أوراق التفكيك: اللعب بالأقليات

د. عصام عبد الشافي

clip_image002_950b5.jpg

بعد نهاية الحرب الباردة، بسقوط الاتحاد السوفيتي 1991، شهد العالم ما عُرف باسم “صحوة الأقليات” وبرغم ما صاحب هذه الصحوة من آثار وتداعيات فإن اهتمام الباحثين بهذه النوعية من الدراسات كان مشوباً بالحساسية المفرطة، سواء للباحث داخل مجتمع الأقلية، أو الذي ينتمي إلى المجموعة الأكبر (مجتمع الأغلبية) فقضايا الأقليات ليست قضايا عابرة، ولكنها بمجرد أن يدور الحديث حولها تثير درجة كبيرة من الحساسية، تمنع تداولها أو الحديث عنها، مما يدفع إلي كبتها كي لا تخرج إلى الوعي، إلا من خلال مرآة أخرى هي مرآة الصراع السياسي الذي صاحب ما يعرف بالنظام العالمي الجديد.

وتتعدد العوامل والاعتبارات التي تجعل من صراعات الأقليات وقضاياها ذات أبعاد دولية، ومن بين هذه العوامل الامتدادات الإقليمية لهذه الأقليات، وعوامل الجغرافيا السياسية والتعاطف الفكري أو الأيديولوجي الذي قد تحظى به هذه الأقليات من جانب قوي أو دول خارجية، أو التدخلات الخارجية المباشرة سواء من دول الجوار أو من القوى الكبرى في صراعات وقضايا الأقليات، يضاف إلى ذلك تحركات السكان عبر الحدود الدولية، وكذلك اتجاه بعض الدول إلى إضفاء العرقية على تفاعلاتها الخارجية.

هذه الأمور وغيرها جعلت الأقليات المختلفة أسيرة مأزق تتنازعها فيه العديد من الأبعاد المعنوية (ممثلة في تحقيق الذات ومتأثرة بالقيمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية المعاصرة) والمادية (فرضتها تطورات النظام الدولي). فهي إن كانت تعيش في واقع دولي يقر لها بالوجود الشكلي المستقل والمتميز، فإنه في الوقت نفسه يدفعها إلى التنازل عن الكثير من الحقوق التي ناضلت من أجل الحصول عليها.

وأما هذه الاعتبارات كان من الصعوبة وضع تعريف جامع مانع لمفهوم الأقلية لعدة أسباب هي: أن الأقليات تختلف تبعاً لاختلاف المفاهيم التي تحكم إقصائها أو عزلتها وعلاقتها بالأغلبية التي تعيش معها في إطار مجتمع واحد أو إطار يجمع عدداً من القوميات المختلفة، وأن العلاقة بين الأكثرية والأقلية تتأثر بعدد من المتغيرات أبرزها: اختلاف الوضع الذي توجد فيه أقلية واحدة عن الوضع الذي توجد فيه أقليات 

متعددة في مجتمع واحد، فبينما تواجه الأقلية الواحدة ضغوطاً من جانب الأكثرية، يصبح المجتمع الذى يضم أقليات عديدة بعيداً عن ذلك، إذ عليه – فقط – مراقبة الصراع الدائر بين الأقليات المختلفة، وقد تكون الأغلبية هي سبب الصراع القائم بين الأقليات في مجتمعها، عندما تحرم عليها ممارسة حقوقها أيَاً كانت هذه الحقوق، واختلاف درجة الثقافة بين المفكرين والباحثين أدت إلى اضطراب تعريف الأقليات نظراً للعرق، أو السلالة، أو الديانة، حيث أدى الخلاف في تحديد المفهوم إلى إصابة المصطلح بالجمود. 

وكذلك لأن الاهتمام بتحليل التفاعل بين الأكثرية والأقلية يؤدى بالتبعية إلى مزيد من الاهتمام بالآثار المختلفة لأنواع البنيان الاجتماعي كالهجرة والمجتمعات القائمة على التنافس بين الأقليات، أو بين الأقلية والأكثرية، وأيضاً لاختلاط المفهوم الخاص بالأقليات بالعديد من المفاهيم الأخرى كالإثنية، والعرقية والطائفية، والعنصرية، الأمر الذى دفع ببعض الباحثين إلى الخلط بين الأقلية وبعض المفاهيم المقاربة له كالإثنية أو الطائفية.

وإذا تم التسليم بأن هناك جماعات صغيرة يصدق عليها وصف “أقليات” تعيش داخل الجماعة الكبرى، ولها تقاليد وعادات متميزة نسبياً عن مجتمع الأكثرية، فإنه وفق القانون الدولي لا يجوز للدولة ذات الأغلبية أن تجبر الأقليات التي في داخل مجتمعها، بالتخلي عن عقيدتها أو تقاليدها أو حتى هويتها، وقد تنجح الأكثرية في امتصاص الأقلية، والعمل على منحها بعض حقوقها وتمايزها الثقافي، بحيث لا يؤثر ذلك على الأكثرية. 

فالتجانس الثقافي والتوافق بين ثقافة الأغلبية والأقلية يساعدان على الاستقرار السياسي داخل المجتمع، إلا أن المشكلة الحقيقية بين الأقلية والأكثرية، تبدأ عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي، وجود سياسي مميز، مع وجود رغبة من جانب الأقلية فى أن تحظى بنصيب فى عملية صنع القرار داخل المجتمع الذى تعيش فيه، فقد تقوم الأقلية بتكوين تنظيم سياسي تعبر من خلاله عن موقفها إزاء بعض القضايا الاجتماعية أو السياسية فى المجتمع، عندئذ يحدث التصادم بين الجانبين، وتنمو معدلات عدم الاستقرار في المجتمع.

ولمواجهة هذا الوضع أو غيره من الأوضاع فقد تعددت السياسات التي يمكن أن تتبناها الحكومات في تعاملها مع الأقليات، وتتراوح ما بين المنع والامتصاص من ناحية أو التعددية والمشاركة من ناحية أخرى، وإذا كانت سياسة المنع تنبع من الاعتبارات العرقية والثقافية والدينية السائدة، وكذلك من المصالح المادية والمخاوف الأمنية، ويترتب عليها عزلة الأقليات وانفصالها عن المجتمع في ظل عدم المساواة السائدة، فإن سياسة “الامتصاص والاندماج” تلائم الجماعات المتماثلة عرقياً وثقافياً، ولكنها مرفوضة من جانب الجماعات التي ترفض التضحية بتميزها واستقلالها الجماعي للدخول في كنف الجماعات السائدة أو المهيمنة.

أما سياسة “التعددية” فتقوم على الاعتراف بالتنوع في الثقافات واللغات والأديان والهويات، وتعطي وزناً أكبر للحقوق الجماعية والمصالح الخاصة بالأقليات المختلفة، حيث تؤكد على المساواة ولكن في إطار من التمييز والاستقلالية، بينما تقوم سياسة “المشاركة” على أن الأقليات المختلفة بقياداتها المستقلة وتنظيماتها الخاصة تشكل أحد أعمدة المجتمع، الأمر الذي يفرض ضرورة اشتراكها وتمثيلها في النظام السياسي والاجتماعي القائم في هذا المجتمع، وذلك دون التضحية بتميزها واستقلالها.

وجاء هذا التعدد في السياسات ليؤكد حقيقة أن وجود الأقليات داخل المجتمعات المختلفة، يمثل ظاهرة طبيعية، لأنه من غير الطبيعي أن يحظى مجتمع كامل بخصائص وتمايز ثقافي واحد، ولا يشذ عن هذه القاعدة مجموعة من الناس، ففي كل مجتمع توجد أقلية، أو أقليات، وقد تصبح ظاهرة الأقليات ظاهرة مَرضية إذا عجزت الأكثرية عن تلبية حاجات الأقلية، أو كانت مطالب الأقلية تتعارض مع وحدة الدولة كالاستقلال أو الانفصال، وما قد يسبق هذه المطالب من صراعات وأعمال عنف عديدة بين الأكثرية والأقلية.

وهنا يأتي التأكيد علي أن الأقليات لا يمكنها القيام بدور فعَّال وذا قيمة إلا بقدر نجاحها في التفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع المجتمع الذي تُوجد فيه، وتشكيلها لطرف من أطراف حلف أو ائتلاف أكثر شمولاً وتعقيداً. ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن الموقف من هذه الأقليات يختلف باختلاف الإطار العام الذي تمر به المجتمعات والدول، ففي حالة تمتعها بالاستمرار والازدهار فإنها تشجع أقلياتها على القيام بدورها محلياً وخارجياً وتقوم بتوظيفها كعناصر قابلة للتأقلم في ظل تعدد انتماءاتها وولاءاتها السياسية والثقافية والاجتماعية أما في حالة المعاناة من الأزمات والاضطرابات، فإن الوضع يختلف وينظر إلى الأقليات على أنها السبب الرئيسي وراء هذه الأزمات.

هذه الازدواجية والانقسام في الموقف من الأقليات نجم عنها ازدواجية في النظرة إلى مكانة الأقليات ودورها في المجتمع، فهناك من يري أن للأقليات دور إيجابي في المجتمع؛ اجتماعياً(من خلال إمداد المجتمع بدماء جديدة، فتصبح عنصراً من عناصر التجديد فيه، كما يمكن أن تكون عاملاً من عوامل الاستقرار وتسكين الصراعات في المجتمع)، واقتصادياً (بالقيام بتوظيف مهاراتها الطبيعية والمكتسبة في إنعاش الاقتصاد القومي)، وسياسياً (حيث تمثل أحد معايير الحكم على ديمقراطية النظام السياسي كما تشكل ركيزة لسياسة حكومية تستهدف الموازنة بين الكفاءة والولاء الشخصي، كذلك فإنها يمكن أن تمثل البديل المطروح لتجسيد هوية الدولة)، وخارجياً (حيث تمثل الأقليات أداة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية وخاصة إذا كانت تمتد عبر أكثر من دولة).

بينما يري فريق آخر أن الأقليات تمثل ظاهرة سلبية داخل المجتمع والنظام السياسي أمام الأضرار التي تنجم عن وجودها؛ حيث تمثل عنصراً من عناصر التوتر والصراع الاجتماعي، كما تعوق عملية التنمية الشاملة، والتكامل القومي في المجتمع إضافة إلى دورها في نشر الفساد السياسي والاجتماعي داخل المجتمع.

إلا أنه بالرغم من هذه الازدواجية، فإن إيجابية أو سلبية دور الأقليات في المجتمع تتوقف بدرجة كبيرة ليس على هذه الأقليات فقط، أو علي طبيعة ما تقوم به من نشاطات ووظائف داخل المجتمع، ولكن أيضاً على السياسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتبعة داخل هذا المجتمع، وموقفها من هذه الأقليات ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الداخلي والخارجي.

وجاء هذا الاختلاف من تعدد العوامل والاعتبارات التي ساعدت على تكوين ووجود الأقليات من ناحية، وتكريس وجودها من ناحية أخرى، فالأقلية هي في الأساس ظاهرة ثقافية يشترك أفرادها في عدد من المقومات التي تنعكس في أطر تنظيمية وأنماط متمايزة للتفاعلات الداخلية، وهو ما يفرض ضرورة وعي هذه الأقلية بتلك المقومات، أمام المعاملة التمييزية التي تلقاها بواسطة الجماعة الحاكمة. 

هذا بالإضافة إلي وجود عدد من العوامل التي تكرس هذا الوجود يأتي في مقدمتها الآثار التي نجمت عن التحولات الدولية والإقليمية، والتقدم في وسائل الاتصال وما ترتب عليه من تأكيد الخصوصية الثقافية للجماعات المختلفة، وترسيخ تضامنها وتنظيمها وزيادة فعالية قيادتها، يضاف إلى ذلك الاتساع الكبير في نطاق مبدأ حق تقرير المصير، والذي منح العديد من الجماعات صفات الشرعية والشمولية والاستمرارية.

وفي ظل هذه الأبعاد وغيرها، تشكل ورقة الأقليات (الدينية، العرقية، المذهبية، الطائفية، الإثنية)، في حال فشل السياسات الداخلية في إدارتها، أحد أهم الأدوات التي تعتمد عليها القوى الخارجية في إدارة صراعاتها مع بعض الأطراف الأخري، يزيد من خطورة هذه الورقة في المنطقة العربية، أنه لا توجد دولة عربية تتسم بالتجانس الكامل، بل إن بعض الدول تتعدد فيها الأقليات ومعها تتعدد أنماط ومظاهر التدخل الإقليمي والدولي، ومع تبادل الاتهامات بالخيانة والتشكيك في الولاء والانتماء تستفيد أطراف الخارج في نشر سياسات التفكيك والتدمير الداخلي في هذه الدول، ولعل ما تشهده العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان وكذلك مصر والسعودية، وغيرها من دول الجوار الجغرافي، كإيران وتركيا، ليشكل نماذج شديدة السلبية للعب بورقة الأقليات من جانب أطراف خارجية، إقليمية كانت أو دولية في العبث بأمن واستقرار هذه الدول.

وسوم: العدد 629