غزة تنتصر 60-66

د. مصطفى يوسف اللداوي

غزة تنتصر

د. مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

غزة تنتصر (60)

استئناف القتال فرصة العرب للتوبة

أتاحت المقاومة الفلسطينية باستئنافها القتال ومواصلتها المعركة، بعد انتهاء الهدنة الأخيرة، الفرصة للأنظمة العربية للتوبة ومراجعة حساباتها، وتصحيح مسارها، وتعويض ما فاتها، وشطب العار الذي لطخ شرف بعضها، وأساء إلى سمعتها، وسود صفحات تاريخها، وجعلها ردءاً للعدو ورديفاً له، بدلاً من أن تكون سنداً للمقاومة وعوناً لها، ومساندة للشعب الفلسطيني ومناصرةً له.

ربما بعد عودة العدوان الصهيوني البغيض على قطاع غزة، تتمكن بعض الأنظمة العربية التي كانت على مدى شهرٍ من القصف الجوي والبري والبحري المتواصل، صامتةً أو عاجزةً أو متآمرةً، أو حائرةً أو خائفة، فتنتهز الفرصة التي أتيحت لها من جديد، لتعيد تفكيرها، وتراجع حساباتها، وتحاسب نفسها، وتعدل مسارها، وتصوب اتجاهها، وتعرف عدوها من صديقها، وتؤوب إلى الحق، وتستعيد الرشد والعقل، فما قد ارتكبته في حق الفلسطينيين والعرب والمسلمين جريمةً كبيرة، لن تغفرها لهم شعوبهم، ولن ينساها تاريخهم، ولن تشطب بحالٍ من سجلاتهم في الدنيا ولا من صحائف أعمالهم يوم القيامة، وستبقى لعنةً عليهم، تطاردهم ولا تفارقهم، وتتنزل عليهم في الدنيا والآخرة، من العباد ومن رب العباد والملائكة والناس أجمعين.

المعركة مع العدو الصهيوني لم تنتهِ، ولا نظنها ستنتهي حتى نطرده من أرضنا، وندحره من بلادنا، ونستعيد حقوقنا، ونحرر أرضنا، ونعود إلى وطننا، وهذا الأمر بإذن الله سيكون مهما طال الزمن، فهي سنة الحياة، وطبائع الشعوب، وحينها سيذكر التاريخ أبطال التحرير وصناع النصر، وسيحفظ ذكرهم، ويقدر تضحياتهم، ويكرم شهداءهم، لكنه لن ينسَ أيضاً العملاء والخائنين، والمفرطين والمتآمرين، وسيبقى يلعنهم، وسيورث الأجيال من بعده لعنتهم والبراءة منهم.

تخطئ الأنظمة العربية إذا اعتقدت أن شعوبها ستسكت عن جريمتها، وستتغاضى عن فعلتها، وستقبل منها الصمت والسكوت، فضلاً عن المؤامرة والخيانة، فالشعوب العربية حرةٌ شريفةٌ، عزيزةٌ أبية، ماضيها ناصعٌ وتاريخها مشرفٌ، تنتصر لفلسطين وتحبها، وتنصر أهلها وتضحي من أجلهم، وتحب من ساندهم وأيدهم، وتناصر من والاهم وكان معهم، وتعادي كل من خانهم وتآمر عليهم، وتقف ضد من كان معهم كنوداً، وفي تعامله لئيماً، وستحفظ ذاكرتها الجريمة، وستذكرها دوماً حتى يأتي يومٌ فيه يقتصون وينتقمون، فيحاسبون الحكام على جرمهم، والقادة على خيانتهم، وقد علمنا التاريخ أن الشعوب لا تنسى، وأنها هي التي تبقى وتدوم، بينما الحكام يذهبون ويندثرون، ويحاسبون ويعاقبون، ويدفعون أثمان أعمالهم، ويؤدون عواقب أفعالهم.

أيها القادة العرب كونوا عقلاء راشدين، واعين مستنيرين، وتعلموا من أخطائكم، وخذوا العبرة من خواتيم أعمال من سبقكم، وعاقبة من مضى منكم، فها هي الفرصة تتاح لكم من جديدٍ لتتوبوا وتبدوا ندمكم، وتصححوا أخطاءكم، وشعوبكم ستغفر لكم إذا تبتم توبةً صادقةً نصوحة، وستتجاوز عن جريمتكم إذا أبديتم الندم فعلاً، وحاولتم الإصلاح والتعويض حقيقة.

واعلموا أنكم بتوبتكم تفوزون، وبعودتكم لا تخسرون، وبمساعدتكم للشعب الفلسطيني تتطهرون من معاصيكم، وتتخلصون من أدرانكم، وتعودون بين شعوبكم أطهاراً، أنقياء أصفياء أخياراً، فالشعوب العربية تتألم لما يصر منكم، وتتبرأ أمام الله وأمام الفلسطينيين من أفعالكم الشنيعة، وتصرفاتكم القبيحة، وجرائمكم الكبيرة، ولعلها تخجل من الانتماء إليكم، والانتساب إلى أنظمتكم، فهي لا تشعر بفخر الثراء، ولا نعيم الاستقرار، ولا تقبل بصفات البذخ والرخاء، بينما الشعب الفلسطيني يحاصر ويقتل، ويعذب ويضطهد، وتدمر بيوته ومساكنه، وتخرب مساجده ومعامله، وتحرث شوارعه وطرقه، ويحرم من كل لوازم الحياة الكريمة البسيطة قبل الكبيرة، والضرورية قبل الرفاهية منها.

إنها فرصةٌ كبيرة، ونداءٌ أخير، يمنحه الله لكم أيها القادة العرب على أيدي أهل غزة وقواه المقاومة، وهي فرصةٌ قل أن تعطى، ومن النادر أن تمنح، فمن فاتته الأولى قل أن يجود الزمان عليه بغيرها تعويضاً، والعاقل الكيِّسُ الفطن من يقتنص الفرصة ويستفيد منها ولا يضيعها، وها هي المقاومة تتفضل عليكم وتمن، وتكرمكم وتمنحكم، فلا تضيعوا الفرصة، ولا تخسروا السانحة، وأعلنوا ولاءكم للمقاومة، ونصرتكم لها، وزودوها بما تحتاج من دعمٍ وإسنادٍ، ومالٍ وسلاح، وارفعوا الصوت عالياً ضد كل من يتآمر عليها، ويريد بها شراً، وسارعوا إلى رفع الحصار، وفتح البوابات المغلقة، ولا تسمحوا لأحدٍ أن يستخدمكم أو أن يستغلكم، فهذا العدو لا يحترم عملاءه، ولا يكافئ المتعاونين معه، ولا يحفظ فضل الخائنين من أجله.

واعلموا أن المقاومة الفلسطينية عزيزةٌ أبية، وقادرةٌ قوية، وعميقةٌ متجذرة، وممتدةٌ منتشرة، وشاملةٌ واسعة، وهي باحتضان الشعب لها، وتأييده لدورها، واستعداده للتضحية من أجلها، قادرة على الصمود والبقاء، والثبات والمواصلة، وقد أثبتت أنها قادرة على الصمود في وجه العدو وإيذائه، وإلحاق الضرر به وإساءة وجهه، وقتل جنوده وإرهاب مستوطنيه، وتخريب اقتصاده وتعطيل حياته، ولديها من السلاح ما يكفيها، وعندها من الذخيرة ما يقويها، ورجالها يتسابقون إلى الشهادة، ويبدعون في المقاومة، ويتباهون بالنصر، ولا يخافون من المواجهة، ولا يهربون من أرض المعركة.

أيها القادة العرب ويلكم توبوا إلى الله، وأوبوا إليه، واستغفروا لذنبكم، وابكوا على خطيئتكم، واسألوا الله المغفرة، وعودوا إلى شعوبكم، واركنوا إلى أهلكم، وكونوا مع مقاومتكم تسعدوا، وانصروا أهلكم تسروا، وأيدوا المقاومة تعزوا، فما الكرامة إلا في ظلال المقاومة، وما العزة إلا في رحال قوة المقاومة وركابها، فهل تردوا على العدو حلفه، وتنكثوا عهده، وتنقضوا ميثاق الخيانة معه، لتستبدلوه بميثاق الشرف، وعهد الأمانة، وتكونوا ضمن حلف الصادقين، وأفواج المقاتلين، عل شرف النصر ينالكم، وثوب العزة يستركم، ورايات القوة تظللكم وتحميكم.

غزة تنتصر (61)

معركة الكرامة من جديد

كأنها معركة الكرامة التي دارت رحاها بين المقاومة الفلسطينية على اختلاف فصائلها والعدو الصهيوني، الذي كان يومها مستعلياً متغطرساً، ومتكبراً متعالياً، ومغروراً منفوشاً كطاووس، يظن أنه لا يقهر ولا يهزم، وأن جيشه هو الأقوى والأكبر، والأشد تسليحاً والأكثر تنظيماً، وأن ذراعه طويلة، وقدمه ثقيلة، ويده تبطش، وحليفه جاهز، وعدوه ضعيف، فاجتاز بدباباته الحدود الأردنية، وزج بجنوده في حربٍ مع المقاومة الفلسطينية الناشئة، معتداً بقوته، ومستهتراً بخصمه، متوقعاً أن يجد على الأرض خلاف ما رأى، وعكس ما وجد.

ظن العدو أنه قادرٌ ببساطة على سحق المقاومة، وتدمير ترسانتها العسكرية، وقتل رجالها، وتفكيك تنظيماتها، وإخراجها من الأردن، أو إبعادها عن حدوده، وتلقين الشعب الفلسطيني درساً لا ينساه، لئلا يفكر أبداً في قتاله أو محاربته، ولئلا يهدده بعمليات تسلل، عبر الحدود أو من خلال البحر والنهر، أو بمحاولاتٍ للالتفاف عليه بالدوريات المقاتلة خلف خطوط النار، وهي التي أغاظته يومها لجرأتها وقوتها، وتعدد عملياتها، وتنافس مجموعاتها، وكثرة القائمين عليها، إذ كانت دورياتٌ عسكرية عربية، فيها من المقاتلين العرب ما يوازي غيرهم من الفلسطينيين، الذين تشجعوا لقتال العدو ومواجهته، وكانوا واثقين أنهم قادرين على هزيمته وإيذائه.

قد تشبه الحرب في غزة معركة الكرامة، لجهة تحالف القوى الفلسطينية كلها، ووقوفها في صفٍ واحد، وقتالها في خندقٍ مشترك، وأنها باتت ترمي عدوها عن قوسٍ واحدة، فتوجعه بصواريخها، وتدميه بقذائفها، وتبدو أمامه جبهة واحدة، قوية ومتماسكة في مواجهة جيشه اللجب المعتدي.

أدركت المقاومة أن لديها تصميماً وإرادة على مواجهة العدو وقتاله، وصد عدوانه، ومنعه من تحقيق أهدافه، رغم فارق التسليح، وعدم توازن القوى، والتفوق النوعي، إلا أن الفلسطينيين يعتقدون أنهم أقوياء بحقهم، وأن لديهم من القوة والشجاعة، والجرأة والبسالة والجرأة، والإيمان واليقين، ما يجعلهم قادرين على مواجهة العدو، وصد عدوانه، ومواجهة جيشه، ورد كيده إلى نحره، وإفشال مخططاته، ومنعه من تحقيق ما يتطلع إليه.

في معركة الكرامة نجحت المقاومة الفلسطينية مجتمعة في دحر العدوان الإسرائيلي، وكبدته خسائر كبيرة، ونفذت في سلاح دباباته مجزرة بقيت آثارها لسنواتٍ طويلة، ولعل أحد أهم عوامل نجاح المقاومة في صد العدو، وتلقينه درساً قاسياً، هي حالة الوحدة الصادقة التي ميزتها، فكانوا جميعاً صفاً واحداً في مواجهة العدو، وكانت لهم غرفة عمليات واحدة، وإدارة للمعركة مشتركة، وفريق تنسيق مختص، ما جعلهم ينجحون في صد العدو لأول مرة، وإجباره على العودة من حيث أتى، ليدرس أسباب الهزيمة، ويأخذ العبرة مما حدث.

أصبحت المقاومة الفلسطينية عشية النصر، قطب العرب أجمعين، والتفت حولها الجماهير العربية والفلسطينية، والتحقت بها كادراتٌ فلسطينية وعربية كثيرة، إذ آمن العرب بقوتهم، وأدركوا أنه بالإمكان هزيمة العدو ودحره، وأن مقولة أنه جيش لا يقهر ليست إلا كذبة حاول ترويجها، ودعاية أكثر من استخدامها ليرعب العرب، ويخيف الفلسطينيين، ولكنه عندما نزل إلى الميدان، ووقع في شراك رجال المقاومة الصادقين، وجد نفسه أنه نمرٌ من ورق، وأنه لا يخيف أحداً، وأن جنوده يتساقطون كذبابٍ خنقت أنفاسه، وأن عرباته العسكرية ودباباته المستوردة، باتت تحترق كألعاب أطفال، وتحترق كرسومٍ من ورق.

إنها الحقيقة التي باتت واضحة للعدو قبل المقاومة، أن الشعب إذا اتفق على المقاومة فإنه يكون قادراً على تحقيق ما يريد، فقد أثبتت معركتا غزة والكرامة أن امكانيات الشعب الفلسطيني كبيرة، وقدراته عالية، وإيمانه عميق، وثقته بنفسه بعد الله كبيرة، لكن تعوزه الفرصة، ويلزمه السلاح، ويبحث عن النصرة والإسناد، والتعاون والتعاضد، وهو الذي كان حاضراً بقوةٍ في معركة الكرامة، إذ ساند الجيش الأردني المقاومة الفلسطينية، ودخلت قواتٌ أردنية المعركة معها جنباً إلى جنب، فقاتلت بصدق، وواجهت بصلابة، وتحدت بإرادة، فكان النصر العربي الأول على العدو الصهيوني.

إن ما يلزمنا اليوم في معركتنا مع العدو الصهيوني هو التضامن العربي، والتماسكُ الشعبي، فالمقاومة الفلسطينية قوية لكن يلزمها السلاح، والدعم بالمال، والمساندة في الإعلام، والنصرة في السياسة، إذ أن المعركة ليست كلها عسكرية، وليس ميدانها الأرض والوطن فقط، فالمعركة العسكرية يتكفل بها الأهل، ويتعهد بها الشعب، وهو قادرٌ على خوضها، ولديه الجاهزية للمضي بها، والاستمرار فيها، لكن المعركة العسكرية، التي هي بالنيابة عن الأمة، يلزمها مددٌ بالسلاح، وتزويدٌ بالمال، وحصانةٌ بالسياسة، وترويجٌ بالإعلام.

حرامٌ على الأمة العربية أن تضيع هذه الفرصة، وأن تفلت منها هذه السانحة، إذ أن ثلةً منها قد أوجعت العدو ونالت منه، وهزته بعنف، وأوجعته بألم، وأوقفته عند حده، وأعلمته يقيناً أنه لم يعد متفوقاً، كما لم يعد قادراً على تحقيق ما يريد، فلا نتخلى عن هذه المقاومة، ولا نتركها وحيدة، ولا نجعلها لقمةً سائغةً للعدو يستفرد بها، ويستقوي عليها، رغم أنه لن يستطيع بلعها، ولن يقوَ على المساس بها، لكننا نتطلع إلى انتهاز الفرصة، والاستفادة من القدرة والظرف، إذ ما يتحقق اليوم قد لا يكون سهلاً تحقيقه في المستقبل، وما يعاني منه العدو اليوم قد يتجنبه غداً، ويتعلم ويأخذ منه الدروس والعبر.

ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه حرب غزة بمعركة الكرامة، إنهم ذات الرجال الأماجد، ونفس الأبطال المقاومين، وذات الشعب والأمة العظيمة، الذين صنعوا النصر يومها، قد حققوه اليوم على أرض غزة يقيناً، وكما كان ما بعد الكرامة مختلفاً عما كان قبلها، فإن ما بعد الحرب على غزة لن يكون كما كان قبلها، بل سيكون مختلفاً عن الماضي كله، ومغايراً للتاريخ الذي سبق، ففي غزة يسطر الفلسطينيون أولى صفحات النصر، ويعبرون أول طريق العودة، ويضعون أولى لبنات الدولة والوطن الحر السيد المستقل.

غزة تنتصر (62)

العرب شركاء أم متضامنون

مضى على العدوان الإسرائيلي الأضخم والأشرس على قطاع غزة خمسةٌ وثلاثون يوماً، وهو الأشد قسوةً باعترافهم، والأكثر عنفاً، والأخطر سلاحاً، والأبلغ ضرراً، والأعمق استهدافاً، وما زالت آلة القتل الإسرائيلية تمارس هوايتها كأول يومٍ بدأت فيه، وتعبث في أرجاء القطاع بمتعةٍ واستمتاع، أقرب إلى التسرية والتسلية، في لعبة أتاري تتحكم فيها مجنداتٌ وجنودٌ في مكاتب مغلقة، وأمام شاشات كمبيوترٍ متخصصة، يصورون المواقع، ويحددون الأهداف، ويرسلون الاحداثيات، ويصدرون التعليمات للطائرات الحربية بإطلاق الصواريخ، أو يطلقونها بأنفسهم من الطائرات الآلية، التي لا تكاد تفارق سماء قطاع غزة، وتستهدف الحجر والشجر والبشر، وتصيب بحممها أهدافاً مدنية، ومساكن شعبية، ومساجد ومراكز دينية، وكأن لها معهم جميعاً ثأرٌ قديم، تعمل على تصفيته، وتتسابق في تسويته.

وما زالت آلة القتل الصهيونية نهمة، ولا يبدو أنها شبعت، أو ملت القتل والتدمير والتخريب، أو سئمت من الخراب والعدوان، إذ أنها ما زالت نشطة وفاعلة، بل خبيثةٌ غادرة، وعمياء حاقدة، لا تعرف غير الفساد في الأرض، والإثخان في الخلق، والإمعان في التدمير، وهي لا تشكو من نقصٍ أو حاجة، ولا من فقرٍ أو فاقة، إذ فتحت الولايات المتحدة الأمريكية لها مخازنها الحربية، وسمحت لها باستخدام أسلحتها الاستراتيجية، ومخزونها في المنطقة، بينما تعهدت أنظمة عربية بتغطية نفقاتها، وتعويض خسارتها، وضمنت لها ألا تشكو من نتائج عدوانها، ولا من الآثار العكسية المترتبة على جريمتها.

العرب يشاهدون ويتابعون هذا المسلسل الدموي الذي لا تنتهي حلقاته، ولا يصل المشاهدون إلى نهايته، بل تتابع فصوله وتتنوع، وتكثر ضحاياه وتتعدد، وتزداد أهدافه وتتغير، وتتشابك قضاياه وتتعقد، وتختلط أوراقه وتتبعثر، ولكن أحداً لا يحرك ساكناً، ولا يغير واقعاً، ولا يثور ولا يغضب، ولا يهدد ولا يتوعد، بل يراقب ويتابع، وينتظر ويترقب، وكأنه على موعدٍ مع الخاتمة، أو ينتظر النتيجة، فهو يريد للضحية أن تسقط أمامه مضرجةً بدمائها، تعلن استسلامها، أو تقبل بموتها، لئلا تكون شاهدةً عليه، أو دليلاً على اشتراكه في الجريمة، ومساهمته في المعركة إلى جانب العدو ومعه.

لا نستطيع أن ننكر أن بعض الأنظمة العربية تريد هزيمة المقاومة، وتتطلع إلى نزع سلاحها، وإنهاء تأثيرها، وشطب وجودها، وتفكيك بنيتها، وحل تنظيماتها، وتسريح عناصرها، وتجفيف منابعها، ومعاقبة المؤيدين لها، والمناصرين لفكرها، والداعمين لنشاطها، وهي لا تعارض قتل قيادتها، وتصفية كوادرها، وقد ارتضت أن يقوم العدو بهذه المهمة، وينفذ هذا الدور، وباركت حملته، وأيدت عدوانه، وهي لا تخفي رغبتها، ولا تغلفها بما يخفف من بشاعتها، أو يقلل من فحشها، بل إن بعضهم يصرح بها بوضوح، ويعبر عنها بجلاء، ذلك أنها تخدم سياستهم، وتلبي رغباتهم، وتصب في سلة أهدافهم.

أي أن الأنظمة العربية ليست شريكة معنا في المعركة، ولا تقاتل العدو إلى جانبنا، ولا تقدم لنا العون لنواجه صلفه، ونتحدى جيشه، ونشل سلاحه، ونرد كيده، ونفشل سعيه، بل تحاول تجريدنا من سلاحنا، ومحاسبة من يفكر في دعمنا وإسنادنا، وتسلط الإعلاميين علينا، وتخصص البرامج التلفزيونية السياسية والدينية أحياناً لتشويه مقاومتنا، والتحريض علينا، والنيل من صمودنا، والاستهزاء من سلاحنا، والتهكم من أثره في عدونا.

فهي بذلك تكون شريكة في العدوان، وحليفة للعدو، وطرفاً في المعركة إلى جانبه، تضر وتؤذي، وتخطئ وتسيء، وتفسد وتخرب، وهي ليست شريكاً للمقاومة، ولا نصيراً لها، ولا سنداً لشعبنا، ولا عوناً له، وهي ليست متضامنة معنا، ولا حزينةً علينا، ولا يسوؤها ما لحق بنا، ولا ما أصابنا على أيدي عدونا، بل إن منها من يؤلمه جرح العدو، وتحزنه خسارته، وتؤذيه شكواه وألمه، وتتفهم قلقه، وتشعر بمعاناة مستوطنيه، وخوف مواطنيه، وحاجتهم إلى السلامة والأمن.

تلك هي الحقيقة التي لا نستطيع إخفاءها، ولا نقوى على إنكارها، مهما حاولنا التجمل، وأردنا السترة وعدم الفضيحة، خوفاً على بيتنا العربي، وحرصاً على سمعته وكرامته، وحفاظاً على قيمه وعاداته وتقاليده التي ورثناها وحافظ عليها أجدادنا، ووصى بها آباؤنا، نصرةً للملهوف، وعوناً للضعيف، وانتصاراً للمظلوم، وهل يوجد من هو أحق بالشعب الفلسطيني العربي المسلم المظلوم، المضطهد المقتول المعتقل المنتهكة مقدساته، والمسلوبة أرضه، والمهضومة حقوقه، والمعتدى على حريته وكرامته، من أن ينصره العرب، ويقفوا إلى جانبه ضد عدوه، الذي قتل من قبل أبناءهم، واعتدى على أرضهم، وارتكب في حقهم مجازر لا تختلف عن مجازره في حق الفلسطينيين، والذي ما زال يتجسس عليهم، ويخترق أمنهم، ويجوس خراباً داخل بلادهم.

أما شعوب الأمة العربية فهي متضامنة معنا، ونصيرةً لنا، وتطمح أن تكون شريكاً لنا في المعركة، تقاتل إلى جانبنا، وتضحي مثلنا، وتقدم أكثر منا، بل إنها تتفانى في النصر، وتتسابق في المساعدة، وتتفنن في تقديم العون، وتبتكر وسائل مختلفة تتجاوز فيها قوانين الحظر، وتفلت من وسائل المنع والمحاربة.

وإننا إذ نشعر بألمها، ونحس بحزنها، ونعرف أنها تتوق للمشاركة، وتتطلع للمساهمة، ولكن الحدود تمنعها، والقوانين تقهرها، والأنظمة تحاربها، فإننا لا نظلمها ولا نغمطها، ولا نقلل من جهودها، ولا نستهتر أو نستخف بعواطفها، بل نقدر جهودها، ونحفظ فضلها، ونشكرها على ما تقدم، ونعذرها إن قصرت، ونبرر لها إن تعذرت معها الوسائل، أو تقطعت بها السبل، ولكننا ندرك أن القليل الذي تقدم، لهو أعظم ما ننتظر، وأكرم ما نستقبل، وأطهر ما نتلقى، ففيه البركة، وبه نتوسل النصر، ونترقب الخير، ونرجو من الله الرحمة والفوز.

غزة تحت النار (63)

الصواريخ العبثية والقبة الفولاذية

أثبتت صواريخ المقاومة الفلسطينية على اختلاف أنواعها وأجيالها، وتعدد أسمائها، وتفاوت مداها، وتنافس فصائلها، أنها ليست صواريخاً عبثية، وأنها ليست ألعاب أطفال، لا تضر ولا تنفع، أو مفرقعاتٍ صينيةٍ تصدر صوتاً وتفرقع، وتسمع لها قعقعة ولا ترى لها طحناً، وأنها لا تصل إلى أماكنها، ولا تصيب أهدافها، ولا تؤذي من تقع عليه، ولا تلحق ضرراً في المكان الذي تسقط فيه، وهي غالباً تسقط في أراضٍ غير مأهولة، أو في الشوارع والطرقات العامة، ذلك أنها عمياء غير مهدفة، ودقة اصابتها محدودة، وقدرتها التدميرية بسيطة.

شهد العدو الصهيوني أن صواريخ المقاومة مؤلمة وموجعة، وأنها غزيرة ودقيقة، وأنها باتت تصل إلى أهدافها، وتصيب مراكز حساسة، ومنشآتٍ صناعية، ومقار عسكرية، وثكناتٍ ومراكز تجمعات الجنود، فضلاً عن أنها أصبحت تصل إلى أماكن بعيدةٍ، ومدنٍ شمالية وأخرى في أقصى الجنوب، وأن أصواتها لم تعد فرقعةً، بل أضحت انفجاراتها مخيفة، وآثارها مرعبة، ومكان سقوطها متهتك ومخرب، يهرب منه المستوطنون، ويخاف من الاقتراب منه المسؤولون السياسيون والعسكريون.

لكن العدو الصهيوني لم يكن ينظر إلى صواريخ المقاومة الفلسطينية كما الأنظمة العربية على أنها صواريخ عبثية، وأنها ألعاب صبيانية، وأسلحة ولدانية يعبث بها الصغار، ويعرض عنها الكبار، بل اعتقدوا أنها خطرة، وأن مفعولها كبير، وأنها قادرة على تغيير موازين القوى، وإنشاء درعٍ فلسطينية واقية، وخلق معادلةٍ رعبٍ حقيقية وفاعلة.

راهن العدو الصهيوني كثيراً على قبته الفولاذية، ومنظومة الباتريوت، التي اعتقد أنها ستحميه وستنقذه، وأنها ستكون بمثابة مظلةٍ فولاذيةٍ تقيه خطر الصواريخ، وتمنع سقوطها على الأماكن السكنية والمنشئات الاقتصادية، وأن مواطنيه سيأمنون على أنفسهم من خطر الصواريخ المتساقطة عليهم، ذلك أن الصواريخ المضادة ستعترضها وستسقطها، وستبطل مفعولها، أو ستقلل من أخطارها.

لهذا فقد اعتمد كثيراً على منظومته الصاروخية السحرية ليواجه بها الأمطار الصاروخية الفلسطينية، واعتمد كثيراً على الولايات المتحدة الأمريكية لتموله بما يكفي لتشغيلها، وتزوده بالقذائف المضادة الكافية، التي تعوض النقص المطرد في مخزوناتها الاستراتيجية، ذلك أن كل صاروخٍ فلسطيني كان يتطلب على الأقل ثلاثة صواريخ إسرائيلية لإسقاطه، ومع ذلك فإن المنظومة لم تسقط سوى أقل ثلث الصواريخ التي سقطت عليها، بينما فشلت في إسقاط واعتراض أكثر من الثلثين، الأمر الذي خلق احباطاً كبيراً لديهم، وشكل خطراً على مخزونهم الصاروخي الذي بدأ في التناقص، رغم الجهود الأمريكية الحثيثة للتعويض والتزويد.

العدو الصهيوني راهن كثيراً على قدراته الصاروخية، وتفوقه العسكري، وطيرانه الحربي، التي ستدمر منصات صواريخ المقاومة، وستدمر مخزونها الاستراتيجي، وستعرقل عمل مشغلي الصواريخ، وستضيق على القدرات اللوجستية لسلاح الصواريخ المتعلق بالإخراج من المخازن، والنقل إلى مواقع المنصات وتلقيمها، فاعتقد أن قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ ستتراجع خلال الأيام الأولى للعدوان، وأن مخزونها سيتضرر، وفرقها الفنية ستتبعثر وستتمزق، ومنصاتها ستكشف وستضرب.

لكن الواقع أثبت عكس ذلك تماماً، فقد نضبت المخازن الإسرائيلية، وتراجع مخزون العدو من الصواريخ المضادة، وكادت منصات الباتريوت تتوقف عن العمل لعدم وجود الذخيرة الكافية، فضلاً عن أسعار صواريخها الباهظة بالمقارنة مع صواريخ المقاومة الفلسطينية المحلية الصنع، والقليلة الكلفة، والكثيرة نسبياً، نظراً إلى أنها أصبحت تصنع في غزة، ولا يتم الاعتماد على تهريبها من الخارج بعد تدمير الأنفاق، وملاحقة القائمين على عمليات التسليح وتهريب السلاح.

تواصل العدوان الصهيوني على قطاع غزة أكثر من شهرٍ وما زال مستمراً، لكن صواريخ المقاومة الفلسطينية القصيرة والبعيدة المدى، ما زالت تتساقط على البلدات الإسرائيلية، بنفس الكثافة والحدة، ومن مختلف مناطق القطاع، لم تتراجع يوماً، ولم ينقص عددها عن المعتاد حتى اللحظات الأخيرة قبيل دخول الهدنة حيز التنفيذ، إذ تتواصل مباشرةً بعد انتهاء مفعولها، ولعل بعضها قد سقط على البلدات الإسرائيلية بعد أقل من دقيقة واحدة على انتهاء الهدنة، الأمر الذي يشير إلى جاهزية المقاومة واستعدادها، وأن مخازنها ما زالت عامرة، وقدراتها حاضرة، وأوامرها صادرة.

تطرح الأوساط الإعلامية الإسرائيلية تساؤلاً موضوعياً، وتثير شكوكاً حقيقية حول دوافع قيام الحكومة الإسرائيلية بقبول التهدئة، والتوقف عن العمليات الحربية، والانسحاب من مناطق قطاع غزة، والكف عن المعركة البرية، وتسريح الجنود والضباط الاحتياط.

هل أن السبب في ذلك يعود إلى أن الجيش الإسرائيلي قد حقق الأهداف التي انطلقت من أجلها الحملة العسكرية على قطاع غزة، ولكنهم يستبعدون هذه الفرضية نظراً لأنهم يعلمون أن جيش كيانهم لم يحقق شيئاً من أهدافه، ولم يتمكن من تنفيذ تهديداته التي أعلن أعنها.

أم أن السبب يعود إلى التخوف من التوغل أكثر في قطاع غزة، والتورط في حربٍ بريةٍ طويلة المدى، تلحق به خسائر كبيرة، وتعرضه لتقديم تضحياتٍ هو غير مستعدٍ ولا متهيئٍ لها، خاصةً أن عدد قتلاه اقترب من المائة أو يزيد، فضلاً عن وجود جنديين أسيرين، رغم عدم التأكد من كونهما ما زالا على قيد الحياة، أم أن المقاومة الفلسطينية تحتفظ بجثتيهما فقط.

يؤكد كثيرٌ من الإعلاميين والمحللين العسكريين الإسرائيليين، أن أحد أهم أسباب قبول كيانهم بالتهدئة، يعود إلى عجز القبة الفولاذية عن حمايتهم، نظراً لعدم كفاءتها وقدرتها لأن تكون مظلة واقية بنسبة مائة بالمائة، وكذلك نتيجة النقص الملحوظ في ذخائرها المضادة، في الوقت الذي أثبتت فيه صواريخ المقاومة جاهزيتها وقدرتها وكثافتها واستمراريتها، وحفاظها على المنسوب والمستوى ومناطق الاستهداف، الأمر الذي يؤكد أن صواريخ المقاومة ليست عبثية، أو أنها لم تعد عبثية، بل أصبحت سلاحاً رادعاً ومخيفاً، ومن الممكن تطويره وتحسينه، وزيادة مداه، وتوسيع إطاره، وتدقيق إصابته.

غزة تنتصر (64)

الأنفاق الحربية قدسية وطنية وسرية عسكرية

لم تكن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة حكيمةً بقرارها فتح الأنفاق العسكرية أمام بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية، التي جابت بكاميراتها في أرجاء الأنفاق المختلفة، وكشفت عن كثيرٍ من أسرارها، وأظهرت العديد من مميزاتها وآليات العمل فيها، وحددت في بعض الأحيان عمقها وحجمها وقدرتها الاستيعابية، وسلطت الضوء على إمكانياتها، وما هو متوفر فيها من أدوات القتال وحاجات المقاتلين، كما بينت أنواعها واستخداماتها، وشرحت كيفية حفرها والمدة التي استغرقتها لتمام الحفر، وغيرها من المعلومات التي تشكل بمجموعها أهمية كبيرة جداً للعدو الإسرائيلي، الذي يبدي اهتمامه بصغائر الأمور قبل عظائمها.

لم تكن المقاومة موفقة في قرارها، كما لم تكن مجبرةً عليه ولا مضطرة، رغم أنها كانت تقصد استعراض قوتها، وبيان تفوقها، ورفع الروح المعنوية لدى شعبها، وتطمينه بأنها ما زالت بخير، وأنها قادرة على الصمود والتحدي، والمجابهة والمباغتة، والخطف والأسر والانسحاب بسلام، بالإضافة إلى رغبتها في إثارة المزيد من الرعب لدى العدو الصهيوني، وتكذيب دعواه بأنه تمكن من تدمير الأنفاق التي كانت تهدد أمنه، وأنه حقق الأهداف التي انطلقت من أجلها حملته العدوانية على القطاع، وأنه ألحق أذىً كبيراً في البنية التحتية للمقاومة، وأضر بقدراتها اللوجستية والمعنوية.

فهل كانت المقاومة الفلسطينية مضطرة للقيام بهذه الخطوة وكشف ما لديها، وهتك أسرار تفوقها النوعي في مجال الأنفاق، خاصة أنها كانت وما زالت تشكل لدى العدو عقدة صعبةً، وهاجساً مخيفاً، ورعباً قاتلاً، يفاجئه ويلاحقه، وهو الذي كان يتعطش لمعرفة أي معلومة تتعلق بها، وتساعد في كشف غموضها، وتفكيك طلاسمها، وقد سخَّر أمهر فرقه الهندسية في جيشه لمعرفتها والكشف عنها تمهيداً لتدميرها.

فهل حققت المقاومة بعملها ما تصبو إليه وتتطلع، أم أنها قد أضرت بنفسها من حيث لا تدري، وألحقت بالمقاومة خسارة كبيرة، وإن لم تكن منظورة اليوم، فهي عندما تكشف للعدو عن إمكانياتها وقدراتها، فإنها تريحه وتطمئنه، وتحضه على دراسة كل المعطيات التي بين يديه، والتمحيص فيها والاستفادة منها، ليتجنب أخطارها وأضرارها في أي حرب عدوانية جديدة، خاصةً أن العدو يخضع كل تقريرٍ تبثه المقاومة عن عملياتها أو أنفاقها للدراسة والتمحيص، فيدرس كل التفاصيل، ويتعرف على الأخطاء، ويستغرق في أدق الملاحظات، ويدقق في طبقات الأرض، ونوع الحجارة، وشكل الجدران، وقوة التحصين، ومدى التشابه الذي بينها، محاولاً الربط بين أنواعها، وتمييز الفوارق التي بينها.

من المؤكد أن العدو الإسرائيلي هو المستفيد الأول من كشف الأنفاق، فهي بالنسبة له كالكهف المجهول، الذي يدخله لأول مرة، وإن كان همه الأول جمع المعلومات عنها، فإنه يستفيد منها أيضاً في تحريض الرأي العام الدولي، واستمالة القوى الكبرى، لتتفهم قلقه، وتجيز عدوانه على قطاع غزة، بحجة حماية مواطنيه من خطر الأنفاق، مبيناً أن المقاومة هي التي تبادر بالاعتداء، وهي التي تنتهك الحدود والسيادة.

لا أظن أن المواطن الفلسطيني يستفيد كثيراً من مشاهدة الأنفاق، سوى استحسان ما فعلته المقاومة، وتعظيم جهودها، وتقدير تضحياتها، والاحساس بالطمأنينة والثقة، لكنه من حيث أراد الاستمتاع والاستحسان فإنه يفيد العدو أيضاً في معرفة ما تخبؤه له المقاومة، خاصةً أن احتمالات الاعتقال كبيرة، وإمكانية الاستجواب والتحقيق لدى أجهزة أمن العدو وغيره واردة.

أما وسائل الإعلام المحلية والعربية، فإنها تحقق سبقاً صحفياً، وتتنافس في الحصول على موافقة المقاومة للدخول إلى أنفاقها، لتجذب إلى برامجها مشاهدين أكثر، أو تضاعف عدد المتابعين لبرامجها، ولا يهم الكثير منها أمن المقاومة، وسلامة عملها، أو أمن المواطنين وخصوصية ظروفهم، بل إن من الأنظمة العربية من تحرص على معرفة الكثير عن هذه الأنفاق وإدارتها، ومن أشرف على حفرها ومن يقوم على صيانتها، ومن يتحكم فيها ومن ينسق بينها، وهي التي تطلب من وسائل الإعلام زيارتها والتعرف عليها.

أما وسائل الإعلام الأجنبية فلا أظنها شريفة ولا بريئة، وهي لست نزيهة وإن ادعت النزاهة والمصداقية، فإن أغلب العاملين فيها يرتبطون بالأجهزة الأمنية، ويعملون لحسابها، وينفذون تعليماتها، ويركزون على ما تطلب منهم، ولعلهم يملكون وسائل وآليات حديثة جداً، لا تدركها المقاومة، أو لا تستطيع تمييزها، تقوم بمهامٍ إضافية، وتنفذ عملياتٍ أخرى غير تسجيل الصوت والصورة، فإن كانت بعض الكاميرات الخاصة تستطيع تحديد صحة المريض وسلامته، ولديها القدرة على فحص الدم وتحديد فصيلته وقوته، فإن من الكاميرات ما تملك تقنياتٍ حديثة، تستطيع التعامل مع طوبوغرافيا الأرض وطبقاتها وغير ذلك.

سمعت من بعض الضيوف العرب المؤازرين لشعبنا، والمناصرين لقضيتنا، والمحبين للمقاومة، والمخلصين لها، ممن زاروا الأنفاق وتجولوا فيها، وشعروا بعظمة عمل المقاومة، ومدى الجهد الذي بذلوه في حفر الأنفاق وتسليحها وتحصينها، إلا أنهم أسروا للخاصة وأعلنوا للعامة، عدم ارتياحهم لهذا الإجراء، وإن كانوا قد تميزوا به، واختارتهم المقاومة للتجوال فيها دون غيرهم، إلا أنهم شعروا أنه لا يجوز أن يطلع على هذه الأسرار أحد، ولا أن يعرف طبيعتها غير المعنيين فيها، بل إن رجال المقاومة الذين لا يرتبطون بالأنفاق عملاً، لا ينبغي أن يدخلوها وأن يطلعوا على أسرارها.

على المقاومة الفلسطينية أن تراجع نفسها، وأن تصوب قرارها، وأن تقلع عن مبادراتها وحسن نواياها، وأن تعلن أن الأنفاق والمعسكرات الخاصة بها، مواقع عسكرية، لا يجوز الاقتراب منها، أو الدخول إليها وتصويرها، بل يجب أن تبقى جزءاً من الأسرار، وأن تحافظ على الغموض المحيط بها، ليبقى العدو خائفاً منها، وقلقاً على جنوده وضباطه من الوقوع في شراكها، ففي غموضها قوة، وفي سريتها عظمة، وفي إخفائها نجاح.

غزة تنتصر (65)

الأنفاق العسكرية والملاجئ المدنية

لعل الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، في حاجةٍ ماسةٍ إلى نوعين من التجهيزات الأساسية، تكون كبنى تحتية دائمةً، تمتاز بها كل المناطق، وتحافظ عليها المدن والبلدات والقرى والمخيمات كافةً بلا استثناء، بحيث يرعاها المهندسون، وتسترعي نظر المتعهدين والمقاولين، ويحرص عليها الملاك وأصحاب المشاريع، فلا يغمضون عنها عيونهم، ولا يتجاوزونها رغبةً في كسبٍ، أو حرصاً على وفرةٍ وعدم صرف، بحجة الكلفة الباهظة، وأنها تأخذ حيزاً، وتحل مكان شققٍ وعقاراتٍ.

أما الأولى قبل الأنفاق العسكرية، فهي مدنية بامتياز، وهي من حق كل المواطنين في كل مكان، وتكاد لا تخلو منها مدينة في العالم، ولا تستغني عنها أمة، وهي الملاجئ المعدة للحروب والكوارث، وهي أماكن تلحظها الاتفاقيات الدولية، وترعاها المواثيق الأممية، وتنص عليها الكثير من الاتفاقيات والإعلانات الإنسانية، وتنظم نصوصُها علاقةَ الأطراف المتحاربة معها، وتفرض عليهم احترامها وعدم المساس بها، أو الاقتتال بالقرب منها، أو تعريض اللاجئين إليها للخطر، على أن تأخذ الأطراف المتحاربة علماً بأماكنها، وتحدد احداثياتها، لئلا يقع أي خطأ، أو أن يلتبس الأمر على الأطراف المتحاربة فتصيبها بقذائفها أو تلحق بها ضرراً.

أعدت هذه الملاجئ ليتمكن المواطنون المدنيون من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال من اللجوء إليها أثناء الحروب، ليتجنبوا القصف، ويبتعدوا عن مناطق الخطر، ويكونوا في مأمنٍ من العمليات الحربية، على ألا تستخدم الملاجئ نفسها في الأعمال العسكرية، فلا تكون مخزناً للسلاح، ولا أماكن آمنة للمقاتلين ببزتهم العسكرية، إلا أن يتوقفوا عن القتال، ويلقوا أسلحتهم، وينزعوا عنهم العلامات الدالة على الصفات العسكرية، ليكتسبوا صفة المدنيين، ويستحقوا الحماية التي تفرضها القوانين الدولية لهم.

ولعل سكان قطاع غزة في أمس الحاجة إلى الملاجئ، لكثرة ما يعتدي عليهم الإسرائيليون، ويهاجمونهم في بيوتهم وأماكن سكناهم، ويلحقون بهم ضرراً كبيراً، ويتسببون في قتل المئات منهم، ذلك أنهم يستهدفون المناطق السكنية، والتجمعات المدنية، الأمر الذي يؤدي إلى سقوط الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، خاصة من الأطفال والنساء والمسنين، ممن ليس لهم أي دور في أعمال المقاومة، ولا يقومون بما من شأنه أن يشكل خطراً على العدو الصهيوني.

فقد أثبتت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، أن العدو يستهدف المدنيين، ويتعمد إصابتهم، وإلحاق أكبر الضرر بهم، دون مراعاة لحرمة حالتهم المدنية، خاصةً عندما يستهدف بيوتهم ويدمرها عليهم، ويدفن سكانها تحت الأنقاض، فيقتلون تحت الردم والركام، الأمر الذي يجعل الحاجة إلى الملاجئ التي تحمي وتقي ماسةً جداً، وضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها، خاصة في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، وطبيعة الغدر المجبول عليها، حيث تبين الاحصائيات أن أكثر من 80% من ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في كل الحروب السابقة هم من المدنيين، وأن نسبة الشهداء من المقاومة دوماً متدنية، الأمر الذي يفرض وجوب التفكير في حماية المدنيين، وبناء ما يكفيهم من الملاجئ لحمايتهم.

لجأ الفلسطينيون كثيراً إلى المدارس ومقرات الأمم المتحدة، التي استقبلت الآلاف منهم، فآوتهم وأسكنتهم، وزودتهم بما يحتاجون إليه من مؤنٍ وفراش، وقامت إدارتها الإقليمية بإبلاغ القيادات العسكرية لجيش العدو، من خلال مراكز التنسيق المشتركة، بنيتها فتح مراكز إيواء خاصة بالمدنيين، وكانت تزودهم بعناوين مراكز الإيواء، وتحدد لهم مواقعها بدقة، وترفع إليهم تقارير دورية دقيقة تبين لهم فيها أعداد اللاجئين وتصنيفاتهم.

لكن هذا التعاون من قبل الأمم المتحدة، لم يمنع جيش العدو من قصف المدارس، والاعتداء على مراكز الإيواء، وارتكاب أبشع المجازر بحق الأطفال والنساء، وقتل العشرات منهم، بينما هم نيام، أو في طوابير ينتظرون استلام المساعدات الغذائية، وأحياناً كانت الصواريخ الإسرائيلية تمزق أجساد الأطفال وتبعثرهم وهم يلعبون، فقتلت العشرات في كل حروبها على قطاع غزة، وهي تكرر اعتداءاتها دائماً، رغم علمها اليقيني بأن المناطق التي تقصفها مدنية، وهي خاضعة لرعاية وحماية الأمم المتحدة.

الفلسطينيون في حاجةٍ ملحةٍ إلى ملاجئ حصينةٍ ومنيعة، تبنى عميقاً تحت الأرض، وتجهز بكل وسائل الحماية، لئلا يسهل الاعتداء عليها أو تدميرها، ويجب إبلاغ الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى بأماكنها، وعناوينها بدقة، ليحذروا العدو الصهيوني من مغبة استهدافها والاعتداء عليها، ولئلا تكون له أي حجة أو ذريعة إذا فكر باستهدافها والمساس باللاجئين إليها.

هل من حق العدو الصهيوني أن يبني لمستوطنيه الملاجئ الحصينة، وأن يضمن لهم كل سبل الحماية والوقاية، رغم أنه لا خطر يتهددهم، ولا اعتداءات تستهدفهم، ولا يوجد بينهم ضحايا ولا مصابين، بينما لا يحق ذلك للفلسطينيين المعتدى عليهم، في الوقت الذي تصرخ فيه حكومة العدو في وجه العالم، تطالب الدول الكبرى بحمايتهم من الاعتداءات الفلسطينية، وتصر عليهم أن يتفهموا عملياتها العسكرية، وأن يصدقوا مبرراتها التي تسوقها لهم، في الوقت الذي تقتل فيه المئات من الفلسطينيين، وتدمر بيوتهم ومساكنهم، وتفسد حياتهم، وتخرب كل شيءٍ يتعلق بهم.

ينبغي أن نتعلم من هذه الحرب الصهيونية المقيتة، ومما سبقها من حروبٍ حاقدة، وجوب بناء الملاجئ المدنية، وأن تكون كثيرة وعديدة، وحصينة وآمنة، وأن يكون الاهتمام بها كبيراً بنفس درجة اهتمام المقاومة بالأنفاق العسكرية، ذلك أن الانتصار لا يتحقق فقط بالمقاومة المسلحة، وبقدرة المقاومين وكفاءتهم، وبسلاحهم واستعداداتهم، إنما يصنعه ويجليه صمود الشعب وثباته، وصبره واحتماله، فلولا صبر الشعب واحتضانه للمقاومة، وإيمانه بها ونصرته لها، وتضحيته في سبيلها، لما تمكنت المقاومة من الثبات والصمود، والعطاء والبلاء المنقطع النظير، الذي أفشل العدو وأخفق مخططاته.

غزة تنتصر (66)

لا حرمة لمن لا سلاح عنده

يحاول العدو الصهيوني في محادثاته غير المباشرة مع ممثلي الشعب الفلسطيني في القاهرة، نزع سلاح المقاومة، وتجريدها من قوتها، ويبذل في سبيل ذلك قصارى جهده، ويوظف كل إمكانياته، ويؤجل ويربط ويعلق كل القضايا الأخرى بهذا البند، ويغري ويهدد، ويعد ويتوعد، ويحث الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية لمساعدته في إقرار هذا البند، والضغط على بعض الدول الداعمة لقوى المقاومة الفلسطينية، لتمارس ضغطاً عليها، وتجبرها على القبول بهذا الشرط، وأن تتنازل طوعاً عن سلاحها، وتفكك ما لديها منه، وأن تتوقف عن التصنيع والتهريب والتطوير والتدريب وبناء الأنفاق، وأن تكتفي بما أقرته اتفاقيات أوسلو من أسلحةٍ فرديةٍ محدودة ومعلومة.

وبالمقابل فإن العدو الصهيوني يعد المفاوضين في القاهرة بأن يوافق على بناء المطار وتشغيل الميناء، وفتح قطاع غزة على العالم كله عبر الجو والبر والبحر، لتبدأ عملية الاعمار، وتنهال المساعدات، وتفتح المعابر كلها ليدخل عبرها الاسمنت والحديد وكل ما يلزم الفلسطينيين، فضلاً عن زيادة حصة قطاع غزة من التيار الكهربائي ضمن الشبكة الإسرائيلية، وأنه لن يكون بعد ذلك حصارٌ ولا تجويعٌ ولا عقاب.

كما ستلتزم الحكومة الإسرائيلية بإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه والمجاري، وإصلاح المستشفيات والمراكز الصحية، وصيانة أجهزتها، وكل ما تضرر منها أثناء العدوان، كما تلتزم بالسماح بنقل المرضى والمصابين إلى مستشفيات القدس والضفة الغربية، وإلى مختلف المستشفيات الإسرائيلية، كما ستوافق على إجلاء الحالات الخطرة عبر مطار اللد الدولي إلى الدول الراغبة في استقبالهم وعلاجهم، وستوافق على إدخال قوافل الإغاثة والمساعدات الدولية التي ترصد لصالح قطاع غزة، وستقبل بوصول بعضها عبر مطار اللد ومختلف الموانئ الإسرائيلية، ثم تنقلها براً عبر البوابات المختلفة إلى قطاع غزة، حيث تعد بأن ترفع عدد الشاحنات التي تدخل قطاع غزة يومياً إلى أكثر من ألف شاحنة، تحمل مختلف المؤن والمساعدات والسلع التجارية.

كما لن تكون حروبٌ واعتداءاتٌ جديدة، واغتيالات فردية واستهدافاتٌ شخصية، كما سيعترف الكيان الإسرائيلي بحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي ستكون المسؤولة أمامه عن بنود هذا الاتفاق، وستشرف على إعادة إعمار قطاع غزة، ومراقبة استخدام الحديد والاسمنت في الأعمال المدنية فقط.

 هذا كله مقابل أن تقلم المقاومة أظافرها، وأن تنزع سلاحها، وتتعهد بألا تستعد لقتال الكيان الصهيوني مرةً أخرى، وألا تقوم بأي عملياتٍ عسكرية ضده، سواء عبر الحدود، أو من خلال الصواريخ والقذائف، في الوقت الذي تقوم فيه بتخريب الأنفاق التي تجتاز الحدود، على ألا تقوم ببناء غيرها، أو صيانة المدمر منها،  ولكن هذا كله إذا التزمت المقاومة الفلسطينية أمام الراعي والضامن والحكومة الفلسطينية بهذا الشرط، ولم تخترقه علناً أو سراً، جزئياً أو كلياً.

يدرك العدو الصهيوني تماماً أنه ما كان ليقبل بما أعلن عنه لولا سلاح المقاومة، وقتالها وصمودها وثباته أمام قوته العسكرية، فالمقاومة عموماً هي التي أجبرته على تقديم كل هذه التنازلات، وأرغمته على الحديث بلغةٍ أخرى، واستخدام مفرداتٍ لينة ومعتدلة، والاستعداد للاعتراف بحقوق سكان قطاع غزة، التي هي في الأساس حقوق فلسطينية مشروعة، لا يجوز نزعها، ولا يقبل شعبٌ بالتخلي عنها، بل يجب مقاتلة كل من يعتدي عليها، أو يحاول مصادرتها وحرمان الشعب منها.

لو لم تصمد المقاومة، وتقاتل بشجاعةٍ وبسالةٍ لافتة، لما قلق العدو الصهيوني وتراجع، إذ أثبتت المقاومة مصداقيتها، وتصدت له، ووضعت حداً لتوغلاته، وأيقظته من سكراته، وأعلمته أن الحرب هذه المرة ليست نزهة، ولا رحلة ترفيهية، ولا هي نشاطاً اعتيادياً لجيشه، يمارسه تمريناً أو تدريباً ثم يعود أدراجه من حيث أتى إلى ثكناته ومعسكراته، ولا يوجد ما يجبر حكومته على القبول والتنازل طالما أن جيشه قادرٌ على سحق المقاومة، وإخماد صوتها، ومنعها من المطالبة بحقوقها، أو الاخلال بأمنه، والإضرار بمصالحه.

علينا أن ندرك جميعاً أنه لولا سلاح المقاومة لما أوقف الكيان الصهيوني عدوانه، ولما قبل بالهدنة إثر الهدنة، ولما سافر وفده إلى القاهرة للتفاوض، ولما عقد مجلس وزرائه المصغر ليل نهار، ولما أبقى على جلساته مفتوحة كل الوقت، ولما أبدى استعداداً لدراسة المقترحات، والنزول عند الرغبات، بل لولا المقاومة ما كان لثور الخارجية الإسرائيلية الهائج ليعلن أنه بات من المناسب اليوم إعادة قراءة المبادرة السعودية، لأنه أدرك وهو المجنون الذي لا يعي ولا يعقل بسهولة، أن كيانه بات في خطر، وأن المقاومة باتت قادرة على نزع ما تريد، وتحقيق ما ترغب، ومنع العدو من تحقيق ما يريد ويرغب.

الضعف يغري الأقوياء على الاعتداء، ويدفع الخصوم إلى البغي والعدوان، فما كان الأقوياء ليحتكموا إلى العقل والمنطق لولا قوة الخصم، وما كان جيشهم ليعود إلى ثكناته، ويتكور فوق سلاحه لولا خوفه وخشيته من قوة الآخر، والضعيف ليس حكيماً بصمته، ولا حليماً بهدوئه، بل هو ذليلٌ خانع، وعاجزٌ مسكين، لا يقوى على رد الظلم، ولا منع الاعتداء، فيقبل من العدو بالصغار، ويستكين إلى جنبه راضياً بحياةٍ مهينةٍ ذليلة، يأكل فيها ويشرب، وينام ويستمتع، وإلى الجدار تحت الظل يعيش.

لا حرمة لضعيف، ولا حصانة لأعزل، ولا نصر لأعرج، ولا مكان تحت الشمس لأقرعٍ أجلح، ولا كرامة لمن يسلم بقوة العدو، ويخضع لإرادته، ويقبل بوصايته، ويعيش حياته عبداً تحت امرته، أو خادماً يؤدي له خدماتٍ بمقابل، أو حارساً يذود عنه ويدافع، أو عيناً تراقب وتتابع، وإنما القوة في السلاح، والعزة في الإعداد، والكرامة في التحدي، والقيمة في الصمود والثبات، فلا تخلي عن السلاح أبداً لأنه الهوية والكرامة والعزة.