كيري في بيروت: بهجة الممانعة!

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

يجتمعُ اللبنانيون على مناكفة بعضهم بعضاً إلى درجة عجزهم عن انتاج رئيس للجمهورية "محليّ الصنع". ويمعنُ اللبنانيون في اعتبار أنفسهم قلب العالم ومحوّر ديناميته، ويخالون أن العواصم الكبرى لا تنامُ مهمومة بيوميات لبنان، مهجوسة بمصيره.

في المبارزة التي لم تنته بين فريقيّ 8 و14 آذار، مثّلت العلاقة مع الولايات المتحدة فيصلاً ما بين من لا يخفون قربهم من واشنطن ومن يدينون ويستنكرون ويرفضون تلك العلاقة. لكن وقائع الأمور بيّنت أن كلا الفريقيّن حريص على استدراج الإدارة الأميركية لرفد أجندته داخل ذلك البلد الصغير وفي قاع زواريبه.

تَشكّل فريق 14 آذار متكئاً على مزاج دولي عام عكسته قرارات الأمم المتحدة السابقة على حدث اغتيال رفيق الحريري، لا سيما القرار رقم 1559 (أيلول/سبتمبر 2004). في لحظة نادرة مرر مجلس الأمن دون فيتو قرارا يدين الميليشيات ويطالب بانسحاب الجيش السوري من لبنان. وحين تّم ذلك الاغتيال كان منطقياً توجيه التهمة للأطراف المستهدفة من تلك القرارات. ولئن استمر ذلك الموقف وحافظ على اجماعه في تشكيل محكمة دولية خاصة بحدث الاغتيال ( قرار مجلس الأمن رقم 1757 في 30 أيار/مايو 2007)، فإن واشنطن نشطت بحيوية، على الأقل من خلال سفيرها في بيروت جيفري فيلتمان، لدعم الحراك الذي اندلع في شوارع بيروت منذ 2005 مطالبا بانسحاب الجيش السوري وتقويض النظام الأمني السياسي الذي ساد البلد خلال حقبة الوصاية.

ومع شعور فريق 8 آذار بانقلاب المزاج الدولي، لا سيما الغربي، ضد المسلّمة السورية في لبنان، فإن جهده كما جهد دمشق حينها انصبّ على توسل الوصل مع هذا الغرب. عمل الممانعون (لا سيما الوزير السابق ميشال سماحة) على تنشيط علاقاتهم الغربية وتتويجها باستقبال لافت لبشار الأسد في فرنسا برئاسة نيكولا ساركوزي صيف 2008، فيما تمّ العمل بدأب لاعادة الوصل مع الولايات المتحدة حتى موافقتها، وسط غبطة دمشق وحلفائها في لبنان، على ارسال روبرت فورد سفيراً لها إلى العاصمة السورية (2010).

أذكر أنه في الأجواء التي تلت الحرب التي شنتها إسرائيل ضد لبنان عام 2006، صبت دمشق وأصدقائها غضباً، وردحت وإياهم بسخط ضد الزيارة التي قام بها آنذاك رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى بيروت واستقباله من قبل حكومة فؤاد السنيورة. وكانت بريطانيا حينها متورطة في تلك الحرب من خلال فتح مطاراتها لطائرات الدعم الأميركي لإسرائيل. لكن أخباراً كانت تتحدث أيضاً عن احتمال أن يزور بلير دمشق أثناء جولته في المنطقة. وحين سئلت، في مقابلة، وزير الاعلام السوري محسن بلال عن الموضوع آنذاك أجابني دون تردد: "أبواب دمشق مفتوحة".

مسألةُ العلاقة مع لندن وباريس وواشنطن وغيرها بالنسبة للممانعين ليست مدانة لأسباب مبدئية أخلاقية، هي كذلك بانتظار قبول هذه العواصم تطبيع العلاقة معهم ورفد خياراتهم. في ذلك يكفي تأمل تحليلات شخصيات 8 آذار وصحافتها في رصد مواقف واشنطن التي يشتم منها تخلياً عن حلفائها في لبنان. هكذا فهموا استقبال الولي الفقيه لجيفري فيلتمان (من موقعه الأممي)، وهكذا فهموا إعراض واشنطن عن القيام بعمل عسكري ضد سوريا، وهكذا فهموا، هذه الأيام، العبق الذي تركته زيارة جون كيري لبيروت.

مرّ سيّد الدبلوماسية الأميركية بالعاصمة اللبنانية بشكل كاد يكون مفاجئاً وسرياً لولا تسريبات اللحظة الأخيرة في الصحافة اللبنانية. تعذّر على المراقبين فهم مرامي الزيارة وأهدافها. فالرجل وزّع تصريحات، هي أشبه بالعظات، تدعو وتتمنى، وربما تصلي. لم يفصح عن أجندة أميركية حاسمة في موضوع انتخاب رئيس للجمهورية، ولم يكشف عن أدوات ما ينشده من استقرار للبلد. وما نضح من جولاته عبارة أثارت وربما ستثير حبراً كثيراً، وقد تتسق مع ما أعلنه السيّد حسن نصرالله من أن حزب الله "أصبح حاجة دولية".

أهي زلّة لسان أم خطأ في الترجمة أم لا هذه ولا تلك؟ أغفل الرجل قرارات اتخذتها دولته بوضع حزب الله (بجناحيّه السياسي والعسكري) على لائحة الارهاب، ووضع الحزب في مصاف روسيا وإيران في دعوته لهم بالعمل على وقف الكارثة في سوريا. تفسيرات الأمر عرضة لأجندات المفسرين. مِن وضع الحزب في سلّة مّن تحمّلهم واشنطن مسؤولية المأساة السورية، مروراً بارتياح واشنطن لاستهلاك قواه في تلك الطاحونة واستخدامه لقتال القاعدة وأخواتها، انتهاء باعادة الاعتبار له كمحصّلة لمنطق الحوار الجاري بين الولايات المتحدة وإيران.

ما أَنشَده كيري في بيروت أطربَ البعض وخدش مسامع بعض آخر. وفيما تترددُ أنباءٌ عن عزم الخارجية الأميركية اصدار بيان يعيد تأكيد الصفة الأرهابية لحزب الله كرمى لعيون فريق 14 آذار (الذي لم يخصّه كيري بلقاء)، فإن زيارة الرجل تحتاجُ إلى مزيد من التأمل من قبل الحزب، كما من قبل دمشق وطهران، كما من قبل الرياض أيضاً.

المهم في كل تلك الجلبة أن اللبنانيين يقيسون مقدار اقتراب أو ابتعاد واشنطن الموسميّ من وعن مزاجهم. الكلّ دون استثناء يتفحّصُ كل تصريح ويحلل كل تسريب علّ فيه جواباً شافيا يكشف المزاج الأميركي هذه الأيام ويفكك رموزه.

هو عصر أوباما الذي ما انفك الشرق كما الغرب يسعى لادراك علاماته وكشف طلاسمه. وفيما لم يعدْ فريق 14 آذار يثقّ كثيراً بصدق ما يصدرُ عن واشنطن أو يعوّل عليه، يقعُ الفريق المقابل في إغراءات ما قد توحيه التصريحات من استدارة أميركية منشودة محتملة تحملُ طمأنينة إلى قلوب الخائفين.

مفارقة الأمر أن دعم روسيا وإيران والصين ودول البريكس وقوى التحرر.. إلخ، ما زال لا يساوي "زلة لسان" أميركية محتملة. هو العصر الأميركي المستمر بامتياز حتى بقيادة باراك أوباما.