إضاءات على الثورة التّونسية
إضاءات على الثورة التّونسية
صلاح حميدة
في الوقت الذي لا زالت تفاعلات وفعاليات الثورة التونسية مستمرة حتى الآن، لا يزال أنصارها قلقين عليها من المؤآمرات التي تحاك ضدها من الدّاخل والإقليم والخارج، ومن محاولات اختطافها من قبل مجموعة من الانتهازيين، وفي نفس الوقت لا يزال ( تسونامي ) الرّعب من هذه الثورة يجتاح الأنظمة العربية الرسمية، من أن يلحقوا ببن علي وزبانيته في لمح البصر، ولا زال هؤلاء حتى الآن يمنّون النّفس بعدم إمكانية انتقال الثورة إلى بلدانهم، أو يلتزمون الصّمت وكأنّ شيئاً لم يحدث على الإطلاق، أو يقومون بإجراءات (ترقيعية ) لكسب ودّ الشعب على وجه السرعة، أو يعتبرون أنّ محاولات نقل الثورة إلى بلادهم غير ممكنة أو ( كلام فارغ) كما قال أحدهم.
فالشعوب العربية تعيش ظروفاً مشابهة لتلك التي يعيشها التّوانسة بشكل عام تحت حكم بن علي، فالأنظمة المتحالفة مع الغرب ، والمعادية لطموحات وتطلّلعات شعوبها هي نفسها ، ولو بنسب تختلف من نظام إلى آخر، ويظهر هذا جليّاً على أرض الواقع ولا يحتاج إلى الكثير من التفصيل. ولذلك فإمكانية انتقال الثّورة إلى الكثير من الدّول العربية الأخرى ممكنة إلى درجة كبيرة، وهي تحتاج لنّضوج ظروف الثّورة وشرارة انطلاقها فقط.
الرّسمية العربية وأجهزتها الأمنية كانت تنظر للنظام التونسي كما ينظر الطّالب لأستاذه، وهذا يفسر الرعب والزّلزلة التي لا زالت تصيب هذه الأنظمة -ومن يدعمها في الغرب والدّولة العبرية- من التّداعيات المحتملة للثورة التّونسية على الواقع العربي والإقليمي وحتى الدّولي، البانيا كمثال .
منذ انطلقت الشّرارة الأولى للثورة التّونسية كان العامل الفلسطيني حاضراً فيها، وكان الاتحاد العام للشغل في سيدي بوزيد يضع العلم الفلسطيني على منصّة المتكلمين والمحرّضين على الثورة، وكان الشّهداء يلفّون بالعلم الفلسطيني مع العلم التّونسي، وهذا يعطي إشارة واضحة عن الإرتباط الوثيق بين تحرر الشعوب العربية من أدوات الغرب الاستعماري وبين التحرر من الاحتلال فلسطينياً، قد يفسّر بعض الناس هذا التّصرف ورفع العلم الفلسطيني بأنّه نوع من تسويق الذّات أو غير ذلك، إلا أنّ لرفع العلم الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة التّونسية له دلالة لا تخطئها العين.
بمطالب حياتية، ولكنّه يتعدّى ذلك إلى الحرية والمشاركة السياسية، وأنّ كل الحلول الترقيعية والتّجزيئية التي تحاول بعض الأنظمة العربية إجراءها لن تفيد ولن توقف ( تسونامي الثّورة) وعلى تلك الأنظمة أن تجري إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة حتى لا تلاقي مصير بن علي. ولكن استجابت الأنظمة العربية لمطالب شعوبها أم لم تستجب فإنّ عجلة التغيير بدأت بالدّوران في العالم العربي ولن تتوقف.
بوضعها الحالي للشعوب، بل العكس هو الصحيح، ولذلك على هذه المنظّمات أن تتبنّى المطالب الشعبية للطبقات المسحوقة وتؤطّرها بعمل شعبي جماهيري، وأنّ هذه المنظمات مطالبة بفك الارتباط بشكل نهائي مع الحراك السياسي - المتحكّم به - الذي يديره النظام الرسمي العربي، فهذا الحراك ثبت أنّه إجراء تنفيسي لا فائدة منه، ومن العبث الإستمرار في التّعاطي معه أملاً بتغيير جزئي لن يحدث، ولذلك لا بد من رفع سقف المطالب الشعبية وتأطيرها في عمل لا عنفي شعبي على الطّريقة التّونسية.
في هذا المقام لا بدّ من ردّ الفضل إلى أهله، صحيح أنّ الثورة التونسية استمرت بوقود دماء الشهداء، وجهود ومعاناة وتضحيات الأحياء، ولكن يجب أن يذكر أنّ هذه الثورة تمت قيادتها إعلامياً بفضل المدوّنين وقناة الجزيرة الفضائية، ولا بدّ أنّ النّظام الرّسمي العربي يلعن الساعة التي تمّ فيها التّطور العلمي والتّقني الذي جعل الجزيرة الفضائية تدخل كل بيت عربي، وجعل المدوّنين عبر شبكة المعلومات العنكبوتية يصبحون مراسلين وموثّقين ومديرين للحدث والثّورة، وهذا يفسّر العداء الكبير من قبل هذه الأنظمة للمدوّنين والجزيرة الفضائية على حد سواء. بل إنّ الجزيرة الفضائية كانت من أوّل من قطفوا ثمار الثورة بالانفتاح الإعلامي الكبير الذي تحقق بسقوط نظام بن علي.
السياسية العربية وتطوّرها بشكل إيجابي يخدم التغيير المنشود. فقد أظهرت المعارضة التونسية وعياً عميقاً لدقّة المرحلة، وتداعت للمشاركة والتّعاضد، ولم تتكالب وتتصارع لاقتناص السّلطة والاستئثار بها، إضافةً إلى رفضهم للعنف المضاد والثّأر والإقصاء والانتقام.
هاربين، فقد كانت أوروبا تعتبر الجنّة الموعودة على الطّرف الآخر من المتوسط لدى الشّباب العربي، وكان الشبان يبحرون إليها عبر قوارب الموت بالآلاف، ولكن بعد تفشي نزعة الإسلاموفوبيا والأزمة الاقتصادية العالمية، ورفض تلك الدّول استقبال طالبها وخادمها النّجيب بن علي وعائلته وزبانيته فيما بعد. إغلاق الأبواب أمام الهاربين من العالم العربي من الاضطهاد السياسي والعوز الاقتصادي، مهّد السّبيل أمام مواجهة الواقع والسّعي إلى تغييره من قبل الشباب العربي، وفي نفس الوقت علم إخوان بن علي في النّظام الرّسمي العربي أنّه وهل يفهمون قبل فوات الأوان؟.
العبرة لمن يعتقدون أن دولة الظلم ستستمر إلى قيام السّاعة.
بيّنت الثّورة التّونسية للشّعوب العربية بأنّ التّغيير لا يحتاج إلى كثير تضحية، فالثّمن المدفوع في الثورة أقل بكثير من الثمن المدفوع بالسّكوت على الذّل والهوان لخمسة عقود، وبالتّأكيد أنّ الشّعب التّونسي أدرك أنّه كان عليه الثّورة منذ زمن بعيد. قامت العديد من الأنظمة العربية بإجراءات إحتياطية وتسهيلات مالية واقتصادية وحياتية لشعوبها تدخل في باب ( الترقيع) وهذا من نتائج الخوف من الثورة التّونسية وإمكانية انتقالها إلى بلدانهم، فإذا كان الخوف من انتقال الثورة دفع لإجراء هذه الإصلاحات، فكيف سيكون عليه الحال لو انتقلت الثورة إلى تلك البلدان؟.
أظهرت ثورة التّوانسة أنّ إمكانيات التّعايش بين الأنظمة السياسية العربية وبين شعوبها مستحيلة، وأنّ طموحات الشّعوب تتناقض بشكل جوهري مع وظيفة هذه الأنظمة التي أصبحت أدوات تنفّذ الإرادة الاستعمارية على حساب واقع ومستقبل تلك الشّعوب، وأنّه لا حل أمام تلك الشعوب إلا قلع تلك الأنظمة من جذورها حتى تشرق عليها شمس الحرّية.
والسرقة والتخريب والحرق أثناء الثورة.
أثبت التّوانسة أنّ إمكانية التّغيير السياسي في العالم العربي بلا دبابات أمريكية وأطلسية ممكنة، وأنّ الشّعب العربي حيّ وبإمكانه الثّورة على الحكام المجرمين على شاكلة إبن علي، وأنّهللفوضى والعنصرية والطّائفية والعنف والتّقسيم والدّمار المؤكد، وكانت التجربة العراقية عبرة قرأها التوانسة بالشّكل الصّحيح، وعملوا وفق قاعدة ( ما حكّ جلدك غير ظفرك).
وهذا يعطي إشارة للشعوب والشباب العربي بتقليد الشّعب التّونسي، الّذي أسقط الدكتاتور ويستمر في اقتلاع الدّكتاتورية، لا تقليد البوعزيزي في حرق الذّات.
يبدي التّوانسة على اختلاف مشاربهم وعياً كبيراً في التعاطي مع تداعيات الثّورة، وهم بحاجة لعمل شعبي ميداني متواصل لتطهير مؤسسات الدّولة والمجتمع من بقايا الدكتاتورية، وهمعلّمتهم بأنّ الحاكم يستبدّ عندما يكثر حوله المنافقون والانتهازيون، ولا يستقيم حاله إلا إذا بقي سيف المحاسبة الشعبية مسلّطاً على رقبته لتقويم اعوجاجه إن حدث.