثورة شعبها، وتسرق جهود شبابها وتغتال أحلامه وحقوقه من جديد، وتسعى لجلب نظام مستنسخ من النظام السابق تكون مهمته فقط موالاة الغرب وخدمة مصالحه ومصالح إسرائيل، ولو على حساب مصالح الشعب المصري الصبور المكافح، وكبت حرياته وإهدار طاقاته ومنعه من تحقيق أية منجزات حضارية له ولأمته، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21].

                

 * كاتب إسلامي مصري