مملكـــة الرمـــــاد

 

قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿١٤٢﴾

البقرة/142

الإهـــــداء

Nord und West und süd zersplittern,   

 Throne bersten,Reiche Zittern          

 Flüchte du, im reinen osten.

(إنّ الشَّمالَ والغَـــرْبَ والجَـــنُوبَ تَطيـــــــرُ شَــعَاعاً

والعروش تتصدَّعُ، والممالك تضْطربُ

فانْــجُ بنفسك، وأقْــبِــلْ على الشَّــــــرْقِ الطَّـــهُورِ)

                                الديوان الشرقي للشاعر الغربي: غوتِه

إلى أكبر شاعر غربي تغنى بأنوار المشرق :

J.W. von GOETHE

كلمة عن الشعر

1 ـــ الشعر تجربة صوفية، وتوحد مع الكون والحياة والإنسان. وما لم تلمس جذوة الشعر طيان الشاعر فإنه لن يسطر غير ألفاظ باردة، تموت قبل موت صاحبها.

2 ــ أفضل ناقد هو الجمهور. يوم تلتقي بالجمهور فيهتز خافقه مع اهتزاز خافقه، ويتلو عليك الشعر كما تتلوه عليه، تستطيع أن تطمئن إلى أنّ كلماتك لم تذهب سدى.

الكلمات أسماك، والماء هو الجمهور.

3 ــ يوم تسلط على السنة الشعراء سيف الرقابة باسم الالتزام، ذابت كثير من الأصوات الرخوة، وانتفت كما ينفي الكير الغثاء. (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) الرعد:17

   الشعر ليس حلية أو متاعا يزين به عنق راغب، كيفما كان. ينتهي الشعر "الملتزم"، الذي تُرسمُ له الطريق، ويبقى الشعر "المسؤول"، الذي يَرسُمُ الطريقَ. "إنّ السّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا".

   4 ــ منذ ظهر هذا النمط المستحدث من الشعر الذي في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، أثيرت حول تسميته عاصفة لم تنته آثارها بعد. سموه "الشعر الحرّ"، و"الشعر المعاصر" و"الشعر الحديث" و"الشعر التفعيلي"، وسوى ذلك من الأسماء المركبة التي تدل على تشوش في التصور، دون أن توفق إلى رصد خصائصه الجوهرية. فالحرية والمعاصرة والحداثة والتفعيلة، كلها أعراض في الموضوع، لا تكاد تحدد شيئا.

   منذ وجد الشعر العربي، وجدت تحته أنماط شتى، وكل نمط يتخذ اسما لا ينازعه فيه سواه. فكان (القصيد) و(الرجز) و(البند) و(الموشح) الخ... حتى كان هذا النمط الشعري المستحدث فضلّ الناس في تسميته ضلالا بعيدا، واختيرت له أسماء مركبة، وانفتح الباب بذلك أمام فوضى لا حد لها.

   وهروبا من الأسماء المركبة، والمحدودة الدلالة في الوقت ذاته، كان هذا الاقتراح الذي أقدمه في هذه المجموعة السادسة من مجموعاتي الشعرية: التنغيم.

   وللتنغيم في اللغة معان متعددة، ومعظمها مما لا يضيق به هذا اللون من الشعر.

  فالتنغيم ــ عند أهل اللغة ــ هو الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق. فالجمل العربية ــ كما يقول باحث معاصر ــ تقع في صيغ وموازين تنغيمية هي هياكل من الأنساق النغمية ذات أشكال محددة، فالهيكل التنغيمي الذي تأتي به الجملة الاستفهامية، وجملة العرض، غير الهيكل التنغيمي لجملة الإثبات، وهنّ يختلفن من حيث التنغيم عن الجملة المؤكدة.

   ومن معاني التنغيم: التكلم بالكلام الخفيّ، ومن شأن (التنغيم) ــ أقصد النمط الشعري الذي نتحدث عنه ــ أن يميل إلى الهمس، ويخلف وراءه الجلبة والصراخ. ومن معانيه أيضا (التطريب)، وهو أمر لا يتحقق إلا بمراعاة الشكل إلى جانب المضمون. ومن التطريب ما تحدث عنه سيبويه في الكتاب تحت اسم (الترنم).

    وبهذا يتميز (التنغيم) عن القصيدة من جهة، وهي ما صار يعرف بالقصيدة الخليلية، ولم تكن من قبل تعرف إلا بالقصيدة، كما يتميز عن ذلك المخلوق الفني الذي يسمونه تسمية مركبة تحمل في ذاتها نوعا من التناقض: (قصيدة النثر).

    وإلى أن ينجز نمط شعري يتجاوز التفعيلة، دون أن يخل بجوهر الشعر الموسيقيّ، أو يتنازل عنه، ويستجيب في الوقت ذاته لروح العربية، سنبقى حريصين على التمسك بإيقاع الخليل.

                                            باريس: 1985

   

                                        صلاة للنّــــــور

فــــــي هياكـــــــــل الـــــــــنور ، التــــــقـــــــت إشـــــــــــــراقــــــــــات الغـــــــــزالي بأشـــــــــــواق غـــــــــوتــــــــه فكان هــــذا النـــــــــــــــشيد  :

يــــــــــــــــا مـــــــــــــــن مــــــــــــــــــنك الـــــــــــــــــــــنور

وإلــــــــــــــيك يــــــــــــــــــــــــــــعود الــــــــــــــــــــــــــنور

بـــــــــــــــارك أهـــــــــــــــــــــــــــــــــــل الـــــــــــــــــــــــــــنور

وانْصــــــــــــــــــــــر أهــــــــــــــــــــل الـــــــــــــــــــــــــــــنور

واجـــــــــــــــــعل أهــــــــــــــــــــــــــــــــــل الــــــــــــــنور

قـــــــــــــــــربْــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــا للــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنور

واحــــــــــــــــــــشر أهـــــــــــــــــــــــــــــــل الــــــــــــــــنور

فــــــــــــــــــي زمـــــــــــــــــر أفـــــــــــــضل مــــــــــــــــــن

مـــــــــــــــــجد ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّ الــــــــــــــــــــــنور

واقـــــــــــــــــــــــــــبل أهــــــــــــــــــــــــــــل الــــــــــــــــــنور

إنــــــــــــــــــــــــك أنـــــــــــــــــــــت الــــــــــــــــــــــــــــــــــــنور

 

اســــــــــــــــــــــــــتغْراق

مزيــــــــــــــــــــــــــــــــدا مـــــــــــــــن الـــــــــــــــــــــــــنور

لا شـــــــــــــــــــــــــيء قبلك

ولا  شــــــــــــــيء بعدك

لا شـــــــــــــــــــــــــــــــــــيء فــــــــــوقك

لا شــــــــــــــــــــيء دونــــــــــــــــــــــــك

لا شـــــــــــــــــــــــيء مثـــــــــــــــــــــــلك

مزيــــــــــــــــــــــــــــــدا مـــــــــــــــــن الــــــــــــــــــنور

                            قد كاد يذهـــــــــــب بي عطشي

ويحاصــــــــــــــــــــرني لهب ما له من ضـــــــــــــــــــياء

مزيـــــــــــــــــــــــــــــــدا مــــــــــــــــن الـــــــــــــــــــــــــــــنور

هيهات أن يســـــــــــــــــــتبدّ اللـــــــــــــهيب بذاتــــــــــــــــــي

وأنـــــــــــــــــــــــــــــــــــت لوائـــــــــــــــــي !

الحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزن

قــــــــــــــال فــــــــــي المخاطـــــــــــبة الســـــــــــــابعة : ( يا عبد، همك المحزون علي كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. يا عبد، قل لبيك ربِّ على كل حال. يا عبد، الحزنَ علي حقيقةَ الحزن. يا عبد، أنا عند الحزين علي وإن أعرض عني يا عبد ، كيف يحزن علي من لم يرني أم كيف لا يحزن علي من رآني يا عبد، قل لبيك رب أكتبك مجيبا من وجهْ. يا عبد، إن كتبتك مجيبا من وجه كتبتك مجيبا من كل وجه ).

المخاطبات :

محمد بن عبد الجبار النفري

*  *  *

لأني أحبُّـــك،  يــــــورق صــــــــــــــــوتي

وتخضرُّ في أضــــــــــــــلعي كلماتي

وتُـــزْهِــرُ في حقل عمْـــــري الأماني

وتجمح في خافقِــي صبواتي

أحبُّك حبًّا غدوت أرى سره في صيامي

                           وفي صلواتــــــــــــــــــــــــــي

عزيزٌ على الناس أن يدركوه بذاتِ

وأن يدركوا كنْـــهه بصفاتِ

إذا أنا يوما سفحت دمي في مسيري

ورحت أكفكف من عبـَـــراتي

فلا تنكريني

ولا تعجبي من جنوني

فإن دمي ورْدةٌ في الخريف

وروحك في دمي البلبل المنتظــرْ

لهذا أحبك حــــــــــــبّا

كما لم يحبك يوما بشـــرْ

وأقنع فــــــــــــــــــــــيك بحُــزْنـــــــــــــــي

لعلّـــيَ ألقــاكِ يوم النّشــورِ

بجنّــــــــات عدْنِ

وحيــــــــــــــدا أصـــــــــــــــــلّي

وحيدا أغـــــــــــــــــــنّي

على قـــــــــمّةٍ كالضُّـــــــــــــــــحى، كالــــــــــــــــــــــعدمْ

على قمَّـــةٍ لســـــــتُ أملك أســــــــــــــــــــــــــــــــماءها

فإذا شئتُ أوصافها فعروس القمـــــــــــــــــمْ

مزامير خاشعة لم تمُـــرَّ بسمع الزمـــــانِ

ولم يَـــدْر أسْـــرارَها ســــــــوقةٌ أو مـــــــــــــــــــــلِــكْ

وحيدا أصَــــــــــلّي

وتغرق في صلواتي البحارُ ، وهذا الفلكْ .

أنا ســـــّيدُ الكـــوْنِ ..

مولاي طوَّقني ثم أرسَلني في المدى

أنا ســـــــــيّد الكونِ .. إني اكتشفت جراحي

وفي نور جرحي اكتشفت طريقي المقدَّسَ : هذا هُـــــــــــــدى

ومــــــــــــــــــــولاي طوَّقني بالــرِّســــالة وحْدي

وقــــــــــــــــــال : انــطلــــــــــــقْ !

أنا أكرمْـــــــت ذاتك حــــــــــــــين رضيتك عــــبْدي

فــــــكــــــــــــــــــــنْ لـــــــــــــي

ولامــــــــــــــــــــــــس جـــــــــــلال السّـــــــــــــــــــــــــجودْ

واقـــــــــــــــــــــــــتربْ

يكـــــــــــنْ لكَ وحـْـــــــــدكَ هــــــــــذا الوجـــــــــــــــودْ !

من كلّ جهات الأرض

من كل جهات الأرض أجـــــــــــــــــــــــــــــيءُ

                        تــــُــــــــــــزمِّــــــــــــــــــــلُــني التقـــــــــــــــــوى

وتراتيلي الصـــــــــــــــــــــــــبوات المـــــــــــــــــــشتعلهْ

من كل جهات الأرض أجـــــــــــــــــــــــــــــــيءُ

لأعلن في الناسِ بأنّـــــــــي يا ظامئة للــــــــــنُّورِ،

ويــا سابحةً في الــــــــــــــــــــــــنورِ،

أحـــــــــــبُّك فـــــــــــــــي زمــَـــنٍ

لا يـــــــــــــعرف فيه مقــــــــتولٌ قاتــــلـــــــــــــــهُ،

ولـــــــــــــــــــماذا قتله ؟

كفَلـــــــق الصّبـــــــــــــــــــح

في العام الماضي

حدثني شيخ ما كنت لأتهمهْ

( شيخ شابتْ ناصية الأيام ولم يشبِ )

أن قطار الشرق سيعبر قريتنا

ذات صباح، أو في العــــــــــــــتمه

يركبه فتيان صدقوا

من لم يركب معهم يدركه الغرق

قلت : فصفهم يا شيخ !

فأطرق .. ثم هــــــــــــــــمى :

آيــــــــــــــــــتهمْ أن جباهِهُمو

 أكلتها الأرض وثــــــــــــنَّت بالرُّكَـــبِ

تاجهُمُ الخوفُ، وزادهم التقوى

ومنابرهمْ قد رُفعت من نورٍ، لا من ذهبِ

-  قلت : فزدنــــــــــــــي !

-  لا ترسل حبل هـــــــــــواكْ

واسجد للــــــنُّـــورْ

بهياكله كن معتصماً،

وتزوَّدْ يا مغـــــــــــــرورْ

-  زدنـــــــــــــــــــــــــــي !

-  إن أنت وصــــــــــــــــــــــــلت القلبَ

              بأستار مقامِ الـــــــنُّــورِ كفاكْ .

العــــــــــــــــــــــــطش

ما أجدب هذا العمر !

مطرقة تتهاوى فوق الصدر

كنواقيس الكاتدرائية الدكناء

سأشيد لهذا الحزن الرابض في كل رواق

من قلبي المفتوح لكل الطرّاق

عرشا لا يفتح أبوابه

لمليك الجان .

قلبي أيقونه

في دير مهجور

قلبي مشكاة

قد ظمئت للنور

وأراني بين سراديب التيه

أطوّف، أركض كالمجنون .

*  *  *

" روي بلاس" تحيره الكلمات المرتبكة :

لستُ عليلا أيتها الملكة

لكني أولد بين يديك

وأرجو أني بين يديك أموت

أيتها الملكة

أنت الماء وقلبي السمكة

لكن الملكة

كانت تصنع للسمكة

شبكة .

*  *  *

سأبثك كل جنوني

فاحتملي لهبي

كـــــــــــــــــــلا   !لن تحتملـــــــــي

سأبث جنوني أوراقي

قاسية أنت كوخز الريح

       إذا اكتحلت حزنا عيناك

وقاسية كالعصف إذا اختضبت

       أحشاؤك بالغضبِ

قاسية كالوطن الملفوف بأحراش الصمت المحمومة

وسراديب الثرثرة  الملغومة.

النــّــــــبــــــــــــــــــــــــــــــــــع

إنّ هذا النبع قدّامك والدرب طويل

أيها السالك، والحِمل ثقيل

خذ من الليل قرابين التجلي

ومن الفجر تراتيل الشهادة

أيها الباحث في عام الرمادة

عن أبي حفْص ..وعن أشياعه المستضعفين :

"  يا إمـــــــــــــــــــــام المتقين !

ألفُ قدْر ملئت ماء وحصباء ..

وأخرى من دم ..

وخطانا في طريق مظلم .. "

أيها الســـــــــــــــالك ذيّاك الطريق

أحكم المركب فالبحر عميق

يا رفيق الدرب ، والزاد قليل

فتزود !

إيـــــــــــــــــــــــــــــكار

(الموت في الكـــــــــــــــتابة )

إلى صديقي الشاعر محمد علي شمس الدين في توحده مع راغب حرب

                                      {1}

" أناديك يا ملكي وحبيبي "

وخلف ندائي

عصور من العشق والدم

والألم المتدفق فوق الدروب

على البعد كنا لمسنا السماوات ..

ثم افترقنا

فهل نلتقي في دماء الجنوب ؟

يعاودني –بعدما نال مني غبار السنين

وعند اشتعال الحروف

وعند اندلاع الحروب –جنوني

بفاكهة ..

أأقول محرمة مشتهاه ؟

فأبصر في قلب باريس أسوار عكا

وأسرار شـــــــــــــيراز ..

ألمس نار الخليل

أبشّر بالبرق :

أسرار شيراز تفتح لي البحر

والخضرة المجتباةَ بعيني حبيبي

تبشرني بالخطيئة آنا

وآونة بالنعيم المقيم .

وينشق من غضب البحر صوت :

تطرّف ليعتدل الأمر ..

هذا زمان التطرف في الحب أو في التصوف

هذا زمان التطرف في شطحات السياسة ، أو في الحروب

{2}

هو النسر يقترب الآن من حضرة الشمس :

تلك سماء تمور

ونجم يغور

فأجج جموحك، واقرأ صلاتك ..

فالشمس مقبرة للنسور

هي الكلمات الملاذ الأخير

إذا الأرض ضاقت بأشواقنا الهمجيه

وحاصرنا الألم المتربص :

أقرأُ سورة يوسف ..

يشتعل القلب منتفضا كالحمام

أليست حروفك أكبرَ من كل أحلامك الحجريه  ؟

أما زلت تطلق نحو السماء رصاصة رفضك ؟

-  هيهات !

-  نحن التقينا على الدرب من بعد سبع سنين

وكل الشعاب مضرجة بالدماء

وكل المواويل مضرمة بالحنين

قصائدنا لم تعد يا صديقي

مهرّبة تحت جنح الظلام

لأن الكلام الذي كان يفتح بابا

إلى الحرب أو للكلام

تناثر حين عرجنا إلى ملكوت المــــــــــــــــساكـــــــــــــــــين

عبر نداء العمائم شاهدةً والرصـــــــــــــــــاص

لنشر غبار الـــــــــــــــــــــــــــــسلام .

                       {3}

أرى صوت دوريس يسكنني مثل طائر برق

كأني أفتح باريس أول مره

على صهوة من حصاني الجموح

   { هـــــــــــــــــــــــــــي الــــــشمــــــــــــــس مــــــــــــــــــــــــــــره }

ودوريس في قلب باريس كالنجمة الشارده

تمارس غربتها القدسية في الساعة الواحده

تضيء ..تضيء ..

وتسمو على طين باريس

تغرق في صلوات التوحد حتى الغروب

وما بين غاب (بلوني) وشارع (راسباي)

ما بين ذاتي وذاتي

يضم القــــــــطار

  حديث جروح

       وإصغاء روح

وتشـــــــــهق في ســــــــــرها كلماتــــــــــــي

أحــــــــــــــــن إلى نــــخلة في بـــــــــــلادي

وصوت المـــــــــــؤذن يحدو فؤادي

وتصبح دوريــــــــــس بين العواصف مفتونة بالجنوب

ومسكونة بالتوهج والحَزن المتوجس حتى الجنون

ســـــــــــــــــــنا، كانبثاق الينابيع، يسكن شعري

ألا انقدحي يا شـــــــــــــــــــرارة عـــــــــــمري

فإن الذي تحذرين لَـــــــــــــــــواقـــــــــع

ولا تعلم النفس ما الله صانع

ألا انقدحي !

إن غابات حُزني الأسيره

مهيأة لاحتضان الرماد

ويا فتنة تتنزل من عالم الملكوت

مواسمك الخضر أخاذة

والهواجس شتى

ففي أي أرض نموت ؟

وأي جزيره ؟

تعانق أشواقنا المستكنّه

تمرين كالحلم أو كالسحاب

ولا تمطرين

فهل تسلمين إلى النور يوما قيادك ..

هل تسلمين ؟

هياكل نور تفتّح دونك

فافتتحي صلواتك خاشعة مطمئنة !

                        {4}

يعاودني طائر البرق

يخطفني من صراخ (الكريـــــبـــتـــــــــــــــــون)

يجنح نحو بحيرة زوريخ في لحظتين

ليوغل بي في الجنوب

فما بال قلبي ينزف ،

       يجمح كالمـــــــــستجــــــــير

كأني  أخط القصيد الأخــــــير

ودوريس[2] المعنّى

وهل هي في غناء أم بكاء

وأنت ؟ فقلت : وجدة بعض فرعي

وأصلي دونه نجم السماء

ولكن لي لشيراز انتساب

وفوق الرحم شعر الأصفياء

أظن المجد للأشعار ينمي

وليس المجد من أثر الدماء

فدى عينيك يا شيراز مالي

ولو أن الزمان غدا فدائي

{3}

(إلى التلميذة ن.ح. وقد لقيتها بالمدينة المنورة)

أعدْتِ إلى النفس ســـــــــــــــرّ الزمان

وأيقظت أشجان روحــــــي الدفينــــة

وحلما تسامى إلى أن تناهى

ولامس كالنجم دنيا ضنينـــة

(سلام عليك) وتنتشرين

عابرة في دمي كالسكينة

وعاصفة كاختلاج الفؤاد

تمدين أشواقه وشجونه

فكيف أتيت، وكيف اختفيت ،

وكيف تواريت كالياسمينه !

صَنـَـــــــــــــــــــــــــــــــــــم

لكم حذّرت قلبي زلّـــــــــــة القدم

فلم يأبــــــــــــهْ

ولما لحتِ كالصــــنمِ

سكبت بذاتي الرهبــةْ

زرعت جوانحي أملا

ولم أحصد سوى الخيبــةْ

فوا ندمـــــــــــــي !  

قــــــــــــربانٌ

قدمت أشعاري لذاك الكائن المجهول في صــــــــدري

يساكـــــــــــــــن سر أســـــــراري ولا أدري

كــــــــــــــجوف مــــــــــــــــــغارة فـــــــــــي الـــــــــــــتيه

لا ورق الحمام يــــــــــــــــــــزورها أبـــــــــــدا

ولا نسجت عليها العنكبوت خيوطها الشّهباء

تفجعنا وعود السامرين وسطوة الحكام

يفجعنا انهيار المضربين عن الطعام

وحشرجات الصائمين عن الكلام

وتمتمات القادرين على التمام .

خمْـــــس محطّات صغيرة

بعـــــض الــــــهوى

أعيدي إلى القلب صبوته الآفلـــةْ

لقد صــــــار حـــــــــــــبُّك فـــــــــــرضا

وبعـــــض الــــــــــــــــهوى نافلـــــــــــــــةْ

2ــ   الـــــــراجـــــــفة :

أول الـــغيث قـــــــــطْرٌ

وأول هذا الهوى عاصفــةْ 

فما آخـــــــر الغيث؟

قل إنـــــــــــها الراجفــةْ

3     ـــــ  النـــــــــــصح :

قد قلـــــــــت لـــــكْ

وأنتَ في عزلتك الخرســــــــــــــــــــاء

مطوّقا نفسك كالراهب بالصمتِ

فلا شعاعَ في الأفْـــقِ

                     ولا نجمةَ في السماء

لا تســــتقيم حُلل التّقوى مع الأيام

وخـشـــــية الأنــــــــــــــــام

4     ــ  بـــــاب المــشاهـــدة :

ما كنت أرانــــي مغلـــولا

فغدوت أرانـــــي مقـــــتولا

وأرى فيك دمي مطلولا

كل نساء الأرض جـــــواريك

إذا أنت ملكت لباس التقوى

ودخلت الـــــــــباب

وخلّفتِ وراءك زينتك الأولــــــى

5     باب الهجرة :

خُــــــبّي أيتها القـصواءْ

خُــــــــبّي بـــــــــــالله عليكِ

لعلّ جناحك يبْلغني بلداً

يتموج أهلوه بضياءْ

مــعــــزوفـــة الغــريب

أســـــــــــــقـــــــني من كوثـــــــــــــــر الحكمة قطره

واتخذني لك عبدا ليس يرضى سيّداً دونك

                                طوعاً غير مكــــره

إنني ألقي بأشواقي على أعتابك الخضراء

                               والكون مـــــــــــــــــسرّه

ودثاري الحزن، والروح غريب

غربة ما ذاقها شيخ المعرّه

كلما زلت بي النفسُ

تمثلت بما قال مغنّي كليوباتره

" أنا من ضيّع في الأوهام عمره "

يا صديقي :

طالما عللت بالأوهام ذاتي

طالما أعليت صرحي

من دخان الترهات

لا تقل لي :" إنما الغبطة فــكــــــــرة "

" والجحيم الآخرون "

أنا لن أعلن موتي قبل موتي

إن لي من هذه الرحلة غاية

إن لي في الموت آية

لا تــــــــــقل لـــــــــــــي :

أنت لو تدري مدار الكون

والنفس إذا صارت أثيرا

دونها ألف مجــــــــــــــرّة

يــــــــــا صــــديــــــــــقي

أنا من ماء وطين

وسراج العقل إن لم يلتمس من نفخة

                   الأشــــــــــواق نـــــــــــورا

صــــــــــــــار وهــــــــــــما كـــــــــــالجنـــــــــــــون..

المقـــــــــــــــــــــــــــــامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــات

مقــــــــام الحـــزن

أنا ســــــــــليل الحزن

لســت أحتسي كأســـــــيَ إلا من خوابي الحُــــــزْنْ

يــــــشــــــــــــــــــقّ لي الحزن طريقا يَـــبَـــساً في البحـــرْ

يحملني على جناح المزنْ ،

سمعت صوتا قادما من ملكوت الفجْــــــــرْ

يـــــقول :  " إن وجدتني وجدت كل شيء

وإن أنا فتّـــــك يا ابن آدمِ

فاتك كلُّ شيء "

أقول : يا افتحي مصاريعك يا أيتها البيداءْ

وظللي الفارسَ بالسحابــــةْ

تنفتح الكثبان بالظلال والعيون والأنداءْ

أيتها البيداءْ

ها إنني أحمل سيف البرق في كفٍّ

وفي كفّ نشيد الوصل والصبابـــــةْ

أنا سليلُ الحزنِ

لا أستلُّ إلا من دمي الأشعـــــــــارْ

وإنني أقيم بين النار والإعصار

طيبةُ تدعوني

ويدعوني إذا ظمئت للأنوار

صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام

أن أسرج الخيل، وأن أمتشق الحسام

إن صادروا حتى من الحناجر الكلام

- يا أيها الفارس !

دلني إذن على طريق الجنّــــةْ

- لم أر إلا ، يا سليل الحزن،

 أن تسير فوق شفرات الموت والأسنــةْ

أقول : لا تحزن إذا داهمك الحصار

وبشر الصحاب حين يولد الغبار

أخرجُ من خوفـــــــــي

       ومن صمــــــــــــــتي

              ومن تـــــــــــــــرددي

أدخل في تهجّدي

                 تــــــــــــــوحـــــــــــــــــــــــــدي

يا نفس لا تراعي ،

"  أقسمت يا نفس لتنزلنّه "

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدّوا الرنّه

مالي أراك تكرهين الجنّه ؟

قد طالما قد كنت مطمئنه

هل أنت إلا نطفة في شنّه ؟

مقام الشهيد

ما الذي حين شققتم صدره

قد وجدتم غير مصباح يضيء

لحظة ..لا تقرعوا الكأس بأخرى

هو آت ..هو كالسيل يجيء .

مقام الأمل

قّدرت أنك سوف تأتي -لا مراء –

وأن هذا الليل يرحل حين تأتي

أن قلب الأرض يخفق حين تأتي

تمرع الجُزر الجديبة من زمان

قدّرت أنك – أيهذا الفارس الحلم المضيء بطينة الأصحاب –

تأتي فاتحا مدن الدخان

لكنني ما كنت أعلم قبل إدلاجي

بأنك سوف تطلع من كياني .

مقام السراب

ها قبضة الحمأ المغل تغور، تسرح في إهابي

وتبث سقما في ركابي

وتشد خطوي للتراب

وأنا – سليل الحزن- أستهمي لما بي

لفحَ السراب

مقام الظــــــــمأ

أدعوك إنّــــــي ظامئٌ

أنا ظامئ للنور، للنور العظيمْ

أسعى إليكَ فضُــــمَّني

يا أيها النور الكريمُ وغطَّني

إني ظمئت وعيل صبري

يا أيها الروح العظيم فشُـــــــــقَّ صدْري

                              شُــــــــقَّ صدْري

وإذا أبيت فشـــــــــــقَّ قــــــبْــــــــــــري

                     شُـــــــــــــــــقَّ قبْـــــــــــــري

قد عيل صبْـــــــــــــــــري 

وظمئت للنور العظيمْ

مقام التوبة

مثقلٌ بالخطايا

وقلبي حـــــــزينْ

فكأني أجـــــــرُّ ورائي القرونْ

وتذكّـــــرْتُ :

( آب إلى الظل : لا شيء !

لا شيء عبر المدى

ثم أغفى قليلا :

ولا شيء غير الردى .)

وعلى الباب أقرأ :

سائلُنا لا يُردْ

ومن يعتصمْ يغترفْ

من بحار الهدى .

مـــقام الــــخوف

إنه الخوف من قبل أن يعقد الألسنــةْ

يرسل الدم أزرق أزرق للأوردة

ثم يسطو على الأفئدة

يلجم النفس،

 يغتال فيها الربيع المنور سوسنةً سوسنةْ

غيْـــرَ خوف يباشر أخلاطه

                   الحب في العالمينْ

فهْــــــــو دربُ اليقينْ .

مقام التطهير

أمــــدُّ إليك من خلل الرماد يدا

كأني واشتعال الموج في قلبي

غريق يستغيث فيمسك الزَّبــــــدا

سيدركني الزمان كمركبٍ مهْــــــــــــــــــجورْ

كدرب لفَّــــــــــــــهُ الديجــــــــــــــــورْ

ويعلو قلبي الصدأُ

كقنديل إذا احترقت ذبالته

تلألأ .. ثم ينطفئ

فطهرني ..

مقام الحقّ

أيها الطين المعاندْ

يا كيانـــــاً

لم يذقْ عِـــزَّ السجود

للذي قد أخرج الخبْء من الأرض الودود

قفْ تأمَّــــــلْ !

هو ذا ظِـلـُّـك ساجدْ

مقام الحبيب ساعة التجلي

أيُّـــــــها الـــدَّرْويشُ ما أنتَ ؟

تـــــــــرابٌ في تــــــــــرابْ

فاركبِ البَــحْـــرَ ولا تَــــخْــــشَ الغرقْ

أيُّها الدرويشُ أبشِـــرْ

ها رحابُ النُّــــــورِ تدعوك إليها

فاحترقْ

تختَـرِقْ

إنَّه الحقُّ تجلَّى من وراء الحجْبِ والنَّاسُ نيامْ

أيُّها الدَّرويش أبحرْ

وتجَــــرَّدْ من مَخيط الشهوة الأولى ..

تـــــحَــرَّرْ

إنَّها الغايةُ حقّــاً

وسوى ذاك سرابٌ في سرابْ

مقام السلام

( هــــبة المحــــبوب قبل الـــــســــــــــــؤال )

أنت السّلامْ

ولك السّلامْ

طوقْتني منناً وآلاءً جسامْ

أوليتني نعماً عظامْ

أعطيت ذاتي كل ما تسألْ

من قبل أن أسألْ

ووهبتني أفضلْ

مما سألت، هديتني سُــبُــلَ السَّلام

كرّمتني مولايَ حين رضيتني عبْــــــــدا

ومنحتني رفْـــــــــدا

الحب والإيمان والمجدا

فبأيِّ جارحةٍ؟

بأي فَـــمٍ أبثُّ الشكــرَ والحمْدا ؟

قسماً لوَ اَنَّـــكَ يا إلهْ

يا منْ وهبتَ ليَ الحيـــاةْ

ركّبت في شفتِــي أنا كلَّ الشِّــــــفاهْ

وجمعت لي كلَّ الجباه

فسجدت سجدة عاشقٍ

ألقى لسيِّـــــــده زِمامــــهْ

وبكيت من شغفٍ إلى يوم القيامةْ ..

لكنَّ علْمَــــكَ بي ..

ولطْــفك يمنحُ القلْـــــبَ السَّلام

فلك السّـــــــلامُ ،

       لك السّــــــــلامُ ،

              لك السّـــــــــلامْ .

[2] . منطق الطير : ديوان فريد الدين العطار

وسوم: العدد 721