ثورة الياسمين حكاية شعب يصنع التغيير
محمود المنير
مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت
أربعة أسابيع دامية بعبق الشهداء واصلت الأنفاس المكبوتة تصاعد زفيرها وشهيقها من عبير "ثورة الياسمين" في تونس الخضراء ، وتابعت الأمة بل العالم بأسره عن كثب بأعصاب محروقة مواكب الشهداء تدق أبواب الحرية ، مشهد جديد حرك الرصيد الكامن والمتبقي من نفخة الحرية في أجساد الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية ، وهو يشاهد الشعب التونسي الشجاع يصوغ الثورة ويصنع التغيير ويقدم النموذج للأمة بأسرها.
لكن للقصة حكاية وبداية بدأت سنة 1987م ، وموعد جديد لشعب ذاق ويلات القمع من الحقبة "البورقبية" مع التغيير، حيث بلغ الرئيس بورقيبة من العمر عتيا، دخلت البلاد في مرحلة فوضى وحالة ما قبل الثورة.
كانت الحركة الإسلامية الأكثر حضورا في المشهد التونسي وعددا وتنظيما على الساحة، رغم الإقصاء القسري لها من سلطة بورقيبة، وكان الداخل والخارج ينتظر حدوث تغيير على يد الإسلاميين، في ظل تخبط سياسي وخوف من سقوط البلاد في فوضى عارمة!!
ولكن في يوم 7 نوفمبر استفاق التونسيون على صوت عبر الأثير يعلن تنحية الرئيس السابق لأسباب صحية ووقع الانقلاب الأبيض من داخل القصر ولم يعلم الشعب أن القدر يخبئ له حقبة سوداء سُوق لها بأنها ثورة بيضاء!!
أقسم الرئيس الجديد "زين العابدين بن على" على المصحف بأنه سيفتح عهدا جديدا للتونسيين ليعيشوا حياة الرفاه ،وغلظ العهود كمشهد الأمس في خطابه الأخير..لا رئاسة مدى الحياة ، سنكافح الفساد ، وتزدهر البلاد ، ستشهدون عهدا ترتقون فيه منازل الحرية وتنعمون فيه بكرامة الإنسان !!
لم يمر عامان حتى دخلت تونس الخضراء عهد السنوات العجاف وقيدت في نفق مظلم وحكمت بسياسة الحديد والنار، ضُربت الحركة الإسلامية وشُردت واستؤصلت، عشرات الآلاف من الأسر تم إفقارها، وطُبقت خطة شيطانية صهيونية لتجفيف منابع التدين في البلاد، وواكبها تكميم للحريات وأسدل ستار حديدي على حدود تونس لو استطاع أن يمنع الهواء عن الشعب لفعل .
ثلاث وعشرون سنة تجرعت مرارتها تونس رُفعت فيها لافتات النجاح الاقتصادي بينما الواقع كان يئن من البؤس والفقر والحرمان وغياب الحريات وتواصل الاعتداء على حقوق الإنسان وسط تعتيم إعلامي مطبق.
وبعد كل هذه السنوات العجاف وبعدما فاض الكيل من تفشى الفساد وانتشار الفقر والبطالة وكبت الحريات وتغول أصهار الرئيس وجوقة من الأسر الفاسدة التي تحولت إلى ما يشبه المافيا التي أرادت أن تسرق من تونس حاضرها وكل مستقبلها جاءت بداية النهاية بشعلة نار متوهجة لشعلة الثورة ولكنها كانت في جسد الشاب محمد البوعزيزى .
وتسارعت الأحداث في تونس بشكل غير مسبوق، فإذا بالدماء تسيل والشهداء يتساقطون والنظام القمعي يمطر الشوارع والأحياء والولايات بالرصاص ، وبدأت انتفاضة الشعب المكلوم .. ثورة جديدة ملأت أنظار العالم عبر كل وسائل الإعلام والاتصال الحديثة ، شعارات ترفع، رموز تسقط، ، ودماء تسيل، وتابع العالم - كل العالم -عن كثب الشعب التونسي وهو يكتب تاريخه من جديد وينسج خيوط النهار لأبنائه بلافتات مطالب التحرر من هذا النظام التعيس ويلونها بدماء الشهداء.
وقدم الشعب التونسي صورة للشعوب العربية إذا انتفضت فإنها لا تقهر، هكذا جسدته صدور الشباب والكهول، الرجال والنساء حين تصدت لغرطسة القوة ولهيب الرصاص.
دخلت الثورة كل بيت في تونس الجريحة ، ولم تنطفئ حتى غادر الرئيس السابق البلاد، تاركا الأمر مفتوحا على المجهول بعد أن روّى أرضها بدماء شعبها الزكية.
وحملت ثورة الياسمين المضرجة بدم عشرات الشهداء دروسا لن يمحوها التاريخ ولعلها تكون حاديا لكل الشعوب العربية على طريق الحرية .
ولعل الدرس الأول ، الذي علمتنا إياه "ثورة الياسمين" أنها جددت وأكدت مقولة أن للحرية ثمنا، والتونسيون دفعوا ثمنها باهظا جدا، أكثر من مائة شهيد ، ومئات من الجرحى وعشرات الأسر المنكوبة .
أما الدرس الثاني، فهو أن الإصلاح والتغيير لا تمنحه الأنظمة لشعوبها بل تنتزعه الشعوب انتزاعا ووعي الشعب وثقته في نفسه هو وقود الثورة.
أما الدرس الثالث ، فهو وعي الشعب بطبيعة الاستبداد ومداخله ومن أين يؤتى بنيانه ، فقد حسمت الشعب التونسي أمره، وحدد هدفه وهو رئيس البلاد وحاشيته ونظامه، والعمل على تنحيته.فإذا سقط الرئيس فإن أركان النظام الفاسد سيتداعي وينهار.
أما الدرس الرابع ، فهو التشبث بالمطالب ووضوح الهدف، وعدم قبول أي مساومة أو حوار أو أنصاف الحلول، أو تريث يعطي للاستبداد لحظات من الراحة يستعيد فيها أنفاسه، فالتصعيد كان السمة التي برزت من خلال الأحداث، والتي جعلت الاستبداد يُصعّد درجات الترويع فيقع في فخ التصعيد ولا يتورع عن قتل الأبرياء .
وختاما : فإن الشعب التونسي مازال أمامه مشوار طويل ، يتطلب درجة وعي قصوى من الجماهير التي يجب أن تعلم أن ثورتها لم تنته، وأن هناك من يحاول أن يسرق حلمها ويستحوذ على ثورتها .
ينبغى على الجماهير التونسية عدم مغادرة الشارع ، ففيه ولدت الثورة وفيه تتحدد معالمها ونهايتها حتى لا يتم الالتفاف على ثورتها ، وعلى النخبة المثقفة والحركة الإسلامية الواعية أن تلتحم بشعبها، وتكون في مستوى مطالبه وتضحياته.
إن ثورة ياسمين التونسية تستحق أن نقدم لها أسمي آيات الاعتزاز والتوقير والافتخار فلقد تعطرت بريح الشهداء في الجنة وتسربلت بعبق دمائهم المنسابة على مرمى قصور قرطاج ، فما أروعها وهى تهتف أبيات شاعر بلادها الحر :
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ .. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي .. وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر