الانتخـابات شهادة

خالد أحمد الشــنتوت

الانتخـابات شهادة

خالد أحمد الشــنتوت

ينبغي أن يعرف الناخب المسلم عندما ينتخب مرشـحاً مـا ؛ فإنه يشهد لـه بأنه كفء لهذه المهمـة التي انتخبه لها ، كما يشـهد له أنه أفضل من ترشــح لها في دائرة انتخـابه ، وهذا بالطبع يتطلب من المرشح أن يكون :

- عالمـاً بالمهمـة التي ينتخب لها ، فإذا كان الانتخاب لعضوية مجلس الأمة ، يجب على الناخب أن يكون عالمـاً بمهام وواجبات عضو مجلس الأمـة ، وما دوره في المجتمع ، وما أهميـة هذا الدور ؟ عندئذ يسـتطيع أن يقارن الناخب المسلم بين صفات المرشحين ، وبين واجبات هــذه المهمــة ، ويـعرف من منهم تتوفـر فيه الصفات اللازمة لهذه المهمـة ، وعندئذ تكون شهادته صحيحـة وذات معنى .

2- عالمـاً بصفات المرشحين لهذه المهمة ؛ كي يقارن بينهم ، ويعرف الأفضل منهم والأرضى للـه ورسوله فـينتخبــه أو يشــهد له بأنه هو الأصلح لهذه المهمة ، وعندئذ تكون شــهادته صحيحـة ، وموافقـة للشـرع ، وذات معنى .

يقول الدكتور صلاح الصاوي ( في كتابه تطبيق الشريعة الإسلامية ص 175) : فهذا الاختيار يتضمن تزكية وشهادة بأن هذا المرشح قد اجتمعت فيه القـوة والأمـانـة اللازمـة لأداء هذا العمل ، فهو أرضى المرشحين للـه ورسوله ، وأقومهم بتبعات ومهام العمل النيابي ، لذلك فهو أجدر من غـيره بأن يقـدم لـهذا الـموقــع ـ وأن تبذل له الأصوات التي تمكنه من الحصول عليه حتى يضطلـع بـأداء هذه الأمانـة ..

ولا يخفى أن أمـر الشـهادة أمـر جلل ، فقد شـدد النبي r في شـهادة الزور وقال: [ عدلت شهادة الزورالإشراك باللـه ، وتلا قول اللـه تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] ، وجعلها r من أكبر الكبائر فقال : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً : الإشراك باللـه ، وعقوق الـوالدين ، وشهادة الـزورأو قول الزور، وكان رسول اللـه r متكئاً فجلس ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته ســكت ] (صحيح مسلم بشرح النووي 2/81) .  والزور كما قال التعالبي المفسر أبو إسـحق وغيره أصله : ( تحسين الشـيء بخلاف صفته حتى يخيل لمن سـمعه أو رآه أنه بخلاف ما هـو به ، فهو تمـويـه الباطـل بما يوهم أنـه حـق ) .

فالانتخاب إما أن يكون شـهادة حـق ، أو شــهادة زور ، فإذا تحققت شروط الناخب ، وأدى الشهادة كما يرضي اللـه ورسوله ، وأعطى صوته للمرشح الآرضى لله ورسوله فهو شــهادة حـق يثاب عليها إن شاء اللـه تعالى ، وعلى كل عمل خير يقوم بـه هذا المرشح بعد فوزه بعضوية مجلس الأمة ... أما إذا كانت شـهادته غير صحيحة وأعطى صـوته لمرشـح ليس كفئاً ، ويوجد بين المرشحين من هو أرضى منه للـه ورسوله ، فهذا الانتخاب شــهادة زور والعياذ باللـه ، وقـد ســبق تشديد الوعيد لشهادة الزور ، وأنها تعدل الشرك باللـه .

 

واسـألـوا أهـل الذكـر :

أما إذا كان المرشح لايقدر على أداء الشهادة صحيحة ، كأن لايعرف المرشحين ، فيتعين عليه أن يسأل العلماء الذين يثق بدينهم وعلمهم (الشرعي والسياسي) ؛ ليعرف من هو الأرضى للـه ورسوله فيقدم لـه صوته ، تماماً كما يفعل عندما يشكل عليه أمر في صلاته أو صومه أو زكاته ؛ فإنه يلجأ إلى العلماء يسألهم عنـه ليؤدي عبادتـه على وجهها الصحيح ، ومناصرة المشروع الإسلامي في المعركة الانتخابية ، وتقديم الصوت الانتخابي لمن يستحقه ، وبتعبير آخر ، آداء الأمانات إلى أهلها عبـادة أيضاً ، ويتطلب من المسلم الغيور على دينه وآخرته ؛ أن يتحرى الدقة في أداء هذه الأمانة وتسيلمها إلى صاحبها .

 

فقـــه الشــــهــادة

الشهادة مصدر شـهد يشـهد ، قال الجوهري: الشهادة خبر قاطع ، والمشاهدة المعاينــة ، مأخوذة من الشـهود أي الحضور ، لأن الشاهد مشــاهد لما غاب عن غيره ( فتح الباري ، كتاب الشهادات ) .

(والشـهادة مشــتقة من المشــاهـدة ، لأن الشـاهد يخبر عما شــاهده، وهي الإخبار بما عـلمه بلفظ أشهد أو شهدت ) ( الروض المربع 3/ 415 ) ( .. ولا يحل أن يشهد إلا بما يعلمه لقول ابن عباس: سئل النبي r عن الشهادة فقال : [ ترى الشمس ؟ قال نعم ، فقال : على مثلها فاشهد ، أو دع ] ( رواه الخلال في جامعه ) والعلم إما برؤية أو سماع من مشهود عليه ، كعتق وطلاق وعقد فيلزمه أن يشهد بما سمع .. وشروط من تقبل شهادتهم سـتة : البلوغ والعقل والكلام ( فلا تقبل من أخرس لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين ، إلا إذا أداها الأخرس كتابة - والإسـلام - فـلا تقبل من كافر ، ولو على مثله إلا في سـفر على وصية مسلم أو كافر ، والحفــظ ، وأخيراً العــدالة : ويعتبر لها الصلاح في الدين كأداء الفرائض واجتناب المحارم ، واستعمال المــروءة كالسخاوة وحسن الخلق والمجاورة واجتناب ما يدنسـه ويشــينه... ولا تقبل الشهادة على الشهادة ( شهادة السماع ). ويحكم بها إذا تعذرت شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أوغيره ، ولا بد من ثبوت عدالة شاهد الأصل وشاهد الفرع، ولايجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول شاهد الأصل للفرع : اشهد على شهادتي بكذا ، أو اشهد أن فلاناً أقر عندي بكذا أو نحوه ، ولئن لم يسترعه لايشــهد، لأن الشهادة عـلى الشهادة فيهـا معنى النيابــة ، ولا ينوب عنـه إلا بإذنه ، إلا أن يسمعه يقر بها ( أي سمـع الفـرع الأصل يشــهد بهـا عند الحاكم . ) ( الروض المربـع ) .

وقد حذرنا رسول اللـه r من زمن يتسرع الناس في الشهادة دون تثبت ، فقد روى عمران بن حصين t قال : قال النبي r [ خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم - قال عمـران : لا أدري أذكر النبي r بعد قرنين أو ثلاثة - قال النبي r : إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون ، ويشـهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم الســـمن ] (البخاري ، ك الشهادات رقم 2651) . وفي رواية [ ... ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ..] (رقم 2652) .

والأصل في الشهادة المشــاهدة فعن طاووس عن ابن عباس t قال : ذكر عند رسول اللـه r الرجل يشـهد بشــهادة فقال : [ أما أنت يا ابن عباس فلا تشـــهد إلا على أمـر يضيء لك كضياء هذه الشـمس ، وأومـى رسـول اللـه r بيـده إلى الشمس] ([1]). وفي الحدود لابد من المشاهدة ، كما في الشهادة على الزنا ، لابد من أربعة شـهداء شـاهدوا بأعينهم العملية الجنسية بينهما ، وهذا لايتأتى إلا عند المجاهرين بالمعصية والمتباهين بها كما هو حال نوادي بعض الكفار الغربيين اليوم . وهــذه أعلى درجـات الشهــادة ، وهي المشــاهدة الحســية الكاملة . ومن درجات الشـهادة :

 

شـــــهادة الســــمـاع :

اختلف العلماء في ضابط ما تقبل فيه الشهادة بالاستفاضة ، فتصح عند الشافعية في النسب قطعاً والولادة ، والموت والعتق .... إلخ بضعة وعشرين موضعاً، وعن أبي حنيفــة تجـوز في النســب والمـوت والنكاح ... قال صاحب ( الهداية ) : وإنمـا أجيز استحساناً وإلا فالأصل أن الشهادة لابد فيها من المشــاهدة ، وشـرط قبولها أن يسمعها من جمـع يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب ، وقيل أقل ذلك أربعة، وقيل يكفي عدلين ، وقيـل يكفي عـدل واحـد إذا سكن القلب إليه .(فتح الباري ،كتاب الشهادات) . ومن جواز شــهادة السماع شــهادة الأعمـى ، وقال الشعبي : تجوز شـهادته إذا كان عاقلاً ، ومراده أن يكون فطناً مدركاً للأمور الدقيقة بالقرائن .

ومن شهادة السماع الشهادة على الشهادة كما هي في الروض المربع - كما مر آنفاً - وقد يحتاج إلى الشهادة على الشهادة أثناء الانتخاب ، فيقول أحد الناخبين لنفسه سـوف أشــهد ( أعطي صوتي ) لهذا المرشــح لأنني ســمعت فلاناً ( العالم أو الداعية ، العدل والتقي ) يقول لنا اشهدوا أنني أشهد بأن فلاناً رجل عدل وكفء لأن يكون عضواً في مجلــس الأمـة ([2]). وهكذا فقد أخبـرهذا الرجل الثقـة بعض الناخبين ، ليتعرفوا على مرشـح لايعرفونه ، وهذا رأي من يوسعون الانتخاب ، ويدعون أعداداً كبيرة من الناخبين لايعرفون جميع المرشحين ،  وهذا يفتح دوراًكبـيراً لمراكز القـوى ([3]) ( كالدعاية الانتخابية ) ، التي تغرر بالناخبين أحياناً ،كي يعطوا أصواتهم عن غير قناعـة ذاتيـة نابعـة من ضمائرهم ، وعندئذ لايكون الانتخاب شــهادة على وجهها الصحيح .

وهـذه مجالس الشـعب في الأنظمـة الاستبدادية ، التي أراد الحاكم المستبد أن يـزيـن بهـا واجهـة حكمـه ، فأجـرى انتخابات ( مقررة مسبقاً ) ، ونجـح فيهـا من أراد الحاكم الأوحـد أن ينجـح ، لأن الناخبين - عامـة الشـعب - لا يدرون ماذا يفعلون ، ولـو أنهــم يعلمـون أنهـم يؤدون شــهادة زور ، تـعدل الشـرك باللـه ؛ لجلسـوا في بيـوتهـم ، وقاطعوا مثل هذا الانتخاب المهـزلـة .

وقد لخص الدكتور وهبة الزحيلي - جزاه اللـه خيراً - موضوع الشهادة في كتابه القيم الفقه الإسلامي وأدلته (6/556) فقال : الشهادة مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور ، وهي لغة خبر قاطع وشرعاً إثـبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء . ويجب أداء الشهادة في حقوق اللـه تعالى ، وشروط تحمل الشهادة هي :

1- أن يكون الشاهد عاقلاً .          2- أن يكون بصيراً وقت تحمل الشهادة.

3- معاينة المشهود به بنفسه لابغيره ؛ إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة لقوله r [ إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ] ، ولايتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة.

4- الإسلام فلاتقبل شهادة الكافر على المسلم ، وأجاز الحنفية شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض . وقال الجمهور غير الحنابلة : لاتقبل شهادة غير المسلمين على المسلمين لأن الشهادة ولاية ، ولا ولاية للكافر على المسلم ، وأجازها الحنابلة في الوصية في السفر للضرورة إذا لم يوجد غيرهم .

5- العدالة فلا تقبل شـهادة الفاسق ولا تقبل شهادة مخنث لفسقه ، ولانائحة ، ولا مغنية، ولا مدمن شراب لهواً ، ولا من يلعب بالطيور لأنه يورث غفلة ، ولامن يغني للناس، ولامن يدخل الحمام بغير إزار ، ولا من يأكل الربا ، ولا مقامر ، ولا من يبول على الطريــق ، أو يأكل على الطريـق ، ولا من يسب الصحابة أو التابعين .

وأخيراً أسأ ل الله عزوجل أن يفقهنا والمسلمين جميعاً في أمور دينهم عامـة ، وفي التربية السياسية خاصة ، وأن يهتم المسلمون بالتربية السياسية ، ومنها التأصيل الشرعي للانتخابات حتى يعرف المسلم كيف ينتخب ليرضي الله عزوجل .

والحمد لله رب العالمين


 

         

الهوامش


([1]) رواه البيهقي في كتاب الشهادات ، باب التحفظ في الشهادة والعلم بها (10/156) قال محمد بن سليمان بن مسمول هذا تكلم فيه الحميدي ولم يرو من وجه يعتمد عليه .