يَقُوُل السُفَهَاءُ مِنَ النَّاسْ لا سِيَاسَةَ في الدِّينْ ولا دِيْنَ في السِّيَاسَة!!

يَقُوُل السُفَهَاءُ مِنَ النَّاسْ

لا سِيَاسَةَ في الدِّينْ ولا دِيْنَ في السِّيَاسَة!!

أبو حذيفة

الغريب أننا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بأن لا نُـؤتي السفهاءَ أموالنا، قال تعالى: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ ولكن الأغرب أننا سلَّمناهم أكثرَ من الأموال فقد سلّمناهم رَقَبَةَ البلاد والعباد، حتى أصبحوا "وهُمُ السفهاء" ساداتَنا وكبراءَنا وزعماءَنا ملوكاً ورؤساء وأمراء وسلاطين، فجعلناهم على خزائن البلاد "وهُمُ السفهاء" وجعلناهم مصدر التشريع والسلطة، فأصبحوا فينا أمرهم مطاع في كل شيء، "وهُمُ السفهاء" فَتَمَكَّنُوا هم بِدَورهم فَكيَّفوا القوانين للبلادِ والعباد لتَخدمهم هُم فيظلوا هم الأسياد على العباد "وهُمُ السفهاء"، فهذا مَلِكٌ أُمِّـيٌّ في كل شيء لكنه فينا صاحب الجلالة، وهذا أميرٌ أصله قاطِعُ طريق لكنه فينا صاحب السمو، وهذا رئيسٌ أبْـلَه لكنه فينا مُلهَمٌ في مرتبة الأنبياء - حسب وصف المنافقين له - على أن لهؤلاء السفهاء الكبار بالذات مصلحةً في أن يكونوا سفهاءَ، ولهم مصلحة في فصل الدين عن الحياة وعن السياسة وعن الدولة، لأنَّ الدينَ إذا تدخل في هذه الأشياء غيَّر حال الناسِ فَحجروا عليهم.

إذاً دعونا نعترف أن واقع حالنا يفيدُ بأننا أكثرُ سفاهةً منهم، لعدم امتثالنا لأمر الله في تعاملنا معهم، فالسفيه لا بد من أن يُحْجَر عليه وتُرعى شؤونُه من قِبل من هو بحكم وليِّه، فكيف والحال أن هذا السفيه هو الذي يَحجر على كل البلاد وكل العقلاءِ من العباد، فأي تِيْـهٍ وتوهان نعيشه؟!.

ولكن أين المشكلة؟ هل هي في الدين أم في السياسة أم في ربطهما أم في فصلهما عن بعضهما، فما معنى الدين وما معنى السياسة في اللغة والاصطلاح إن وُجِدْ؟ دعونا نبحث:-

الدين: لغةً واصطلاحاً هو اسمٌ لجميع ما يُعبد به الله، ويعني الملة ويعني السلطان والحكم.

السياسة: لغةً هي الرعايةُ والترويض، واصطلاحاً هي رعاية شؤون الناس وفق قاعدة فكرية معينة.

إذاً فالدين من حيث هو دين هو: عقيدة أو هو فكرة كلية عن الكون والحياة والإنسان، وعلاقة هذه الأشياء الثلاثة بما قبل الحياة الدنيا وما بعد الحياة الدنيا، وإذا تضمنت هذه العقيدة نظاما ينبثق عن فكرتها فإنها تُصبح مبدأً "أيدولوجية"، لأن المبدأ هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام.

أمّا السياسة من حيث هي سياسة فهي ليست عقيدة، أي ليست فكرةً بل هي طريقةٌ أو أسلوبٌ تستخدمه أي عقيدةٍ وتُقره، والطريقة تتناسب مع العقيدة تناسبا طرديا من حيث القيم المثالية أو الأخلاق، فكلما كانت العقيدة مثالية كلما كانت طريقة أو أسلوب تطبيقها في الواقع مثالية، وقد قيل "أن الغايات النبيلة تحتاج لأساليب نبيلة، وبعبارة أخرى فإذا كانت العقيدة في أساسها قائمة على النفعية فإن طريقتها وأسلوبها ووسائلها تكون تشبهها في النفعية والأنانية وانعدام الأخلاق فيها، والعقائد نوعان: الأول عقيدة سماوية يأتي بها رسول يختاره الله من بين الناس ويدعمه بالبراهين التي تثبت أنه رسول من الله وذلك بالمعجزات الخارقة ليصدقه الناس فيؤمنوا به ويتبعوه. والنوع الثاني: عقيدة وضعيَّة من وضع البشر، ولكنها تعطي أيضا فكرة كلية عن الكون والحياة والإنسان، وعما قبل الحياة الدنيا وما بعدها، ورُبَّ سائِل يَسأل: وهل هناك عقائد من إنتاج البشر؟! نقول له: نعم فالعقيدة الاشتراكية ومنها الشيوعية عقيدةٌ وضعية، وكذلك العقيدة الرأسمالية هي عقيدة وضعية أيضا، ولكن السؤال الأَهم هو: ما الذي دفع البشر إلى وضع عقائد من إنتاج عقولهم ما دام هناك عقائد سماوية؟! وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من التفصيل الموجز قليلاً للتمكن من الوُلُوجِ في صُلبِ موضوعنا، فقد كانت أوروبا تعيش عصور ظلامٍ من ناحية فكرية وبالذات من ناحية علاقة الحاكم بالمحكوم والإقطاعي بالأجير، وكان لنظام الحكم فيها جناحان؛ جناح القيصر وجناح البابا، أي رجل الدولة ورجل الدين حسبما يسمونه، فكان البابا يصدر الفتاوي التي تساعد القيصر على حكم الناس باسم الكنيسة وكان القيصر يحكم الناس ويظلمهم باسم الدين بمساعدة فتاوي الكنيسة فيستعبدوا الناس، والمستفيد من هذا النظام هو القيصر والبابا، وباقي الناس يدورون في خدمتهم لا غير، فَسَادَ الظلم لفترة طويلة، وقد سُميت هذه الفترة بعُصُور الظلام من شدة ظلم الإنسان للإنسان، ثم بدأت حركات التحرر من هذا النظام الظالم، فانقسم المفكرون والمُنَظِّرون لهذه الحركات أثناء محاولتهم الخروجَ من هذه الحالةِ الاجتماعية والسياسية المُزرية التي عاشوا فيها طويلاً فاقدين لآدميتهم فكانوا يرون أنفسهم عبيداً للبابا والقيصر باسم الدين، فكان أن قال بعض المفكرين بنظرية الاشتراكية والتي لخَّصوها بشعارهم الفكري القائل "أن لا إله والحياة مادة"  وسُمِّي هذا المبدأ بالمبدأ الإشتراكي، أما بعض المفكرين الآخرين فنادوا بفكرة مفادها أننا لن نبحث في مسألة وجود الله من عدمه وسنذهب إلى الوسطية فلن ننكر وجود الله ولكننا لن نسمح له بالتدخل في حياتنا، ومن أراد الله فليذهب إليه في الكنيسة، ولُخِّصت هذه النظرية بشعارهم الفكري القائل "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وهي نظرية فصل الدين عن الحياة وهي بالتالي فصل الدين عن السياسة وعن الدولة أيضا، وسُمِّيَ هذا المبدأ بالمبدأ الرأسمالي من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه حيث كان النظام الاقتصادي ورأس المال فيه هو الأبرز، لاحظ أن مضمون كلتا النظريتين يوضح أن هناك مشكلة مع الكنيسة التي اعتبروها سبب شقائهم، فلولا الفتاوى التي يصدرها البابا ما كان للقيصر أن يستبد بحكمه، لكن الكنيسة أعطت الغطاء الديني لتبرير الاستبداد بنظرهم، فكان الأمر منصبا على إما إلغاء الكنيسة والدين بتاتاً أو إبعادها عن واقع الحياة مع الإبقاء عليها لمن أراد أن يتعبد لله، أما حياة الناس فلا مجال لإقحام الدين فيها. والمهم هنا أن نفهم أن نشوء هذين المبدأين كان كردة فعل على وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي متردٍّ جداً تذمر منه الناس، وكان تذمر الناس مُنصبا بالأساس على دور الكنيسة في تفاقم أوضاعهم، حيث إن كلاهما حمَّل الكنيسة مسؤولية هذا التدهور، ومن هنا جاءت نظرية إنكار وجود الدين في واقع الحياة، ونظرية فصل الدين عن الحياة وعن السياسة وعن الدولة، وذلك لظلم الدين لهم على حد تشخيصهم لأسباب المعاناة التي يعيشونها. وهنا يعترضنا سؤال بقوَّةٍ: هل تعرضنا نحن كمسلمين لظلم ديننا لنا كما تعرضوا هم؟! أي هل ظلم الإسلام أتباعه ليلجأوا لهكذا نظريات أفسدت عندنا الحرث والنسل؟! أم أن الواقع يقول أننا عندما تخلَّينا عن ديننا وأبعدناه عن واقع الحياة وعن السياسة عدنا نعيش كما عاشت أوروبا في عصور الظلام هذه؟! فأصبح شيوخ السلاطين يفتون، والطاغية يحكم، أليس هذا هو حالنا وسبب بلائنا اليوم؟! بدليل أن الناس يطالبون بالعودة إلى تطبيق دينهم وأحكامه للخلاص من هذا الظلم، وذلك لمِا عرفوا في دينهم من عدل ومساواة بين الحاكم والمحكوم ناهيك عن العيش الرغيد الكريم الذي تحقق لهم في ظل تطبيق أحكام دينهم عليهم.

والعقائد بنوعيها قسمان: القسم الأول عقيدة تتضمن نظاما ينبثق عنها، أي أن بداخل فكرة هذه العقيدة تفاصيل واضحة على شكل قوانين وقواعد تنظم بموجبها سلوك من يعتنق هذه العقيدة، كعقيدتنا الإسلامية مثلا، فالإسلام حسب تعريفه الاصطلاحي هو الدين الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لينظم علاقة الإنسان بخالقة وهي العقائد والعبادات، وعلاقته بنفسه وهي الأخلاق والمطعومات والملبوسات، وعلاقته بغيره من بني الإنسان وهي المعاملات والعقوبات، ومعنى تنظيم العلاقة هنا هو وضع قواعد وضوابط لهذه العلاقات يسير الإنسان وفقها أثناء ممارسته لنشاطات حياته. القسم الثاني: عقيدة لا تتضمن نظاما ينبثق عنها لكنها عقيدة روحية عالجت جانبا واحدا أو أكثر من جوانب السلوك البشري لكنها لم تُعطِ مُعالجات تَحل مشاكل الإنسان كلها، طبعا هذا مفهوم ومعلوم من الحياة بالضرورة حيث إن أهل هذه العقائد لم يدَّعوا لها نظاما شاملاً انبثق عنها كعقيدة سماوية تعالج كل مشاكل الإنسان.

وفصل الدين عن الحياة ثم عن السياسة التي هي جزءٌ من الحياة ثم عن الدولة التي هي عنوان السياسة صعبٌ في كل الأديان، لكنَّه في الإسلام مستحيلٌ قولاً واحداً، وبرهان ذلك عقلي بحت، فدعونا نُخضِع مُسلماً لهذه التجربة لنفصل دينه عن حياته، لاحظ أننا سنُخضِع إنسانا مسلماً يعتنق الدين الإسلامي، الذي فَصّلنا تعريفه فيما سبق، فهذا الإنسان المسلم يتدخل الإسلام في تفاصيل حياته كلها حتى الشخصية منها، ماذا يأكل ويشرب وأحيانا متى يأكل ويشرب وكيف يأكل؟ ويحرّم عليه بعض المأكولات والمشروبات فنجد الإسلام يتصدى لحاجات هذا المسلم الخاصَّة كلها دون استثناءٍ حتى لو أراد دخول الحمام، يُبِيح له ويحرم عليه، والمسلم مؤمن بأن هذا النمط من العيش هو الذي يناسبه كإنسان في هذه الحياة، كذلك تجده يُصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتصدق ويفعل الخير ويبتعد عن فعل الشر فقط إرضاءً لربه لأنه طامعٌ في أن يفوز بحياةٍ سعيدة بعد الممات، ثم إنك تجده يتعامل مع الناس وفق ضوابط دينية محدده لا يتجاوزها، فالدين يتدخل في حياته حتى مع الآخرين في كل شيء، فيُحدد له كيف يكسب العيش ويُحَّرِم عليه السرقة والربا كطرق للكسب، ويُحدد له كيف يشبع رغبته الجنسية بالزواج ويحدد له مَنْ يتزوج ويحرم عليه الزنا... وهذا ينطبق على كل نشاطات حياته ومنها السياسية، فالدين يضبط ويحدد له مساراً محددا لا يجوز له أن يخرج عليه مهما كلفه الأمر، فما دام مسلماً رضي بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالقرآنِ كتاباً وبالإسلامِ دينا، فهذا يعني أن عليه أن يسمع كلام الله وكلام محمد  ويطيعهما، وبالتالي سيجد نفسه يسير وفقا لما قال الله ورسوله، فكيف بالله عليك تستطيع أن تفصل حياة هذا الإنسان عن دينه؟ ثم عن سياسته ثم عن دولته؟ إذا كان دينه هو حياته وحياته هي دينه، فإن حدثته في موضوع نظام الحكم بالديمقراطيه يرد عليك ويقول: وهل حكمنا رسولنا الكريم بالديمقراطية؟! فلا أقبل هذا النظام لأنه نظام دخيل علينا فأنا لديّ نظامي الذي يناسبني ويرضي ربي وهو نظام الخلافة التي علَّمنا إياها رسولُنا الكريم وطبقه علينا خلفاؤه الراشدون فتحقق العدل والسعادة والعيش الكريم.

هذا عبث فكري سياسي وإضاعة للوقت والجهد، هذا هراءٌ واستهلاكٌ للعقل في غيرِ محله، وهذا العبث والهراء وراءه جهات تغذيه لأنه في صالحها مع أنه ليس في صالح الإنسان ولا الإنسانية، وهذا لا يصح أن يُسْمَعَ إلا من سفيه أو أحمق لا يفهم من أين أتى لهذه الحياة ولماذا أتى إليها وإلى أين مصيره بعد الموت؟!

بقيت مسألة: فلا بد أن نعترف ابتداءً بأن كثيراً من أبناءِ أمتنا الإسلامية ليس لديهم حَدٌ أدنى من الثقافة الإسلامية أي لا يعرفون عن إسلامهم إلا اسمه، ولا يعرفُ من إسلامه إلا أنه مسلم بالعدد، فالمصيبة أن هذا الكثير من المسلمين لا يعرف أن إسلامه هو دين ونظام حياة وليس دينا كهنوتيا، وفوق ذلك فهو يكاد لا يعرف أساسيات لُغته العربية التي هي لغة الإسلام، فلا عجب في هذا الزمان أن تقابل شاباً مسلماً جامعيا لكن لا يفرق بين الاسم والفعل والحرف، ولا غرابة في أن تجد شابا مسلما آخر تتحدث إليه فيقوم باستخدام كلمات إنجليزية ليوضح لك جملته العربية، فتعرف أنه مثقف في كل شيء إلا ثقافته العربية الإسلامية، والأدهى من ذلك والأمر أن هذا الشاب وأمثاله هم من يُردِّدون كالببغاء "نريد فصل الدين عن الحياة أو عن السياسة أو عن الدولة"، يقولها بصوتٍ عالٍ كأنه يفهم واقع ما يقول، أقول دعونا نعترف ابتداء بأن هذا الواقع موجود في سوق حياتنا الفكرية وبكثرةٍ، والاعتراف بوجود هذه الظاهرة التي يعاني منها المجتمع في بعض مكوناته، يُحَتِّم علينا أن نبذل جهوداً خاصة لإنقاذ هؤلاء الشباب والشابات من براثن جهل مُمنهج ليسوا هم السببَ فيه بل هم الضحيةُ، لنخلص إلى القول بأن المشكلة هي في فصل الدين عن الحياة، فلم يرتقِ الإنسان عن مستوى الحيوان إلا عندما علمه الدين كيف يكون إنسانا، وأنه إذا فصل دينه عن حياته عاد يعيش حياة البهائم لا بل هي أضل.