تنظيم «داعش» ما هو.. وماذا يمثّل.. ومصالح مَن يخدم؟

تنظيم «داعش» ما هو.. وماذا يمثّل..

ومصالح مَن يخدم؟

في حلقة هذا الأسبوع من «سجالات» نتناول طبيعة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على خلفية الأوضاع المتفجرة والمتلاحقة في كل من العراق وسوريا ولبنان، واستدراج هذا التنظيم المتشدد تدخلاً أميركيًّا انتظره كثيرون في سوريا لوقف نزف الدماء وقتل الأبرياء لكنه لم يأت. اليوم نبحث في هوية تنظيم «داعش»، وماذا يمثل، ومصالح مَن يخدم. ونطرح في هذا السياق سؤالين على أربعة من الخبراء والمتخصصين. السؤال الأول هو: هل توجد لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» استراتيجية واضحة لسعيه السيطرة على شمال المشرق العربي؟ ويجيب عليه الدكتور محمد آل رلفة عضو مجلس الشورى السعودي السابق، والدكتور مصطفى العاني الباحث الاستراتيجي العراقي ومدير قسم الدراسات الأمنية والدفاعية في مركز الخليج للأبحاث – جنيف. والسؤال الثاني هو: وهل ترى تقاطع المصالح والحسابات الإقليمية عاملاً ذا تأثير مباشر وراء البروز المفاجئ لـ«داعش»؟ ويجيب عليه حسن أبو هنية الباحث الأردني المتخصص بشؤون الحركات الجهادية، والباحث العراقي في الشؤون الأمنية الدكتور هشام الهاشمي.

هل توجد لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» استراتيجية واضحة للسيطرة على شمال المشرق العربي؟

د. مصطفى العاني  باحث استراتيجي عراقي، مدير قسم الدراسات الأمنية والدفاعية في مركز الخليج للأبحاث – جنيف.

29.06.2014

نعم لأنه لا قيام لأي مشروع «دولة» في غياب السيطرة على حيّز من الأرض.

حلم السيطرة على الأرض وتأسيس كيان خاص هو حلم راود عقلية قيادات الجماعات الإرهابية منذ أيامها الأولى، وما زال يمثل أحد أهم أهداف هذه الجماعات. فالطموح النهائي لهذه التنظيمات هو تأسيس كيان سياسي يخضع لسيطرتهم وتطبق فيه عقائدهم. وقد أدركت قيادات التنظيم أن هناك وسيلتين يمكن من خلالهما تحقيق هذا الحلم. أولاهما العمل على الاستيلاء على السلطة في دولة ما والعمل من خلال السيطرة على السلطة على تغير طبيعة الدولة والمجتمع بما يلائم عقائد وتصورات هذه الجماعة. وثانيتهما هي اقتطاع أجزاء جغرافية من دولة محددة، أو دول متعددة، تتشارك في الامتداد الجغرافي. وتأسيس كيان سياسي على هذه الأجزاء تطبق فيه عقائد التنظيم المتطرفة.

فتنظيم القاعدة السعودي الذي بدأت عملية المواجهة المباشرة معه عام 2003 لم يكن تنظيما إرهابيا فقط، بمعنى تنظيم مهمته مجرد تنفيذ عمليات هجومية إرهابية، بل كان هدف التنظيم الحقيقي الاستيلاء على السلطة في المملكة العربية السعودية وتحويل المملكة إلى دولة تتبع عقيدة التنظيم في جميع مجالاتها. ولقد أكدت المعلومات الانتشار الجغرافي الواسع لخلايا التنظيم والتي شملت معظم، إن لم يكن جميع، أجزاء المملكة، وهو ضرورة لخطة الاستيلاء على السلطة. وبرزت دلائل على أن استخدام الإرهاب من قبل التنظيم كان مجرد وسيلة لتحقيق هدف الاستيلاء على السلطة. وقدر الله أن تنجو المملكة من هذه الشرور، وتتمكن من القضاء على التنظيم وأهدافه الخطيرة.

حلم التنظيم الإرهابي في تعزيز السيطرة على الأرض انتقل جغرافيًّا من مواقع متعددة ومتباعدة ومترامية الأطراف، بناءً على الظروف المتوفرة. ففي مرحلة معينة كان العمل جادًّا في تحقيق حلم السيطرة على أفغانستان أو جزء منها. ثم تطور الحلم في العمل على السيطرة على اليمن أو جزء منها. ثم انتقل إلى قارة أخرى، وتمثل بحلم السيطرة على جمهورية مالي أو جزء منها في قلب الصحراء الأفريقية.

لذا فإن حلم إنشاء «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وقبلها حلم إنشاء «دولة العراق الإسلامية» من الأهداف الاستراتيجية العليا التي عملت وتعمل لتحقيقها التنظيمات الإرهابية، خصوصا التنظيمات التي تنتمي إلى مدرسة «القاعدة» الفكرية. ومفهوم الدولة في القانون الدولي يتطلب توفر عناصر أساسية، أهمها عنصر توفر السيطرة على قطعة أرض ووجوب فرض حقوق السيادة على هذه الأرض وعلى من يسكن عليها من المواطنين.

ثم إن تجربة مشروع «دولة العراق الإسلامية»، التي سبقت مشروع تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والتي برزت للوجود العلني في أكتوبر (تشرين الأول) 2006، سعت لإلغاء جميع التنظيمات المنافسة لها، الإسلامية وغير الإسلامية منها، في عملية هدفها تحقيق احتكار تام للسلطة، باستخدام وسائل الترغيب ثم الترهيب، وأخيرًا اللجوء إلى عمليات الإبادة الجماعية للمنافسين والخصوم الذين رفضوا الانطواء تحت راية «الدولة». والأسلوب نفسه جرى اتباعه بعد إعلان تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في أبريل (نيسان) 2013.

ما تؤكده الحقائق والوقائع التي شاهدناها خلال السنوات الثماني الماضية، أي منذ إعلان أول «دولة» لتنظيم القاعدة في المشرق العربي، وهي «دولة العراق الإسلامية» في عام 2006، أن التنظيم عمل بجد ووحشية، وسيبقى يعمل بزخم ويسخّر جميع إمكانياته لتحقيق هدف إنشاء «الدولة الحلم» التي ستمنح فكر التنظيم وعقائده انعكاسًا واقعيًّا على الأرض لبناء «الدولة المثالية» التي ينادي بها. وهذا على الرغم من أن تجارب التنظيم في بناء «الدول» التي شهدناها في أفغانستان والعراق واليمن ومالي وغيرها جوبهت برفض شعبي عارم من قبل المواطن العادي، خصوصا من قبل من قاده حظه العاثر ليخضع لسيطرة «مشاريع الدول» التي تتبع الفكر «القاعدي» المتطرف، ولو لفترة قصيرة.

لذا فإننا نتوقع أن تواصل التنظيمات الإرهابية، وخصوصا تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، العمل على تحقيق أهدافها في التوسع الجغرافي وفرض السيطرة على الأرض، وخصوصا في منطقة شمال المشرق العربي التي أمست فيها الظروف – حسب تقديرات قيادات التنظيم – مهيأة لتكون «حاضنة» مشروع الدولة الموعودة. وكذلك محاولة الحصول على الشرعية عبر استخدام القوة المفرطة وترهيب المواطنين للخضوع القسري لأهداف التنظيم.

إن التنظيم يمتلك استراتيجية واضحة المعالم تجعل من فرض السيطرة على الأرض كأول خطوة أو متطلب أساسي لإدراك الهدف الأسمى وهو تأسيس دولة أو دويلة تقوم أنظمتها على عقائد التنظيم، وتكون نواة لمشروع واسع لتأسيس «إمبراطورية إقليمية» تخضع لحكم التنظيم وعقائده المتطرفة، وتشمل جميع أرجاء العالم الإسلامي.

وما يجري في أجزاء من سوريا والعراق اليوم من محاولات تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» للتمدّد الجغرافي يجب أن يؤخذ بجدية من دون تهاون أو تراخٍ، وذلك لكون السيطرة على الأرض وإنشاء الدولة يُعدان من الأهداف الاستراتيجية العليا وواضحة المعالم التي يتبناها التنظيم الإرهابي بشكل علني ورسمي. ولا يوجد إشكال أو لبس أو تأويل حول هذا الهدف، فالتنظيم سيبذل محاولات للتوسّع والتمدّد الجغرافي كلما سمحت الظروف بذلك، وسيقوم بتهيئة الظروف التي تساعد على ضمان هذا التوسع الجغرافي، ولن يتنازل عن الجهد المتواصل لتحقيق هذا الهدف إلا إذا أجبر على التخلي عنه بوسائل القوة.

د. محمد آل زلفة: عضو سابق في مجلس الشورى السعودي – أكاديمي وباحث.

لا «داعش» حركة غامضة أفرزتها الظروف وخدمها غُبن المكون السني العراقي

29.06.2014

«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) منظمة إرهابية أفرزتها الظروف التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حيث حلّت هناك محل «القاعدة» التي قضى عليها الاحتلال بالتعاون مع الصحوات العشائرية العراقية، التي ضاقت ذرعًا بتسلط «القاعدة»، بمجيء نوري المالكي إلى سدة الحكم رئيسا لحكومة العراق.

والمالكي حقًّا ما كان إلا رئيسا لِطَيف واحد من الشعب العراقي هو الشيعة، وما كان له حظ بتولّي الحكم لولا الدعم غير المحدود له من قبل إيران التي غدت صاحبة الكلمة العليا في تسيير أمور الحكومة العراقية. وقامت سياسة المالكي تجاه عشائر العرب السنّة على التهميش والإقصاء وقطع المخصصات والتضييق على مصادر أرزاقهم. وعندها بدأت تظهر بوادر تكوين ما بات يعرف بـ«دولة العراق الإسلامية».

ومع بداية اندلاع الثورة السورية عام 2011 التي بدأت سلمية، ومواجهة النظام هذه الثورة بالسلاح ومنع المجتمع الدعم عن الثوار، أصبحت الساحة السورية مفتوحة أمام الكثير من المنظمات الجهادية الإسلامية بما فيها تلك المصنفة بـ«الإرهابية» بحجة مناصرة الشعب السوري ضد نظام يقتل شعبه. بين هذه المنظمات «داعش».

نشأة «داعش» لا يزال يكتنفها الغموض وكذلك الجهة التي تقف وراءها والأهداف التي تعمل لتحقيقها. هناك اعتقاد بأنها صنيعة مخابرات دولية أو إقليمية وثمة أطراف متعددة متهمة بصناعتها. البعض يعتقد ولديه دلائله بأنها صنيعة إيرانية – سورية.. ومن الأدلة وقوفها بجانب النظام السوري ومحاربتها خصومه كـ«الجيش الحرّ» وبعض المنظمات التي كانت حقًّا تحارب النظام، ومنها أن النظام لم يضرب أيا من قواعد «داعش» داخل سوريا…إلا بالأمس بعد دخولها لشمال العراق، فقام الطيران السوري بضربها في القائم.

أيضا هناك من يرى أن «داعش» صناعة تركية ربما لتوظيفها في مشروعها الإسلامي لإعادة دولة الخلافة، لكننا نجد أن تركيا – بعدما استشعرت خطرها – صنفتها كمنظمة إرهابية، بينما في بداية نشأتها كان معظم من يجند في صفوفها من أوروبا ومن مناطق أخرى يلتحقون بها مستفيدين من التسهيلات التي كانت تقدمها لهم تركيا. وهناك من يعتقد أنها تحصل على تموينها من قطر، بالتنسيق مع تركيا، ربما نكاية بالأطراف التي ساهمت في تقويض حكم الإسلام السياسي. وهناك إيران وأتباعها في بغداد ودمشق والضاحية الجنوبية في بيروت، يتهمون السعودية بأنها من خلق «داعش» ويدللون على ذلك بوجود بعض السعوديين المغرّر بهم في صفوفها، ولكن الرد على مثل هذا الاتهام هو ما أصدرته الحكومة السعودية منذ فترة من قانون اعتبرت «داعش» منظمة إرهابية ومحاكمة كل سعودي يشارك في القتال معها. وأخيرًا، هناك حتى من يعتقد بأنها صناعة أميركية.

المجتمع الدولي والارتباك في السياسات لدى صانعي القرار في العواصم الكبرى والتحيّز الروسي والصيني، ومعهما إيران «الفاعل الأكبر» لكل ما يحدث في سوريا من جرائم، هو ما جعل سوريا ساحة لكل أنواع الإرهاب. إذ لو وقف المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي إلى جانب الثوار السوريين منذ الشهور الأولى من قيام ثورتهم السلمية لما أصبحت سوريا مسرحًا لكل أنواع الإرهاب، بما في ذلك إرهاب الدول والأنظمة. فنظام الأسد يفعل في الشعب السوري والمدن السورية والثقافة والحضارة السورية أشد ما تفعله تلك المنظمات الإرهابية مجتمعة، يسانده في أعماله الإرهابية إيران وروسيا ومعهما الصين.

ولكن، فجأة، يوم 29 يونيو (حزيران) 2014 صحا العالم على حملة «داعشية» احتلت خلال ساعات كل شمال وغرب العراق أو ما يوازي 60 في المائة من مساحة البلاد، وكانت الدهشة الكبرى لكل العالم استسلام جيش نوري المالكي، وهو بالآلاف، ومزوّد بالعتاد والعدة أمام بضع مئات من مقاتلي «داعش». نعم، كل الدلائل تشير إلى أنه ما كان هذا العدد القليل ليهزم جيشًا بضخامة جيش المالكي لو لم تكن له أرض صلبة يقف عليها، وحاضنة جماهيرية من أهم مكوّنات الشعب العراقي وهم عشائر وقبائل وكل سكان المكوّن السني… الذي هُمّش وأُقصي منذ احتلال أميركا – وظهيرها إيران – العراق عام 2003.. مع مَن جاء على ظهور الدبابات الأميركية والإيرانية. هؤلاء هم مَن يحكم العراق الآن وعلى رأسهم المالكي الذي لم يتوانَ في إلحاق الأذى بالمكوّن السني وتهميش دوره السياسي وسلبه حقوقه، متناسيًا أو متجاهلا أن أعدادًا كبيرة من منسوبي الجيش العراقي قبل حله… من أبناء قبائل وعشائر وأهل محافظات الأنبار وصلاح الدين وتكريت وغيرها من المناطق الشمالية. وهؤلاء يناصرون «داعش» لا حبًّا بها، بل كرها بحكومة المالكي التي أذاقتهم أنواع العذاب وأهملت مطالبهم طيلة أكثر من سنة… كانوا يطالبون خلالها بحقوقهم بالطرق السلمية.

هنا وجدت حكومة المالكي نفسها في مأزق وحرج، وشعرت بالخوف أن من استطاع أن يستولي على كل شمال العراق خلال ساعات لقادر على بلوغ بغداد خلال أيام. ومن هنا بدأت أنظار العالم تتجه إلى ما يحدث في العراق وبدأت صرخات استنجاد حكومة المالكي بحليفته وصانعته أميركا، والتهديد بطلب التدخل الإيراني إن لم يأتِ الأمريكان للدفاع عن نظامه الطائفي.

الآن ماذا تريد «داعش» بعدما أشعلت شرارة الثورة الجماهيرية في شمال العراق وغربه، التي لا أعتقد أن المالكي قادر على إخمادها.. ما لم يعد النظر في كل العملية السياسية التي بنيت على غير هدى مباشرة بعد الاحتلال الأميركي؟

«داعش» مصدر قلق لكل المنطقة، فالآن لا أحد يعرف هي مع مَن وضد مَن، وهي أصبحت مصدر تهديد لكل ما هو قائم من أنظمة سنية أو شيعية، كونها تريد أن تخلق لها نظامها الخاص بها. ولكن في المقابل، لا أحد يعرف ماذا تريد. أو ما فلسفتها أو تصورها لمستقبلها إذا كان لها فلسفة. وهي حتى إن قالت إنها تريد إقامة «دولة الخلافة» لا أحد يعرف تلك الخلافة التي تحلم بإقامتها. لقد رسمت لنفسها خريطة تريد أن تقيم عليها دولتها تمتد من حلب شمالاً إلى البصرة جنوبًا، واختارت المنطقة ذات الطبيعة الجغرافية المختلفة والمأهولة في غالبها بالعشائر العربية. وهي قد ترى أنها وجدت أرضية متفقة مع بعض أفكارها ورؤاها مستلهمة التاريخ الموغل في قدمه… ووضع تلك العشائر التي تحسّ بأنها دائما تعيش على الهامش والآن تبحث لها عن دور. وقد يكون البعض وجد أن «داعش» هي من يحقّق لهم ما حرموا منه على مدى قرون. وربما بإقامة هذا الحزام العشائري الممتدّ على مساحة هذه الرقعة الجغرافية ذات الأغلبية السنّية تقطع الطريق على ما تحاول إيران بناءه، أي ذلك «الهلال الشيعي» الممتدّ من قُم فبغداد فدمشق فجنوب لبنان.

ختامًا، يطل الغموض الذي يحيط بطبيعة هذه الظاهرة «الداعشية»، التي لا يعرف العالم عنها إلا أنها منظمة إرهابية تعتمد العنف والغلو والقتل. وهذه أعمال لا يقبلها عقل ولا دين ولا أي مجتمع متحضر، وستجد نفسها في مواجهة مع المجتمع… ما سيؤدي بها إلى النهاية وتبقى حدثًا عابرًا في تاريخ نشوء الحركات المتطرفة التي كثيرا ما شهدتها هذه المنطقة على مرّ تاريخها.

حس ابو هنية  باحث أردني متخصص في شؤون الحركات الجهادية.

29.06.204

نعم سياسات إيران الطائفية إقليميًّا.. قدّمت خدمات موضوعية ثمينة جدًّا لـ«داعش»

السبت 1 شهر رمضان 1435 هـ – 29 يونيو 2014 مـ , الساعة: 23:45 رقم العدد [12997]

شكلت العلاقات المفترضة بين إيران و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) أحد أبرز خطوط الصراع والنزاع في سياق اللعبة الاستراتيجية المحتدمة في المشرق العربي، بلغت حدا من المفارقة الفجة في سوريا والعراق. ففي الوقت الذي يتهم أنصار الثورة السورية والعراقية «داعش» بأنها صنيعة إيرانية، تنقلب التهمة لدى أنصار نوري المالكي وبشار الأسد وتصبح «داعش» أداة خليجية. إلا أن الأدلة المقدّمة للمعادلة بين إيران و«داعش» تقوم على أساس «تحالف موضوعي» يحقق كلاهما مصالحه دون الحاجة إلى عقد اتفاقيات مباشرة ولا دعم منظور. ولا يبدو أن الجدل سيتلاشى، فقد انتقل النقاش والسجال من المجال السياسي العام إلى الفضاء الخاص للسلفية الجهادية عموما وتنظيم «القاعدة» خصوصا، فالعلاقات بين إيران و«القاعدة» مرت بجملة من التحولات نظرًا لوجود تباينات أيديولوجية، وكان الاحتلال الأميركي للعراق إحدى نقاط الخلاف الجوهرية، إذ تزامن التحول في السياسة الإيرانية مع حدوث فرز داخل تنظيم القاعدة حول الموقف من إيران، حيث برز اتجاهان مختلفان:

الأول: تبناه القادة الكبار في تنظيم القاعدة، وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وقام على أساس محاولة استمالة إيران للاستفادة من وجودها في العراق لمواجهة الاحتلال الأميركي، باعتباره عدوًّا مشتركًا للطرفين، وتحاشي مواجهتها التي يمكن أن تنتج تداعيات سلبية على التنظيم.

والثاني: تبناه قادة تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» وعلى رأسهم أبو مصعب الزرقاوي، وقام على أن المشروع الإيراني في العراق لا يقل خطورة عن المشروع الأميركي.

تضررت العلاقة بين إيران و«القاعدة» عقب الثورة السورية، فهيمنة المنظور الهوياتي الطائفي في تصور طبيعة الصراع في سوريا قلب التحالفات الموضوعية، وبهذا فإن إيران وحلفاءها أصبحوا في دائرة الاستهداف «القاعدي». وعلى الرغم من أن العلاقة بين إيران و«القاعدة» كانت دائما متوترة فإنها تدهورت بعد عام 2011 حين وقف الجانبان على طرفي نقيض بسبب ما حدث على الجبهة السورية.

في سياق الخلاف داخل تنظيم القاعدة كشف تمرّد الفرع العراقي عن صراع حاد حول تمثيل القاعدة، الأمر الذي دفع الفرع المتمرد إلى الإعلان عن طبيعة العلاقة مع إيران. فقد اتهم الناطق الرسمي لـ«داعش» أبو محمد العدناني يوم 11 مايو (أيار) 2014 عبر رسالة صوتية بعنوان «عذرا أمير القاعدة»، قيادة «القاعدة» المركزية بالانحراف عن المنهج ونسج علاقات مشبوهة مع إيران، إذ أقرّ بأن «للقاعدة دينا ثمينا في عنق إيران»، كما أن «داعش» «لم تضرب في إيران تلبية لطلب (القاعدة).. للحفاظ على مصالحها – أي (القاعدة) – وخطوط إمدادها».

ما يقوله العدناني لا يبتعد عن الحقيقة، إلا أنه يقتصد في سردها في سياق الصراع على تمثيل واحتكار «القاعدة» كعلامة رائجة لكسب الأتباع والأنصار. الحقيقة تتمثل باستثمار إيران لكلا الطرفين في تثبيت نفسها كقوة إقليمية، فقد عمدت إيران على رسم استراتيجية في سوريا تقوم على التخلص من المعارضة السنيّة المسلحة المعتدلة وتجنب التعرض لدولة البغدادي، عبر محاصرة حركات المعارضة المعتدلة ووضعها بين مطرقة ميليشيات الأسد وميليشيات «داعش».

سياسات الهوية الطائفية التي اعتمدتها إيران للتخلص من استحقاقات عادلة في سوريا والعراق مكنت «دولة البغدادي» اليوم من السيطرة على مساحات شاسعة غرب العراق، وخصوصًا، محافظة الأنبار ثم نينوى وصلاح الدين، وشرق سوريا وبالذات محافظة الرقة ودير الزور والحسكة. وعلى الرغم من قوة تنظيم «داعش» الذاتية فإن قوتها الحقيقية موضوعية، ذلك أن السياسات الهوياتية والمشكلات السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم.

وإذا كانت سياسات إيران الهوياتية الطائفية قد ساندت المالكي والأسد على أساس تأكيدات الهوية، فإن سياسات الهوية الطائفية تمثل أحد أهم المرتكزات الأيديولوجية لـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، إذ يقوم التنظيم منذ تأسيسه على الحفاظ على مستوى مرتفع من التحشيد الطائفي لضمان عمليات الاستقطاب والتعبئة والتجنيد لعناصره وأنصاره. ولقد ساهمت سياسات المالكي والأسد الطائفية وظهيرهما الإيراني على إمداد تنظيم «داعش» بالذرائع الأيديولوجية اللازمة لانتشار التنظيم وازدهاره. كذلك عملت السياسة الإيرانية على بناء استراتيجية في العراق وسوريا تقوم على اختزال الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية واختطاف الثورات الشعبية السلمية باعتبارها ذات طبائع هوياتية طائفية وإرهابوية. وعقب أكثر من ثلاث سنوات من التهرّب من المطالبات العادلة والمحقة تولّدت قناعة في العراق وسوريا على أن الطائفية هي المحرّك الأساس للسياسات الإيرانية، الأمر الذي عمل على بعث الحياة في مفاصل «القاعدة» في العراق وسوريا والمنطقة بأسرها.

عقب سقوط الموصل برزت سياسات الهوية لدى إيران وحليفها المالكي من جهة، وتنظيم «داعش» من جهة أخرى، وبدلاً من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب العادلة، توجه الطرفان نحو مزيد من سياسات الهوية الطائفية. إذ دعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي علنًا إلى تعبئة ميليشيات شعبية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا للسيستاني بالإعلان عن وجوب «الجهاد الكفائي»، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكل التيارات الشيعية الصدرية وغيرها، بحجة حماية المراقد المقدسة.

أما «داعش» فقد أعلنت على لسان ناطقها الرسمي أبو محمد العدناني من خلال كلمة صوتية مسجلة بعنوان «ما أصابك من حسنة فمن الله» عن مواصلة زحفها وتوسعها.

لم يكن ممكنا لـ«دولة البغدادي» أن تتمدد وتتحول من العالم الافتراضي إلى الواقعي إلا عبر سياسات إيران الطائفية الفجة، ولا جدال في أن «دولة البغدادي» تماهت مع الأطروحة الإيرانية الطائفية، وباتت تتمتع بقوة كبيرة بشرية وعسكرية ومالية وإعلامية وتقنية، فجدول أعمالها يقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة «المشروع الصفوي»، كما تصفه.

الإطار الجامع بين إيران و«داعش» هو الاعتماد على سياسات الهوية الطائفية… ففي الوقت الذي كانت إيران تدعم سياسات المالكي والأسد الطائفية، كانت تقدم موضوعيًّا خدماتها لـ«دولة البغدادي» التي كانت تؤكد على صواب نهجها الهوياتي، وبهذا يمكن القول بانتفاء أي علاقة بين إيران و«داعش» عمليًّا ولكن تأكيدها موضوعيًّا.

د. هشام الهاشمي باحث عراقي في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة

29.06.2014

لا نتاج حالة تنظيمية لها ديناميكيتها.. وإن كانت استفادت من الظروف الإقليمية.

«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) هي امتداد لـ«الدولة الإسلامية في العراق» التي أسسها أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي) يوم 15 أكتوبر 2006. وفي 19 أبريل 2010 بعملية «وثبة الأسد» قتل أبو عمر البغدادي ووزير الحرب أبو حمزة المهاجر، وخلال أقل من شهر جرت مبايعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي) «أميرًا» لـ«الدولة الإسلامية في العراق». وعندما قرّر أبو بكر البغدادي دخول سوريا بدأ أولاً بإرسال الدعاة الذين كان لهم أثر في إحداث الحماسة وإنهاض روح الجهاد والقتال ضد نظام بشار الأسد. وأسسوا خلايا نائمة مؤيدة لـ«دولة العراق الإسلامية» وكان على رأس هذه المجموعة المدعو أبو محمد الجولاني (عدنان الحاج علي) وأبو عبد العزيز القطري (محمد يوسف الفلسطيني).

ومن ثم بدأت عناصر «دولة العراق الإسلامية» القتال ضد الجيش السوري في حادثة جسر الشغور المشهورة، التي كانت أول شرارة في تحوّل الثورة السورية من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة. وبعدها اختار هؤلاء منطقة الشرق السوري التي تعتبر محصنة ومشابهة لجغرافية الموصل والأنبار في العراق، ما ساعدهم على الصمود ومسك الأرض.

ومع مرور الوقت أصبح هذا الحضور لعناصر التكفيريين وأفراد «دولة العراق الإسلامية» عاملاً مهمًّا لاستنزاف الجيش السوري.

في بداية عام 2012 كثرت الانشقاقات في فصائل المعارضة لحكم بشار الأسد، وفي الجانب الإسلامي والليبرالي على حد سواء، وكان منها إعلان جبهة النصرة بقيادة الجولاني.. الأمر الذي دفع البغدادي إلى إعلان تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) يوم 8 أبريل 2013 كردة فعل ضد إعلان الجولاني، وتمرد منه على «قاعدة الجهاد العالمي» (أي «القاعدة») التي يقودها الظواهري. ومنذ ذلك الوقت عمدت «داعش» وأنصارها إلى أعمال استراتيجية، أبرزها:

- فرض البيعة لأميرها البغدادي على كل من يحمل السلاح ضد الأسد في الجبهة السورية.

- بسط نفوذ «داعش» والإكثار من فروعها على امتداد العالم الإسلامي، حيث يحاول البغدادي تقليد أسامة بن لادن في تعديد فروع «داعش» على غرار فروع «القاعدة»…

- الاعتماد على التمويل الذاتي من خلال السيطرة على آبار النفط في الشرق السوري وآبار الرقة والزملة والطبقة وما حولها، وكذلك حقل الثورة وحقول الجبسة وحقل كونيكو وحقول الجفرة… بالإضافة إلى السيطرة على مخازن الحبوب في سوريا وأخذ الإتاوات من قطع الطرق، وأخذ الفديات من الصحافيين الأجانب والتجار وشركات النقل الخاص بمنتجات النفط في العراق وسوريا، وتهريب الآثار السورية، والمتاجرة بالسلاح المحرّم دوليًّا.

- اعتمد البغدادي على «المجلس العسكري» الذي يقوده ضباط من ذوي الخبرات العسكريّة والميدانية، الذين استعملوا تكتيك فتح جبهات قتالية متعددة في آن واحد، لتشتيت تركيز قوات الخصم، وقسموا جنودهم في كل ولاية إلى قسمين، الأول هو «كتيبة النخبة الانغماسية» للقتال المباشر، وهي المسؤولة عن اقتحام الثكنات العسكرية والمراكز الأمنية والقرى والمدن.

والثاني هو الخلايا المحلية النائمة التي تستيقظ حين تفرغ مناطقهم من الوجود الأمني والعسكري بفعل «الكتيبة الانغماسية»، حيث يتوجب عليهم مسك تلك المناطق أمنيًّا وإداريًّا.. وهذه الاستراتيجية جعلت تنظيم «داعش» من أغنى التنظيمات الجهادية التكفيرية في التاريخ المعاصر، وقبلة المقاتلين العرب والأجانب..!!

كل هذا مكن البغدادي في مطلع عام 2014 ومع بداية معارك الأنبار من إجراء تغييرات جوهرية في الهيكل التنظيمي لـ «داعش»، حيث جعل ولاة الولايات فيها كلهم يلقب بـ«نائب البغدادي على الولاية»، وأعطى لكل نائب صلاحيات واسعة للاجتهاد والعمل من دون الرجوع إليه، واعتمد على ضباط الأمن والعسكر في الأنظمة السابقة ممن تغيّروا فكريًّا إلى فكر «داعش»… وبسبب الأموال الكثيرة ازداد عديد مقاتلي «داعش» بمقدار الضعفين.. وتقدمت عملياته.

وبعد هزيمة الموصل في العاشر من يونيو استعار البغدادي من التاريخ استراتيجية حركة طالبان أفغانستان في الوصول إلى الحكم وإقامة الدولة الإسلامية، ذلك أن «داعش» عززت من قدرتها على السيطرة على الأراضي السنّية والاحتفاظ بها، وإلى الآن لم تفرض بيعة البغدادي على العشائر والأعيان والشخصيات الدينية والسياسية السنّية ولم تتقاتل مع الفصائل السنية في المنطقة.

هذه الاستراتيجية لـ «داعش» أثمرت مجموعة من النتائج، وما تحقق منها على أرض الواقع:

- نجاحها في إقناع عامة سنّة العراق أنها هي «المخلص» و«المنقذ»، على الرغم من المعارضة الإقليمية الشديدة لـ «داعش».

- نجاحها في استقطاب مقاتلين عرب وأجانب للقتال في العراق، ومن قرابة 21 دولة من أفريقيا وآسيا وأوروبا، بعدما غادروا العراق نحو سوريا.

- نجاحها في «إقناع» الرأي العام العالمي أنها ليست وحدها من يقتل في الساحات السنّية.

- منحها كل الحريات للأقليات في نينوى، بهدف خلق أجواء من الطمأنينة.

- نجاحها في سحب الرئيس الأميركي باراك أوباما مرة أخرى إلى العراق، وأرجعت قضية الجهاد المقدس ضد التحالف الصليبي.

- إطاحتها بهيبة الميليشيات العراقية والتشكيلات غير النظامية الساندة لها.

- وضعها إيران على المحك في خوض معركتها الطائفية مع السنة العرب في أرض العراق.

هذه المقالة تعبر عن رأى اصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأى المركز