ولا بد للقيد أن ينكسر

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

قبل سنوات عاد من تونس صحفيّ أفّاق ، قال إن ما أعجبه في تونس الخضراء هو عدم وجود محجبات في كلية الآداب التي زارها ، وفي الشارع التونسي أيضا . وراح الكاتب الذي يدعي التقدمية والاستنارة يشيد بالنظام البوليسي الفاشي في تونس وخاصة فيما يسميه مكافحة الإرهاب – أي الإسلام !

بالطبع لم يلفت نظر الكاتب المذكور ما يمارسه النظام التونسي الموالي لفرنسا وأميركا واليهود الغزاة من قمع للشعب التونسي المسلم ، وإدخال الأحرار إلى السجون أو نفيهم خارج بلادهم وتشريدهم هنا وهناك ، وتحريم الحرية على الكتاب والمثقفين ، ولم يلفت نظر الكاتب المذكور ما يصنعه الأقارب اللصوص من نهب لأموال الشعب التونسي البائس ، وتهريبها إلى الخارج ، وبالطبع لم يتحدث الكاتب التقدمي المستنير عن القمع الدائم للإسلام والمسلمين ، ومحاربة النظام التونسي للإسلام واستئصاله كي يرضى عنه سادته في باريس وواشنطن ولندن ، فالكاتب المذكور من أنصار استئصال الإسلام ، واستئصال الإسلام هو شارة المرور لدخول الحظيرة الثقافية في مصر والعالم العربي ، والاستفادة من الخيرات التي تمنحها وزارات الثقافة المعادية للإسلام لمن يقومون بالمهمة غير الطيبة في تشويه الإسلام والتشهير به والدعوة إلى إلغائه بصورة وأخرى .

نظام تونس أعلن ولاءه للغرب الاستعماري الصليبي منذ عهد السيد الأول " الحبيب بورقيبة " ، حيث حرم الصيام في رمضان ، وحرم الصلاة في المساجد إلا بإذن أجهزة القمع المتوحشة ، وخصص مساجد لصلاة الجمعة بموجب بطاقة ممغنطة ليعرف من يصلي ويواظب على أداء الجمع ويضعه في خانة المطلوبين ، وأفتي علماء السلطة وفقهاء الشرطة هناك بأن صلاة الجمعة يمكن أن تؤدى مع صلاة العصر حتى لا يتوقف دولاب الإنتاج والعمل ، فضلا عن تحويل جامعة القيروان أقدم الجامعات الإسلامية في التاريخ إلى جامعة علمانية ، لا علاقة لها بتعليم الشريعة والعقيدة ، وإلغاء الإسلام من التعليم والإعلام والثقافة تماما ، ثم راحت السيدة الأولى في تونس الخضراء تغير التشريعات والقوانين الخاصة بالأحوال الشخصية ؛ التي تقوم على أساس إسلامي لتكون تونس الخضراء نسخة من بلاد الغرب في تعرية المرأة واستغلالها بوصفها أداة زينة وعنصر إشباع جنسي رخيص من خلال الأعمال الوضيعة والدعارة والأفلام الإباحية باسم الحرية والاستنارة .

سيدة تونس الأولى التي كانت تعمل كوافيرة وتزوجها فخامة الرئيس بن على زوجة ثانية لتنجب له ولدا ؛ حرّمت تعدد الزوجات وحرّمت الطلاق ، من خلال إصدار قوانين صوت عليها المجلس التشريعي الموالي للنظام المستبد ، وانطلقت في غزواتها التجارية مع أقاربها لنهب أموال الشعب التونسي المظلوم ، وقد وثق ممارساتها الصحفي الفرنسي "نيكولا بو" في كتاب أصدره تحت عنوان "ليلى بن على،متسلطة قرطاج ".ويروي فيه تفاصيل كثيرة لتسلط سيدة تونس الأولى وعمليات النهب التي تمت بمعرفتها بوصفها الحاكم الذي لا يرد له أمر . كما يكشف كيفية تحولها من سيدة متواضعة كانت تعمل في صالون للحلاقة في تونس العاصمة إلي أقوى امرأة في البلاد تمسك بأيديها كل خيوط اللعبة السياسية . ويشير " بو" إلى أن السلطة التي تملكها ليلى بن علي تعد أقوى من تلك التي يخولها الدستور لرئيس الحكومة التونسي. فهي بإمكانها مثلا أن تعين وزيرا أو سفيرا بيدها اليمنى ثم تدفعهما إلى الاستقالة بيدها اليسرى،كما يمكنها أيضا أن تزج بمسئول ما في السجن وتطلق سراحه بعد لحظات قليلة فقط. بعبارة أخرى،فهي تمتلك حق الحياة والموت على جميع التونسيين.وليست ليلى بن علي الوحيدة التي تملك مثل هذا الحق؛ فأقاربها وعائلتها استفادوا هم أيضا من نفوذها داخل النظام السياسي. ومن أبرز العائلات التي تسيطر على ثروات بلد الياسمين،عائلة طرابلسي وعائلة ماطري اللتان تمتلكان العديد من الشركات في قطاعات شتى ومحلات تجارية ومدارس خاصة وعمارات في أحياء تونس الراقية ؛ وعملت السيدة ليلى جاهدة ،كما يذكر الكاتب، على إيجاد خليفة لزوجها في حال تدهور حالته الصحية ، أو حال وفاته.ورأى الصحفي الفرنسي نيكولا بو أنه كان أمام متسلطة قرطاج خيارات كثيرة وأسماء عديدة جاهزة لتحمل المسؤولية والحفاظ على مسيرة النظام المتهالك .منها :عبد الوهاب عبد الله وزير الشؤون الخارجية الحالي وعبد العزيز بن ضياء الذي يشغل منصب مستشار الرئيس والهادي الجيلاني زعيم أرباب العمل التونسيين إضافة إلى كمال مرجان وزير الدفاع الذي يملك علاقات جيدة في الدوائر العسكرية الأمريكية والشاب صخر الماطري. والعامل المشترك لكل هؤلاء هوولاؤهم الكامل لسيدة تونس الأولى واستعدادهم الكامل للعمل بإخلاص وفقا لأجندتها الخاصة.

كتب بو كتابه ، والنظام في عز هيمنته وسيطرته وقمعه للشعب المظلوم ، حيث لم يكن يتوقع أن يتحرك الشعب المظلوم ،ويزلزل كيان الحكم الاستبدادي المعادي لله ورسوله والحرية والوطن . لو شهد بو ما يحدث الآن في تونس المجاهدة ضد الطغاة ووكلاء الاستعمار واليهود ، وسقوط الشهداء في مدن تونس كافة - زاد عددهم عن ستين شهيدا - ورأى الناس قوات النظام العميل المجرم وهي تصوب بلا قلب ولا أخلاق رصاصها تجاه أفراد الشعب المظلوم الذي يطالب بأبسط حقوقه في الحرية والعدل والأمان ، ولكن المجرمين تصوروا أن العصا الغليظة ستحسم الأمور ، وما دروا أن الشعب الذي واجه فرنسا قبل خمسين عاما قادر على أن يواجه وكلاء الفرنسيين الخونة الذي باعوا بلادهم ودينهم وسرقوا الحرية والأموال وظنوا أنهم باقون إلى الأبد ، وأن زوجة الرئيس تعمل على إعداد خليفته المنتظر ..

دماء الشهداء أرغمت الطاغية على الفرار و الخروج بعد الاعتراف الذليل أن مساعديه لم يقدموا له الحقائق ، وبعد أن اتهم التونسيين الثائرين باللصوصية والإرهاب . لقد دعا إلى التفاهم ، وهو الذي رفض على مدى ربع قرن أن يتحدث إلى المعارضين الحقيقيين أو يسمع لهم . لقد قال في ذلة بعد أن رأى الغضب الشعبي : لا رئاسة مدى الحياة ، وأن لجنة مستقلة ستحقق في الأحداث ، وأنه قررا لإفراج عن المعتقلين و تخفيض الأسعار ، وقال إنه أمر بوقف إطلاق النار على المواطنين المحتجين.. ولكن كان يكذب ، وكانت عصاه الغليظة تتحرك بعد أن توقف خطابه ، واستمر مسلسل القتل للمتظاهرين بلا تمييز ، و استمر الشعب في الثورة والاحتجاج من أجل إزاحة الطاغية وأعوانه وكلاب حراسته من الأبواق الكاذبة والمثقفين الخونة ، واستمر الشعب في الثورة والاحتجاج من أجل إقامة دولة على أساس من الحرية والكرامة والعدل ..

لوحظ أن الغرب الاستعماري الذي يبادر إلى الحديث عن حماية النصارى في الشرق الأوسط ، وعن المدنيين اليهود في فلسطين المحتلة ، وعن ضرورة دعم الديمقراطية في إيران ، لم يتكلم أبدا عن حقوق المواطنين التونسيين المسلمين ، ولم يقل للطاغية إنك تعتدي على حقوق الإنسان ، ولم يقل له إن الشعب التونسي يستحق الحرية والشورى والعدل ، ولم يشر إلى أن الدماء التي يسيلها الطاغية هي عمل إجرامي يستحق العقاب .. وكان من المفارقات أنه رفض استقبال طائرة الطاغية الهارب من شعبه ومن القصاص العادل .. !!

ويبدو أن الغرب الاستعماري الصليبي يحرص دائما على إبقاء وكلائه وسماسرته إلى آخر لحظة طالما كانوا يستأصلون الإسلام ويسحقون المسلمين ، ولو كان ذلك على حساب الأخلاق والقانون والأعراف .. و يبدو أن الشعب التونسي أفسد المعادلات الاستعمارية القائمة ، وصنع معادلات جديدة أخرى ستقلب كيان المنطقة العربية كلها رأسا على عقب ، وستقول للطغاة واللصوص وكلاب الحراسة من الأبواق وشهود الزور كلاما آخر مختلفا ، ومن المؤكد أن التاريخ التونسي بل العربي ، لن يكون مثلما كان قبل أن يفجر الشاب التونسي محمد بوعزيزة الأحداث في مدينة سيدي بوزيد قبل شهر من الزمان .

لقد تصور الطغاة واللصوص وكلاب الحراسة في تونس أنه طالما كان الإسلام معتقلا ومحبوسا ومشطوبا من الحياة فكل شيء هادئ ، ولكن جاءتهم الضربة القاضية من حيث لا يحتسبون ، جاءتهم من البسطاء ، من عامة الشعب التونسي البسيط حيث يقود ثورة تاريخية - نرجو أن يكتمل الفرح بها – تعيد للإنسان التونسي المسلم وغير المسلم كرامته وحريته وحقه في الحياة .. وصدق الله إذ يقول : " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .. " ( النازعات : 26).

وتحية لشاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي الذي قال شعرا خالدا قبل استقلال تونس الخضراء :

إذا الشعب يوما أراد الحياة          فلا بد لأن يستجيب القدر

ولا   بد  لليل   أن  ينجلي          ولا  بد للقيد أن ينكسر !