إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية

نداء عاجل

إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية

حسام مقلد *

[email protected]

بداية أتوجه بالشكر الجزيل، وبكل مشاعر الاعتزاز والعرفان لجيش مصر الباسل على موقفه التاريخي المشرف من الثورة المصرية البيضاء التي فجرها شباب مصر الأبرار؛ فبهذا الموقف الحكيم النبيل والشجاع أثبت جيشُنا العظيم كما عودنا دائما أنه درع مصر والأمة العربية، وحامي حمى أمننا القومي، وأكد بكل وضوح على أن أمن ومصلحة مصر وحماية مقدرات شعبها وصون أمنها وعزتها وكرامتها واستقرارها هو شغله الشاغل، فبوركت أيها الجيش البطل، ويحق لنا جميعا أن نفخر بك؛ فأنت جزء منا ونحن أبناؤك، نحن زادك ووقودك وعدتك وعتادك في الشدائد، وذخيرتك الحقيقية وسندك ودعمك وعونك بعد الله تعالى عندما يجد الجد وتحين ساعة المواجهة، وأنا شخصيا وإن كان فاتني شرف المشاركة في معركة العبور لكوني من جيل الشباب، إلا أنني أشعر بالزهو والفخر الشديد؛ لأنني انتسبت مدة خدمتي العسكرية لهذا الجيش البطل، الذي أدركت فيه المعاني الحقيقية لكلمات مثل: البطولة والوطنية، والشرف العسكري، والوحدة الوطنية، والتخطيط والتنظيم الدقيق بل والدقيق جدا لكل شيء، والرغبة في الإنجاز والإتقان، والحرص على التميز، والصبر والجلد، وعلو الهمة وشدة التحمل، وغير ذلك من المعاني الجميلة والصفات الحسنة والأخلاق العملية السامية التي يمكن تلخيصها في كلمات قليلة هي:"الرجولة والانضباط والشرف".

والآن يا جيشنا العظيم بعد نجاح ثورتنا السلمية التي شاركت فيها بموقفك الرائع هذا اسمح لي أن أتوجه إليك ـ وبالتحديد إلى المجلس الأعلى لقواتنا المسلحة ـ ببعض المقترحات التي أرجو أن تكون نافعة ومفيدة في هذه الظروف الدقيقة والمرحلة بالغة الحساسية من عمر ثورتنا المباركة، التي نجحت بعد توفيق الله تعالى بمؤازرتك ودعمك وموقفك العظيم المشرف:

1.    يجب أن يبادر المجلس الأعلى للقوات المسلحة باتخاذ إجراءات عاجلة وفورية لطمأنة الناس وبث الثقة في نفوس جميع المواطنين، وتعزيز مناخ التسامح والتراحم والتوجه الجاد البنَّاء نحو بناء مصرنا الحبيبة على أسس من الشفافية والنزاهة والعدالة والمساواة، ولعل أهم وأبرز هذه الإجراءات التي يجب أن تتخذ فوراً وبشكل عاجل جداً: إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء سواء بعد ثورة 25يناير أو قبلها، بل لعل الأولى الآن الإفراج الفوري عن كل السجناء والمعتقلين الذين اعتقلهم النظام السابق وحبسهم دون وجه حق على مدى العقود الثلاثة الماضية، فهذه هي البداية الطبيعية للدلالة على حسن النية وطي صفحة الماضي بكل مراراتها وأحزانها، وبدء صفحة جديدة لعصر جديد ومستقبل مشرق زاهر بإذن الله تعالى، وبناء جسور الثقة بين السلطة الجديدة وبين جموع الشعب المصري العظيم والطيب والمتحضر.

2.    يُفترض الآن بعد أن تنفس الناس نسمات الحرية، أن يشعروا ببداية جني ثمار ثورتهم المباركة، ويلمسوا عمليا فكرة أن الخير سيعم الجميع وسيوزع بعدالة على كل أبناء الشعب دون تمييز، ولعل من المناسب الآن وبشكل عاجل صرف راتب شهر منحة لجميع العاملين في الدولة، خاصة أولئك ذوي الرواتب والمعاشات الصغيرة، وتقديم منحة عاجلة للشرائح المسحوقة من الناس من غير العاملين  أو الموظفين في دوائر الدولة، ويمكن البحث عن صيغ عملية مناسبة تسمح بتنفيذ ذلك في أقرب فرصة ممكنة.

3.    يجب البدء فورا في دراسة رفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات، لاسيما  للشرائح الدنيا وطبقة محدودي الدخل؛ ليشعر المواطنون بتحسن عملي وحقيقي في مستويات معيشتهم، وتخفيف العبء عنهم ولو قليلا!!

4.    الإسراع في إنجاز المهمة الاستثنائية الحالية للجيش، وذلك من خلال المبادرة إلى إلغاء قانون الطوارئ فورا، ولا تخشوا الشعب فهو شعب واع راق متحضر وسيحمي وطنه بكل قوة وسيحرص على تحقيق مصالحه العليا دون وجود لهذا القانون السيئ الذي أفسد العلاقة بين السلطة والمجتمع ونزع ثقة المصريين في حكومتهم، والإسراع في حل مجلسي الشعب والشورى وجميع المجالس المحلية، وتسريح الحكومة الحالية فورا؛ لأنها امتداد لحكومات الحزب الوطني ونظامه السابق، وتشكيل حكومة انتقالية حكومة خبراء (تكنوقراط) والعمل على إتمام عملية انتقال السلطة بشكل سلمي آمن وسريع إلى حكومة مدنية منتخبة، وإعادة وضع دستور جديد للبلاد يشارك في صياغته كل ألوان الطيف السياسي المصري وفي القلب منه الإسلاميون والأقباط، مع الحرص بشكل واضح وحاسم على عدم إغفال دين الأغلبية الساحقة للسكان، والتأكيد على الدولة المصرية المدنية العصرية، والحفاظ على هويتها وحضارتها العربية الإسلامية التي يستظل بها المسلم والقبطي ويعتز بالانتماء إليها، وإيجاد الضمانات الدستورية الحقيقية التي تحقق مبدأ المواطنة العادلة للجميع دون افتئات على حقوق أي مواطن مصري أو أي طرف من الأطراف!!

5.    الحذر الحذر من التدخلات الخارجية الناعمة والمستترة، والتي بدأت تسعى سرا لسرقة الثورة الشعبية المصرية، وتوجيه التغيُّر التاريخي الحادث حاليا في مصر، وتحاول التأثير عليه بشكل أو بآخر؛ لإجهاضه وتفريغه من مضمونه، والالتفاف عليه باستنساخ نظام جديد من حيث الشكل والوجوه لكنه يحمل نفس الجينات والعوامل الوراثية التي وجدناها في النظام السابق، والتي تسببت في استفحال خطر الفساد وتشعبه وانتشاره في كل مفاصل الدولة المصرية حتى تدهورت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتقزَّم دورها خارجيا وتفشت فيها كل عوامل الضعف والتفكك والانحلال، فلسنا بحاجة مطلقا لإعادة إنتاج هذه التجربة الفاشلة وإضاعة ثلاثة عقود أخرى من الزمن، وعلينا جميعا أن نتحلى بأقصى درجات الحذر واليقظة والوعي والنضج والحكمة والوطنية بحيث نساعد أنفسنا ونعمل جميعا يدا واحدة من أجل قيام دولة مدنية قوية تهتم ببناء الإنسان، وتطوير البحث العلمي الجاد والحقيقي، وتوفير الحرية الكاملة والمسئولة لجميع المصريين، وتسعى لتشييد مجتمع قوي ناهض قادر على إسماع كلمته وفرض إرادته في الساحة الدولية.

6.    يجب البدء فورا في تنقية قوانين الاستثمار من العوائق البيروقراطية وجميع الإجراءات المعقدة التي تجعل مصر بيئة طاردة للاستثمارات الخارجية، وينبغي البدء فورا في سن قوانين ميسرة تشجع على جذب الاستثمارات الوطنية والخارجية، وعلى الحكومة المؤقتة ـ بعد تشكيلها قريبا وبأقصى سرعة ـ أن تقترح في هذا الصدد مشروعات ملحة يحتاجها الاقتصاد المصري الآن، وأن تشجع فتح المجال أمامها، وتوفر البيئة المناسبة التي تجعل شرائح أكبر من المواطنين شركاء حقيقيين في التنمية، وتكسر احتكار شريحة محدودة من رجال الأعمال لهذه المشروعات، وبذلك تضمن الحكومة عدالة توزيع الثروة وعوائد التنمية على قطاعات واسعة من أبناء الشعب، وعدم تجمعها في أيدي حفنة قليلة من الناس تجمع بين السلطة والثروة وندخل ـ لا قدر الله ـ في نفس النفق المظلم من جديد!!

7.    نقدر كثيرا ونثمِّن موقف الجيش النبيل في إخراج الرئيس مبارك من السلطة بهذا الشكل السلمي المشرف؛ فهو في النهاية أحد أبناء مصر وأحد رجال قواتها المسلحة الباسلة، وأنا وإن كنت قد كتبت كلاما قويا وعنيفا أثناء الثورة في حق الرئيس مبارك إلا أن الوضع الآن قد تغير، والتشفي ليس من أخلاق الكرام، بل إن العفو عند المقدرة والتسامح هو من أرقى وأرفع وأسمى الأخلاق النبيلة التي يحثنا عليها الإسلام، ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، فقد قال لأهل مكة بعد الفتح، وهم الذين آذوه وعذبوه وأخرجوه منها ـ قال لهم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وأحب أن أؤكد هنا على أن معركة مصر ليست مع الماضي، وإنما هي مع المستقبل وتحدياته الخطيرة، فمعركتنا الحقيقية هي بناء مصر الحديثة العصرية العادلة الديمقراطية الرائدة عربيا وإقليميا ودولياً.

8.    أؤكد دعوتي للتسامح مع الرئيس مبارك ومع النظام السابق إلا أنه ينبغي إرجاع الحق إلى أصحابه، فهذا هو العدل، فيجب إرجاع أموال الشعب المصري إليه فورا، بمعنى أنه يجب أن يكون هناك محاسبة دقيقة للأموال الطائلة والثروات الهائلة التي كوَّنها رموز النظام السابق بدءا من الرئيس وزوجته وأبنائه وكل رجال السلطة ورجال الأعمال، فلا بد أن يطبق على الجميع قانون: "من أين لك هذا؟" وأن يخضعوا لمحاكمة عادلة بكل شفافية وعدل وإنصاف، لرد المظالم إلى أصحابها وإرجاع الحق لأهله، فبكل بساطة يفترض أن يكون هناك إقرارات الذمة المالية لكل مسئول، ومعروف دخل كل شخص وما قام به من أعمال أثناء شغله للمنصب العام، فيجب أن تخضع ثروات جميع هؤلاء للحساب والمراجعة الدقيقة، ويجب أن تعود فورا لخزانة الدولة أية أموال تم اكتسابها دون وجه حق من خلال استغلال النفوذ أو الفساد والرشاوى والاختلاس، أو خراب الذمم والضمائر وسرقة عوائد بيع القطاع العام، أو تلقي عمولات وهبات حرام مقابل تيسير بيع ممتلكات الدولة بأسعار زهيدة وأثمان بخسة، أو عن طريق السرقة المباشرة وغير المباشرة لأموال الشعب، ونهب ثرواته بأي طريق كانت... يجب أن تعود كل هذه الأموال فورا لخزانة الدولة، ويعلن ذلك بكل شفافية وبكل وضوح لجموع الشعب؛ ليكون درسا رادعا لمن توسوس له نفسه ويزين له شيطانه أن يخون الأمانة ويسرق ثروات الوطن أو يستولي عليها دون وجه حق!!

هذا والله تعالى أسأل أن يحفظ مصر وأمنها، ويعز أهلها، ويصونها من كل مكروه وسوء، ويبقيها حصنا منيعا ودرعا قويا لأمتها ووطنها، ويحميها من الوقوع في شباك أية خديعة أو مكيدة محلية أو دولية تريد أن تلتف على ثورة شعبها، وتسرق جهود شبابها وتغتال أحلامه وحقوقه من جديد، وتسعى لجلب نظام مستنسخ من النظام السابق تكون مهمته فقط موالاة الغرب وخدمة مصالحه ومصالح إسرائيل، ولو على حساب مصالح الشعب المصري الصبور المكافح، وكبت حرياته وإهدار طاقاته ومنعه من تحقيق أية منجزات حضارية له ولأمته، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21]. 

                

 * كاتب إسلامي مصري