الإهانة أو لبنى المأساة

الإهانة

أو لبنى المأساة

(قصقصيدة)

سعيد عبيد

[email protected]

قال العصفورُ لزهر الغارْ:

- "كَفكفْ دمعكْ"،

لكنَّ الزهرَ بكى وبكى حتى اخضلَّتْ شفتاهْ:

- "أفتبصُق لُبنى فوقي يا أبتاهْ؟ وتُعفِّر لُبنى خَدّي في الأوحالْ؟ لو غيرُكِ يا لبنى، لو غيرك يا بنتَ الطُّهرِ، يا من حُوريَّات النورِ الخالصِ منكِ تَغارْ، لو غيرك يا لبنى فعلتها لم أحفَلْ، لم ينزف من همٍّ قلبي الحساسْ".

قال العصفورْ:

- "لا تأسَ كثيرا يا ولدي، هَمّي مِن هَمِّكْ؛ فأنا أيضا ضربتني لبنى قبلَ الأمسِ، رَمتني بالأحجارْ. اُنظر هذي قدمي مكسورهْ".

- "أمّا كَسرُ القلب فلا يُجبرْ".

- "راعتْني بهجةُ عينيها، والروحُ الصافي من كل الأكدارْ، وتناسقُ ألوان الغابهْ، وعبيرُ الفُلِّ الناشقُ من رَوْح الجنهْ، فتذكرتُ صبايْ، فبدَرتُ أبادلها صدقَ الإحساسْ بجمال الكون الماثل فينا ولنا؛ شقشقتُ لها، أبرزت لها ريشي الفتّانْ، غنيتُ لها عذبَ الألحانْ. لكني –يا للصدمهْ!- فوجئتُ بما اقترفتْ يدُها، يا للرعبِ! فقد كانت يدها في قُفّازٍ من فولاذْ!"

اِنتفض العصفور وزادْ:

- "يا ولدي، خِلّي، وشقيقي في الحزنْ، ليستْ لبنى هذي الأيام كلبنى الأمسْ، ليست لبنى هذي الأيام كلبنى الأمسْ.

لبنى هذي الأيامْ لا ترقص من فرحٍ إن سقطَ المطر العجلانُ، ولا تجري بين حقول القمحْ في دفء الشمسْ، لبنى حتى لا تعرف فرقا بين ربيع الخيرِ و بين الصيفْ، وتَعاف الركضَ بغير حذاءٍ فوق تراب الأرضْ. لبنى لم تحضِنْ يوما في الليلِ الصافي قمرًا أو نجمهْ، لم تلعب فوق القوس الزاهي بالألوانْ. اُعذرْها يا ولدي يا زهرَ الغارْ، هي لم تتعلم لثْمَ خُدود الوردِ، ولا تعرف مِمَّاذا ولماذا يُظفر إكليلُ الغارْ. زمنُ الأبطالِ رمتْهُ بعيدًا تلك الأقدارْ. اُعذرْها، لبنى المسكينةُ لا تعرفُ ما الأبطالُ، ولا ما إكليل الغارْ.

لبنى نشأتْ بين الآلات وبين الأنترنِتْ، صارت من فَرط اللهوِ بها جزءًا منها، فتجمَّد في دمها الإحساسُ

تُجاه اللهْ،

وتجاه النفسْ،

وتجاه الأرضْ،

وتجاه الناسْ.

لبنى صارت تَعشق أفلامَ العُنفْ".

ذُهلَ الزهرُ:

- "أفلامُ العنفْ؟!"

- "أيْ نعمٌ، وكذا ألعابَ المَكر، وموسيقى الرُّوكَنْخَوفْ، وتُلوِّن بالفحمِ – ولا تَعرفُ غير الفحمِ – الألواحْ، وبراءةُ عينيْها اغتالتْها شيطاناتُ العُري المستورَدِ قسرًا، عبرَ أثيرٍ وسَّخهُ كَربونُ الغربْ. لبنى صارتْ تتأفَّفُ من ضَجرٍ إن داعبَها قِطٌّ مِلحاحْ، عفوا لبنى ما ربتْ قطُّ قُطَيْطا، ما صنعتْ بالقصبِ والأقمشة الفاقعة الألوانِ عروسًا، ما لعبتْ قفزَ الحبل مع الأترابْ، ما لَهجتْ بأهازيج الموْلد مِن فرحٍ جريا بين الأحياءْ، لبنى لا تقطن في حيٍّ، هيَ تقطنُ في تابوتٍ في أعلى البُرجْ، والتابوتُ يطل على تابوتْ، منذ الإسمنتُ الصَّلدُ القاسي حلَّ محلَّ بساتينِ التينِ معَ الزيتونِ وأشجارِ التوتْ...".

- " هذا يكفي، هذا يكفي !"

لم يصمُتْ زهرُ الغارْ، لم يصمت لكنْ زاد بكاءَهْ، حتى أبكى كلَّ الأزهارْ، كلَّ الأشجارْ، كل الأطيارْ، والماءَ العذبَ الجاريَ في الأنهارْ. ووحوشُ الغابِ عوَتْ، وهوَتْ من حَرِّ الشجَنِ الأقمارْ، فامتدَّ نشيجُ الغابة حتى غطى برِداءِ الغمِّ مدينةَ لُبنى، وهَمَى دمعُ السحبِ، غيثا مِدرارًا طولَ الليلْ. لكنَّ الناسْ لم يسمعْ منهمْ أحدٌ شيئا، لم يُبصر منهم أحد قطرةَ دمعٍ / ماءْ؛ آذانهمُ أحداقهمُ كانت فيها من سَكرة سَهرة حفلِ السبتِ رَصَاصْ.

خمدتْ أجراسُ الإنذارِ لدى الأعتابِ، كما ماتت بائعةُ الكبريتِ كآبهْ، فارتدَّ الرَّجعُ إلى الغابهْ:

"قد مات الناسْ،

قد مات الناسْ،

آلافٌ من لبنى ماتوا من زمنٍ بين الناسْ.

يا أهلَ الغابةِ، قوموا فادعوا من يَفلق عن ماءٍ صلدَ الأحجارِ،

ومنْ يُخرج حيَّ الفِطرة من صُلبِ الأمواتْ،

أن يبعثَ في الناس الإحساسْ،

أن يبعثَ في الناس الإحساسْ".