لن أستطيع النوم بعد الآن

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

جدولين من ماء ارتسما على خدودي , إنهما يتدفقان بغزارة , كلما حاولت إيقافهما , أراهما أمامي , فيزيد تدفق الماء , ويقوى تدفق نبعيهما , منذ أربعة أيام ويطل الخامس علي , لم أستطع لحظة أخلد فيها لراحة مؤقتة تخفف عني آلامها , هي جريمة نفذت بدماء باردة , هي جريمة تشابهت مع آلاف الجرائم قبلها وبعدها , ولكن هذه الجريمة وقعها أشد بكثير , لأن الذي يرويها يقسم بأيمان غليظة أنها وقعت هكذا , وهو ممن اشتركوا فيها

القصة باختصار

جاءت الأوامر لوحدة عسكرية سورية أثناء مذبحة حماة , سنة 1982 باعتقال أحد الشباب في حماة , ذهبت الوحدة العسكرية واقتحمت البيت , في منتصف الليل , ووجدت في البيت الأم وأطفالها , وهم في حالة من الخوف لا يتصورها ولا يحس فيها إلا من وقعت عليه تلك الحالة

يسأل رئيس الدورية الأم أين ابنك فلان ؟

 فتقول ليس عندي ابن بهذا الاسم , وإنما عندي ابنتي اسمها يتشابه مع الاسم , ووجدوا شابا في البيت عمره أربعة عشر عاما , كان يقرأ في كتب المدرسة استعدادً للامتحان غدا

اتصل رئيس الدورية بالضابط المسئول , وذكر له أن المشتبه فيه هو فتاة صغيرة لا يزيد عمرها عن أحد عشرة سنة , فقال لهم اعتقلوا الشاب والفتاة , وأتوا فيهما إلى هنا

فليتخيل كل شخص من البشر , موقف الأم في هذه اللحظة , موقف ذلها وانكسارها , موقفها أمام أبنائها وهي تناشد في المجموعة ضمير إنسانيتهم , كيف كانت تبوس أحذيتهم رجاءاً لكي يتركوا الصغيرة البريئة , ويأخذوها مكانها , وأن ابنها الرقيق الناعم والذي لم تنبت لحيته بعد , أنه براء من أي شيء ولم يتخطى حاجز القانون ولم يفعل شيئاً لكي يقتادوه

طبعا لم يؤثر الرجاء والدعاء والتوسل في قلوب صنعت , في مدرسة نظام لم يعرف للبشرية في إحساسه وشكله وتصرفاته ما يمت للبشرية بصلة لا من قريب ولا من بعيد , وحتى لو تصورنا تلك المدرسة التي نشأت في قيادتها للشياطين نفسهم , فحتى الشياطين تتبرأ منها ومن أفعالها

اعتقلا الشقيقان وقيدا في السيارة , وهما في الطريق إلى المقر , مقر الوحوش والشياطين الخارجة من الجحيم وأبناء الجحيم , ليتصل الضابط الذي نشأ في هذا الوطن , وتعلم على حسابه وصار ضابطا بماله ليكون درعا للوطن , يقول لآمر الدورية اقتلوا الشاب , وأبقوا على الفتاة

شاب أبيض اللون  نبتت شعيرات شقراء في لحيته , جميل هادي ء تظهر على ملامحه النعمة والسكينة والتربية الصالحة , يوضع على تله معصوب العينين , ويرمى من قبل جنديين بستين طلقة متوالية , وهو يقول الله أكبر

وبعد فترة يصل الأمر الثاني اعدموا الفتاة

تعدم الفتاة يتفقد الضابط تنفيذ المهمة , يلاحظ  جسد الشاب أنه ما يزال ينتفض , يضع في رأس الشاب عدة طلقات , وينظر لجسم الفتاة , كانت قد ذهبت ورحلت من دنياها

كانت الجزيرة تعرض في إعلاناتها , ذلك الجندي الصهيوني , والذي يحاصر الفتاة الفلسطينية , الصغيرة والطفلة البريئة , مشهراً سلاحه باتجاهها , ويرميها في مكانها , فقط من أجل القتل وتنفيس  الحقد المعشش في داخله , فاليهود يكرهون الفلسطينيون , عدوين لدودين لا تبرئة لذلك الجندي المجرم , وإنما مقارنة بالجيش السوري في مدرسة حافظ الأسد

طفلة بريئة صغيرة بيضاء , حورية صغيرة من حوريات الجنة , إنني أتخيلها قبل الإعدام وبعد الإعدام , إنني أراها أمامي تسألني أنا تسأل كل إنسان في الكون , تسأل حتى رب السماء :

 أنا خلقت لماذا ؟

وهؤلاء من خلقك يريدون قتلي لماذا؟

حتى أنا لا أعرف معنى الموت ولا معنى القتل

آمنت بك يا رب كما قيل لي

فشكلي إنسانة , وألعابي مازالت إلا قطة ودمية صغيرة وزهرة

أنا لا أعرف كيف يكون القتل , أنا لا أقتل نملة ولا أدوس على زهرة , وأحب أمي وأخوتي وأبي وأحب كل الناس

كيف لهذه الرصاصة أن تشعر برقة جسدي , حتما ستخترقه ولكنها لن تشعر فيه  لأنه مازال هلاميا

وهل صحيح الرصاصة ستقتلني ؟

 وما هو معنى القتل ؟

 وما هو معنى الموت ؟

وتلتقيا الروحان البريئتان في صعودهما للسماء

حتما يتحدث الأخ مع أخته ويضمها لروحه , ويبكي عليها وهي تبكي

من ذكريات انقطعت بجريمة نفذت عليهما , بحبال من الود والرحمة كانت تجمعهما بأحبابهما وأصدقائهما والدنيا التي ولدا فيها

هل صحيح أنهما ارتاحا من ألامهما , أم أنهما حرما من الحياة ولم يذوقا منها طعم شيء

أكتب قصتهما بدموعي , وأكاد أختنق , تشد أوتاد رقبتي على , أحس فيها بحبل يشد على رقبتي , يريد أن يزهق روحي لتلحق فيهما أينما كانا

ويعتريني شعور آخر عن رجال مدرسة الشياطين , فمن أي صنف أو فصيلة هم ؟

فلو قلنا من فصيلة الحيوان , لكنا ظلمنا الحيوان بذلك , نظراً لأن الحيوان لا يقتل إلا دفاعا عن نفسه , أو من أجل طعامه حتى يحافظ على حياته , والحيوان المفترس لا يأكل  فريسة من فصيلته , بينما من قام في هذه الجريمة , لم يقتل دفاعا عن نفسه , ولم يرتكب جريمته , من أجل طعام ينقذه من الموت ,

فمن أي فصيلة هو إذاً؟؟؟؟!!!!!!!

حتما من فصيلة البشر , لأن أشد المخلوقات إجراما وفتكا هم البشر , وأشر خلق الله تجده فيهم , فمنهم من يقتل للمتعة في القتل , ويعجبه منظر الدم ويتلذذ في شربه , ومنهم من يقتل هرجاً ومرجاً وتسلية , والقليلون منهم يقتلون بحق لشخص يستحق القتل على قتله ظلما لآخرين من الناس

فكيف يكون لأمة عز وزهو ومكانة بين الأمم , وفيها هذه المدارس , والتي وجدت من يحييها ويدافع عنها ويلبسها بأثواب الزينة والفخار , ويحيطها بجميع أنواع وبحور الشعر , والنياشين والأوسمة ويرفع فيها عنان السماء وينافس فيها خالق الأرض والسماء ؟

فحتما هذا الضابط المناضل , أصبح في مكان مرموق في قيادة المدرسة الموروثة , من الأب القائد الخالد إلى الإبن القائد الناصع , إلى قائد تلك الأمة وتاجها , والذين تربوا في مدارس الشياطين

فمتى يستطيع من تبقى ممن هم خارج تلك المدرسة , والذين لم يتربوا فيها ونفروا منها , وإنما كانت تربيتهم في مدارس العزة والنخوة والكرامة , أن تلد من رحمها رجالاً ينسفون مدارس الشياطين , ليحل محلها العدل والحرية ومحاسبة المجرمين ؟

حتى تهنأ روح الفتاة تلك وشقيقها , في أن دماؤهم البريئة , وجد من ينتقم لها في الدنيا قبل الآخرة

أم مازال الوقت طويلا أمامنا في القول والهتاف بالروح بالدم نفديكم يا رجال وأبناء مدارس الشياطين , فخذوا أموالنا واقتلوا أبناءنا واحرقونا , ولكن المهم هو أن تبقوا أنتم الأسياد

فلن تهدأ ي يا دموعي حتى يأتي ذلك اليوم , والذي نقول فيه لأمثال هؤلاء

لقد حان دوركم فاذرفوا دموعكم أنهاراً , لن نرحمكم ولن تكون لكم مكانة في الدنيا بيننا , فلم ترحمونا عندما استوليتم علينا.