وباء بلا فيزا

د. محمد النعيميّ

[email protected]

يحمل الوباء ثيمة متنقلة عبر الزمان والمكان ، ولا يتحدد بجنسية معينة ، ولا يقف عند حدّ مرسوم ، وهو سلاح دمار شامل عابر للقارات ، لا طعم ولا لون ولا رائحة إنسانية له ، يتعطش لسفك الدماء ، ويتمتع برؤية الجثث ، ويتوق لحصد الأرواح ، يدخل نوافذ الجميع بلا استئذان ، ويمنح الخوف والرعب وانعدام الاطمئنان ، إنه وباء عولميّ ، لا يحمل جوازاً ، ولا يركن إلى هوادة .

قد يتوهم القارئ أننا نتحدث عن وباء نقص المناعة المكتسب ( الإيدز ) ، أو أنفلونزا الطيور ، أو أنفلونزا الخنازير ، أو عن مرض ( السارس ) ، ... لا أبداً نحن نتحدث عن شكل آخر من الأمراض ، إنه الجيل الثالث من الأوبئة والطاعون ، إنه مرض ( أنفلونزا العمائم ) !! .

ولد فايروس ( أنفلونزا العمائم ) واحتضن في دولة البدع والفجور ، وعاصمة الحقد والشر الجَسور ، بلد لا يعرف إلا مصادرة الآخر قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً وتشريداً ، بلدة لا تتقن من الخُلُق إلا القشور ، ولا تمارس الدين إلا أهواء وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان ، إنها منطقة الريح الصفراء ، وبلد التخلف والجهل والسوداوية والضبابية والدماء .

مدت أذرعها في البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً ، ولم تكف عن موالاة الخونة والمرتدين والمرتزقة ودعمهم قصداً وغرضاً ، خرجت من مستنقع الأيام والأزمان ، لتدخل عصراً جديداً من الهيمنة والطغيان ، لم تسجل عنها صفحات التأريخ إلا مواقف الخزي والعار ، لأنها تركيبة من المارقين وثلة من الفجار ، ما قصدهم سائل إلا وأصابه البؤس والهوان ، وما ابتعد عنهم الحاذق إلا وسَلِمَ من الكيد والخذلان .

إنها عمائم لا تكف عن تأليف الموسوعات الأسطورية : موسوعة لمنظومة القتل ، وموسوعة لأنظمة التهجير ، وموسوعة لسرقة الثروات ، وموسعة لمعاداة المذاهب الدينية ، وموسوعة للمتعة ، وموسعة لطرائق اللطم ، ... ، ولا شك إنّ هذه الموسوعات أسهمت بشكل كبير في انتشار فايروس ( أنفلونزا العمائم ) الذي لا يبقي ولا يذر ، هدّام هالك للبشر ، إنها طاعون من الأفكار والمسالك ، وسيل من الخرافات والمهالك ، وطوفان خبيث من الأجيال والممالك.

لم نفتح كتاباً واحداً من الإرث الأمميّ إلاّ وحذر من كيدها ، ولم نجلُ مصنفاً واحداً إلا وبيّن حقدها ، إنها صاحبة الفتنة ، ومنبع النقمة ، إنها مصدر كل انشقاق ، ومهد أبي لؤلؤ ومنطلق كل انفتاق ، لا تتحدث معك إلا وتضمر قتلك ، ولا تتحاور إليك إلا وتخفي إهانتك ، تحدد همها بإشاعة فكرها ، وتبين قصدها بمضمار فعلها ، رواد عمائم يخفون أكثر مما يصرحون ، ويحقدون أكثر مما يمنحون ، ويلطمون أكثر مما يفرحون .

استغلت ضعف العالم الإسلامي ، وتراجع الدور العربي ، وأزمة الفكر القومي ، وصمت الرأي العالمي ، فانطلقت يميناً وشمالاً ، غرباً وجنوباً سهولاً وتلالاً ، حشرت أنفها في مصائر البلاد ، فلم تحصد إلا نفور العباد ، لا ينفع معها لغة التهديد ، ولم يفلح العالم معها في الوعد والوعيد .

نفثت سمومها في بلد إسلامي مجاور وأسهمت في تقتيل أبنائه ، وسبي نسائه ، وهدم بنيانه ، واغتيال علمائه ، وبيع أطفاله ، ونهب ثرواته ، والاعتداء على ممتلكاته ، واغتصاب سلطاته ، وتجنيد فيالق من الغدر ، تُعرف عدواناً باسم بدر ، جحافل خائبـة ، وتنظيمات دموية خائرة ، ما سمع أحد عنها إلا واستعاذ من فعلها ، وما رأى إنسان فعلها إلا واستغرب صنيعها .

يا رب يا مجيب الدعاء ، نعلم أن لكل داء .. دواء ، وأن لكل وباء .. ترياق شفاء ، وأن لكل طوفان .. وقفة إيمان وحكمة وجلاء ، وأن التأريخ نزع عنهم قدسية العلماء ، وألبسهم سرابيل الزندقة والجهلاء .

والحمد لله .. فهناك من حمل المجابهة والمواجهة ومقاومة الأعداء ، ولن يهدأ له بال ولن تقر له عين إلا برؤية الضياء ، الضياء المتدفق عزة وكرامة وحرية ومجداً بعد ليل بهيم وعتمة مساء . ( وَلَا تَحسبنَ اللهَ غَافلاً عَمَّا يَعملُ الظّالمونَ ) .