تشْرُق الشمس

الفسيلة

{1}

إنها تمطر في الليل ولا نجم على الأفق يضيءْ

لا أنا أملك أن أعبر لماحاً إلى خيمة طاغورَ

ولا أنت إلى بستانِ إقبالٍ كشلالٍ تجيءْ

معطفي تمضغه الرِّيحُ، وقلبي مثل بحَّارٍ قديمْ

ضائع وسْط السديمْ

وكنوزُ العشْقِ في قصر مشيدْ

خبَّأتْها الرِّيحُ من عصر الجليد

وأرى طيفك من خلف الأعاصيرِ

كظلٍّ في هجير البيد مُمْتَدٌّ وريفْ

غير أنّ الليل كالوحش الخرافيّ مخيفْ

وانتظاري المرُّ، والبردُ، وأجراسُ الخريفْ

وكلانا واقفٌ في الضفَّة الأخرى وقنديليَ نجْمٌ لا يضيءْ

لا أنا أقدر أن آتي، ولا أنت مع الفجر تجيءْ

{2}

بعد شهرٍ

بعد عامٍ

بعد جيلْ

تثمر الأرض، وتخضرّ الفصولْ

ويغنِّي البلبلُ العاشقُ ورداً في الحقولْ

ويُبينُ الصُّبحُ محرابَ البتولْ

ليس في شرعتنا شيءٌ يسمَّى المستحيلْ

فازرعِ الآن الفسيلْ

لا تقُلْ أجدبت الأرضُ

ومسّ الوردَ في الروض الذبولْ

إنها ثورتنا مخضلّة الأنداء في لون الربيعْ

ثورة يزهر منها اللوز ريّان، وغابات النخيلْ

{3}

عندما أذّن في الناس الخليلْ

لم يكن في الأرض زرعٌ

لم يكن في الأرض ضرعٌ

لم يكن فيها شحارير تغنّي

بين أغصان الشذا والزنجبيلْ

لم يكن في الأرض ماءٌ

                   لا ولا طيرٌ يقيلْ

لم تكن فيها ينابيع جرت كالسلسبيلْ

لم يك الوادي بذي زرعٍ

ولا حبّة برّ تسعف الخلقَ

               ولا ماءٌ يسيلْ

غير أن الله ذا الفضل الجزيلْ

قال للصخر: "انبجسْ"

فانبجسَ الصخر بماءٍ

تحت أقدام الرضيعْ

فانتشى الرملُ

وفاضت بالربيع الحلو أعراقُ النخيلْ

وأتى الناسُ قبيلا ظامئاً إثر قبيلْ

فلماذا نوصد البابَ أمام الشمسِ؟

           والليلُ بأحداقِ المساكين قتيلْ!

{4}

عندما حدّثتُ شيخي قبل جيلْ

عن سياط القهْر في الليل الطويلْ

عن دجى زنزانتي،

عن بردها القاسي،

                وعن صبري العليلْ

قال: يا حيرانُ صبراً،

إنني أبْصرُ في الآفاقِ نوراً لا يحولْ

{5}

كلما أوصدتَ باباً للحرامْ

فُتِّحتْ دونك أبوابُ الغمامْ

والخزامى

والشحاريرُ وأسرابُ الحمامْ

والندامى

يشربون النور صرفاً

                    لا ملامْ

                    لا أثامْ

والفراشات بروضٍ أُنُفٍ

نشرتْ أجنحةَ الحبّ، وغَّنتْ للسّلامْ

كلما أوصدتَ باباً للحرامْ

فعلتْ كفك ما تفعلُ في يوم حزينٍ

                          صلواتُ الابتسامْ

{6}

أيُّها الشَّعْبُ النَّبيلْ

أيُّ مصباحٍ أضاءَ الليلَ، والليلُ عذاباتٌ تطولْ؟

لا تجادلْ، فالذي كان بظهْر الغيبِ أضحى

                 قمراً أخضر في حضن زلاغِ

يا تراتيل زلاغِ

علّم القلبَ عطاياكِ بأنّا لم نكن نحرثُ في البحرِ

وما كانت ليالي السُّهد لغوا..

                   مُرُطُ الغيد تحدّتْ كلّ باغِ

فإذا القرْطُ من الشوق يناغي

طلعة الصّبح الأثيلْ

أيُّها الشعْبُ النبيلْ

سهَرُ "الزيتونِ" في مكناسَ ما كان هباءً

و"بعين الكرْمةِ" الهدباءِ

عينٌ قدْ بكتْ من خشية اللهِ،

وعينُ حرستْ جند الغد السَّاكن في صوت الهديلْ

وأنا لم أتّخذْ دونكَ في دربي الطويلْ

صاحباً رغم عزيف الريحِ ، في صحراءِ قلبي، والعويلْ

فهواك الفردُ قنديل صَبا ، يحرسه سيفٌ صقيلْ

{7}

من سماء العشْقِ حُبْلى

تتَدلّى

غيمةٌ وهْي اشتياقٌ

يبتغي نبض الحقولْ

بعدما أرّقنا ، بالأمس، ليلٌ نابغيٌّ

نجمه في حمأة اليأس غريقْ

وثقيلُ الخطو،

مكسور الأماني،

           كعذابات الطريقْ

شعّ من مصباحنا نورٌ بلا زيت يضيءْ

لا تجادلْ،

في غد سوف يجيءْ

فارسُ الضوءِ ، وفي عينيه آبادٌ تغني

                وعلى المرج ظباءٌ ووعولْ

حيث يلْقَى القَمَرُ الأخضر في حضنِ زلاغ

سرَّه الغافي العميق.

{8}

وطني المعشوقَ لا تركنْ لعرّافٍ،

           ولا تأمنْ لصوص الثّوَراتْ

خنجرٌ يلمع خلف البسمة الخجلى،

                          وتحت القُبُلاتْ

كن جميلا ، سيّدي ، واحذر رياحين الخديعةْ

لم يزَلْ دونك والنّصر مسافاتٌ مريعةْ

وسراديبُ وأكبادٌ ولوعةْ

وطني العاشقَ

لا تركنْ إلى القرصانِ زانت كتفيه الأوسمةْ

فهْو لا يعرف طُهر الكلمةْ

هو يدعوك إلى سَهْرتِه ليلا

                     ويغتال جوادَكْ

هو لو يقْدر يقتصّ من الفجر فؤادَكْ

وطني ، تسألني النجمة صبحا

عن عناقيدك، عن مشمشك الشاويّ فوّاحَ الشذا

عن كرَز الأطلس في كفّ الصبايا

لوَّحَتْهُنَّ مساءات اللغوبْ

  لم يحنْ بعد القطافْ

فأنا صرتُ أخافْ

سارقي الثورةِ في السَّبْعِ العِجافْ

أقبلتْ وهْي تغنّي،

وعلى أعطافها نهر الفراتْ

يرسل الآه ويسقي نخلةَ الشطّ زكيَّ العبراتْ:

قد بلونا نحن من قبلُ لصوصَ الثَّوَرَاتْ

ولهذا رحلتْ بغدادُ عنّا، فحملناها إلى المنفى،

وسيفُ الغُرْبة الخرساءِ يبري حلمنا،

                    والعطْرُ في الوردةِ ماتْ

كفْكفي حُزْنكِ يا بنت الفراتْ

كفكفي الدّمع الذي يوقد في الظُّلمة نَارا

واجعلي الصّبرَ دثارا

وتعزّيْ بالقنوتْ

كلُّنا من شفَراتِ الغربةِ الخرساءِ في المنفى نموتْ

(9)

كنتُ يوما في طريقِ الغدِ محموماً أطوفْ

زائغَ النظرةِ، مغلولَ الخطى،

                أحْملُ أحزانَ الخريفْ

كالذي يُغْشَى من الموتِ،

               تهدّ الريح خطوي وخيامي

وأنا ملقىً كأني سَقَطٌ وسْط الزِّحامِ

إنّها صاعقةٌ أحرقتِ الغاباتِ في الأفْق البعيدْ

كي تضيءَ الدَّرْبَ في ليْلِ العَبِيدْ

(10)

ساعةُ العسرة دقّتْ

والعناقيد تدلّتْ

بظلالٍ كالنشيدْ

وإذا نجوى من الصَّحْراءِ هزّتْ

خافقَ العاشقِ في الصُّبح الوليدْ

" كن أبا خيثمة القادمَ من ظلّ مديدْ"

وتجلّى شبحاً يقطع بيداً بعد بيدْ

يا أبا خيْثمةَ الطَّالبَ جنّاتِ الخلودْ

أنت ما بين ظلالٍ

وزرابيّ وحُورٍ قاصِراتِ الطَّرْفِ أترابٍ وعُودْ

وذَوُو العسرة في جهْدٍ جهيدْ

ليس هذا بالنَّصَفْ

قمْ إلى وعْدِكَ، لا تخشَ التَّلَفْ

فإذا دربُك يُطْوَى

مثلما تُطْوَى الصُّحُفْ.

(11)

سحبٌ داكنةٌ في الأُفُقِ الشَّرقيِّ

              قد خَطّتْ على الرقّ الأنيقْ

ما به حَدّثت الرؤيا التي صدّقْتَها،

فاخْضلّ ممّا أغدقتْ كفُّ المحاريبِ العروقْ

يا إلهي! أعطني الحكْمَةَ والصَّبْرَ،

لكي يصبحَ أعدائي أخِلَّاءَ إذا شبَّ الحريقْ

فبلادي وردةٌ من دمنا

                   تسقي حناياها البروقْ

وبِلادي خَيمةُ المسكينِ، والعاشقِ،

والمجذوبِ يستلُّ من الحُزْنِ الرَّحيقْ

يا بلادي

إنّني لن أستعيرَ اليوم لا ألوانَ لُورْكا

لا ولا أشعارَ ريلْكا

كي أغنِّيكِ، وأشْدو بعطاياكِ

     التي فجّرتِ الأنهارَ في الوادي السّحيقْ

ف (تماريثُ) غناءٌ لتباريحِ الغَجَرْ

و(السُّنِيتَاتُ) نشيدٌ لعذاباتِ الحجَرْ

ولشعْبي صبوةُ الشَّمْسِ إلى الزَّرْعِ،

               وقيثارةُ حبٍّ لربيعٍ منتَظَرْ

(12)

عندما كان الفتى المفتونُ ب (السِّين) و(مُونمارْتر)

                  ضُحًى يُنشدنا أشْعارَ رونْسَارَ:

"كاسَنْدْرا،َ

يا رُخام النّور، إنّ الصِّبا منْصرمٌ

مثلما ينْصَرِمُ الفَصْلُ اللطيفْ"

عندما كان يغنّينا إذا هَبَّتْ رياحُ الغربِ

 في أشعار فرلينَ:

تُناغينا كمنجاتُ الخريفْ

فيصيرُ الدّمع مجدافاً إلى الحُزْنِ الشفيفْ

أيْ كسندرا

رفعوا من غصنك النّاضر للحسْن مثالا

يتلالا

منك، لكنْ...

منطقُ القلبِ له فصلُ المقالِ:

مجْدُ شعبي كان تمثالي المنيفْ

يُزْهِرُ اللوزُ مع الصّيف، وتخضرُّ الدوالي

ما على قلبي إذا يوما نعتنا القُبّراتْ

ومضتْ تهتفُ ريحُ الشّرقِ:

إنّ الشّاعرَ المسكونَ بالغُربة مَاتْ

ليعيشَ الشَّعْبُ في ظلٍّ وريفْ

قال يوما شاعرُ الغَرْبِ وقدْ غنّتْ بمسراه النُّجومْ:

كانت الغوغاءُ في السّفْحِ،

ولكنّ الأعالي موطنُ الشّعب العظيمْ.

(13)

كانتِ العرّافَةُ العمْياءُ تبكي:

أيها العاشقُ، مسدودٌ طريقُ العاشقينْ

ومن الحكمة، يا مجنونُ، وأدٌ للمشاعرْ

فلهامانَ جنودٌ لا ينامونَ،

وأعوانٌ شدادٌ

                قطّعوا كلّ وتينْ

أيُّها العاشقُ لن ينفع حلْمٌ

فقليلُ الزَّاد خيْرٌ من سراديبِ الجنونْ

ورداءُ الصَّبْرِ خيْرٌ من كوابيس السُّجونْ

لا تغامرْ

فلهامانَ جنودٌ

ولفرعون عيونْ

 لا تخافي يا ابنةَ الرّملِ الحزينْ

إنّ للتابوتِ شأناً

            ليس تحويه العيونْ

(14)

مثلما عنقاءُ مُغْربْ

أيُّها الشّعبُ عطاياكَ مَعينٌ ليس ينضبْ

ذكَّرَتْني طارِقَ الأنجمِ ذا العَزْمِ المُذرَّبْ

عاشقاً يفتحُ باسم الله كوكَبْ

إثْرَ كوكَبْ

والذي كان له الله مَعيّاً ليس يُغلَبْ

طارقُ الأنجمِ يمضي

حاملاً في القلبِ زيتونةَ حبٍّ

لبلاد لم تطأْها بسْمةُ الشمسِ،

            ولا قبّلَتِ الخَدَّ المذَهَّبْ

هذه الكأسُ التي تحملها العاشقةُ العذراءُ

                 ليستْ تتقفّى أيَّ مشْرَبْ

عندما ينتصبُ النَّخْلُ العراقيُّ بغرناطةَ

يبكيهِ أميرٌ عربيٌّ

أسرجَ الليلُ جَواداً

               وإلى الفجْر تقرّبْ

لم يكُنْ صَقْرُ قُرَيشٍ غيْرِ لَمعٍ

من عمودِ النّور جلّتْ ضوءَهُ عنقاءُ مُغربْ

أيّها الشَّعْبُ ، عطاياك معينٌ ليس ينضبْ

وإذا النّخْلُ العِراقيُّ انحنى تبكيهِ "تارا":

يا تُرى من أين جاءُوا هؤلاء؟

من تُرى سَلّمَ لابْنِ العَلْقَميِّ اليومَ أسرارَ اللّواءْ؟

ومتى الفارسُ يُعْلي رايةَ الثأرِ، عسى يحمي الذّمارا؟

عم ربيعاً أيّها الشّعبُ الجميلْ

فجيادُ الفتحِ جاءتْ تحْمِلُ البُشرى،

                          فيخضرُّ الصهيلْ

إنّها بُشْرى الرسولْ

الشارقة في  المحرم 1433/ديسمبر2011

باقة غيم لأحزان عشْتار  البابليّة

                    

وهكذا كنت في أهلي وفي وطني

إنّ النفيس غريبٌ حيثما كانا

أبو الطيب

شربنا ماء دجلة خيْرَ ماءٍ

وزرنا أكْرَمَ الشّجر النّخيلا

أبو العلاء

أمطري لؤلؤا جبال سرنديب

وفيضي آبار تكريت تبْرا

أنا إن عشْت لستُ أعْدم قوتاً

وإذا متّ لسْت أعْدم قبْرا

الشافعي

إني أقاوم بالكتابة

في الأرض شيءٌ غير فرع الكستناءْ

شيءٌ جدير بالمديح وبالثناءْ

لِمَ أنت مشْدودٌ إلى ذلِّ الترابِ،

             ولست ترفع مقلتيك إلى السماءْ؟

إنْ حُبّبتْ لك هذه الدنيا

                        فأوَّلُها بُكاءْ

مرّ، وآخِرُهَا بكاءْ

من ذا الذي يغدو جديراً باشتعالكَ؟

                          بالطريق إلى البهاء؟

إني أقاوم بالكتابة غربة المنفى،

                         وأوجاع الفراقْ

إني أقاوم بالكتابة عزلتي الخرساءَ،

صمت النازحينَ،

صليل أنهار الحنينِ،

وحزن زهر الياسمينِ،

أقاوم الأسلاكَ ، والأشواكَ،

واليأس الذي يسعى إلى غزو الوتينِ

وأستحثُّ الغيْمَ ، يسقي دارة المستضعفينَ،

                            ويحمل البشرى لدجلةْ

يا أيها القلبُ المولّهْ

ماذا أقولُ غدا إذا قال الإلهُ:

                أما وهبتُكَ صولةَ القلم المبينْ؟

الناي الجريح

قمرَ العراقْ

أفديك يا ناياً يئن من الفراقْ

قدراً لقانا كان في المنفى

يطاردك الأعادي

وأنا تشرّدني بلادي

لم تبق غير هنيهةٍ لي،

                ثم يُؤذن بالمساقْ

فلمن سأجعلها

صُبابةَ هذه الكأس التي ظلت تنادي:

يا راحلين من العراقِ إلى العراقْ؟

والكأس تهتف: سوف أخرج من رمادي

       ما عاد ديك الجنّ يُصبيني،

           ولا ريحي، إذا ما ريحه مالت، تميلْ

من ذا الذي يغتال فينا أكرمَ الشَّجر النَّخيلْ؟

أتراه سيفَ ابن العلقميّ ؟ أم المغولْ؟

أم صاحبَ الإيوان، حين غدا تصاحبه الشمولْ؟

يا أيّها القمر الذي قد زاده المنفى بهاءً،

       واستظلّ بظله الممدودِ مجنونُ البوادي

خذني إليك، فربَّما يمتصّ شوقي

                نوركَ المسقيّ من وجع العراقْ

اليمامتان

طرقتْ هواي يمامتانْ

تتناجيانْ

تتبادلانْ

سحر البيانْ:

ما أبتغي من فتنة الأضواءِ؟

                قيدٌ في الحياة وفي المماتِ

صوَرٌ مزخرفةٌ،

سرابٌ راح ينشرني ويطويني،

وينسج من لظى الأوهام لي كفناً،

                        ويشربُ من دواتي

لم تبْقَ غيرُ سويعةٍ بيني وبين الطّينِ،

    يسري بي إلى أجلٍ، ويطعم من رفاتي

أوَ ألتقي بك يا عراقْ

قبل الفراقْ؟

        ما أصعب المنفى، وما أقسى مخالبه،

يمزّقنا، فلا أجسادنا تُفْرَى

                     ولا دمنا يراقْ.

الإعصار

نمرود هذا العصر، منتصباً، كعجل السامريّ له خوارْ

في كلِّ دربٍ، كلِّ منعطفٍ ودارْ

أو لم يكنْ في الذاهبينَ الأوّلينَ من القرونِ له بصائرْ؟

أوَ ما يرى أنْ حيثُ صاروا فهْو صائرْ؟

أوَ ما يرى أنّ الطغاة إلى بوارْ؟

ها أقبل الإعصار يهدم كلّ شيءٍ...

كلّ شيءٍ...

وحده من يستجيرُ بمن يجير

ولا يجار عليه يملك أن يجارْ

كم قد سعيتُ إليك،

والشّوق المزلزل كاللهيب له احتراقْ

لكنها الأيام تؤذن بالفراقْ

قبل التلاقْ

حتى التقينا، كاليمام بحضرة المنفى،

يُسَرْبلنا الحنينُ، وقد تخبّ بنا مطايانا العتاقْ

يا ربّ ألبسْنا رداء الصبرِ،إنّ منازلَ الأحباب نائيةٌ،

ونار الشوق تهتفُ بي: عراقُ،

عراقُ، يا زادَ المسافرِ، كلّ نبضٍ فيّ يهتف بي: عراقْ

فلم احتجبتَ إذنْ؟ وأيُّ غمامةٍ قد سامَرْتكَ

لكي تفوزَ بنور وجْهِكَ وحدها؟

يا أيُّها القمر الذي يسري،

        وقد أحيا شبابَ القلب في زمن المشيبْ

يا من يفتّحُ لي بساتينَ الرؤى الخضراء من قبل المغيبْ

يا من يدثّرني، ويغسلني بماء الشوقِ دفاقاً،

      ويوقدُ أبْعَد النأيينِ، عن مغناه في دميَ اللهيبْ.

فأنا صغيراً عُلقتْ بحبال سَرْحَتِهِ حِبالي

وأنا صغيرًا أوقدتْ نارَ القرى بحماه أزمنتي الخوالي

صرخة جرنيكا

هل كان بيكاسو يجوس خلال جرنيكا،

                            ويبصر عندها وطني الحزينْ

في غرفة التعذيبِ، ترعاه مجنّدةٌ لها بشرائط الموتى فتونْ؟

وتدوسُ أشلاءَ الكرامةِ في جنونْ

تلهو، وتَسْقُطُ عند أعقاب السّجائر مُنْهَكةْ

إنّ التي غنّى وليدُ الأعظميّ لها (أغاني المعركة)

هتفتْ: قذائفُ هذه الكلماتِ عامرةٌ إذا انطلقتْ...

فلن ترتدّ نحو كنانة الرّامي، ولن تُغْلبْ

هل كان بيكاسو يرى لوركا قتيلا، وهْو يُودِع حُلْمَهُ غرناطةً

ليُطلّ محمولا على الأكتافِ في الكرخ المكين؟

كانت أغاني الحارس المتعبْ

هونًا تمرّ على جدائل دجلةٍ، فيميل بي المرْكَبْ

كالطائر الميمون نحو أحبةٍ ملأوا سماء الروح إيماناً

فكلّ زهيرةٍ نجمٌ، وكلّ صبيّةٍ كوكبْ

الثور مطعوناً تلفّ الكبرياءُ جراحَهُ وإباؤه المغْضبْ

ما جرح (جرنيكا)  بأوجع من جرار الصمت في عينيكِ،

سيدتي، كأنّ الصمتَ قبضةُ ثائرٍ، وبريقُ ضوءِ عيونك الأشْهَبْ

فوّارةُ الآلامِ، لا تنضبْ

غبارُ الأرض لن يحجبْ

بهاءَ سمائك الأرْحَبْ

أمّي

أمّي نداءٌ من سماءِ الغيبِ، تدعوني،

تدثّرني، تطوّقني، تقول:

أنا أحنّ إليكِ من خلْفِ الحجابِ،

ومن سوايَ حبيبتي يأسو جراحكِ؟

من سواي تُرى يُلَمْلِمُ حلْمكِ المكسورَ؟

يُطْلِقُ غيْمكِ المأسورَ؟

...آهٍ، من تراه سواكِ يملأ من نجوم الصّيف أحداقي،

                            ويحملني إلى وجد العراقْ؟

كانت كهمسِ النّسمة الوسْنى تُتَمْتِمُ: يا عِراقْ

من ذا الذي يُدني ركابكَ من ركابي؟

من يكون إلى علاك، إلى سماك، لي البُراقْ؟

من ذا يصونُ دمي؟ شبابي؟

من يُطَوّقْني ثرى وطني أكنْ حصناً له،

وأنا الحصانُ، أنا الرّزانُ،

أنا قرابُ السَّيْفِ، إنْ شدّوا الوَثَاقْ

الهؤلاء

قامتْ مبلّلةً بماءْ الشَّوقِ، والذّكرى تردّد في إباءِ:

من هؤلاءِ؟

من هؤلاء الصّاعدون إلى دمانا كالوباءِ؟

من هؤلاءِ؟ وجوههمْ غجريّةٌ،

وقلوبهمْ حجريّةٌ، وأكفّهمْ زرقاءُ تقْطُر بالدّماءِ

مهْلا! لماذا أنتِ مطرقةٌ؟ بساتينُ الرّصَافة لا تدولْ

ومياهُ دجْلةَ ليس تنضبُ أو تحولْ

ودعاؤك النبويّ في نبض الحقولْ

يسري بهيّا، ليس يدركه الذبولْ

يا أختَ عشتارٍ، لماذا أنت ساهمةٌ؟

حنانكِ، إنّ هذا الحُزْنَ قد يغْشى

إلى أجلٍ مُسمّى ثمّ يؤذن بالأفولْ

يتطاول الليل المسردق في محاجرنا، ولكنّ الظلامَ إلى رحيلْ

والظالمون سيرحلونَ، غدا،

كما جاءوا، بلا شرفٍ، ويبقى شامخا نخلُ العراقْ

آبار تكْريتٍ ستلعنهمْ، وجيكورُ ستلعنهمْ،

ويلعنهمْ قتيلٌ كان في العاقولِ منتفضاً

يُناجي الخيلَ ضامرةً، ويدعو اللَّيْلَ والبيداءَ،

تلعنهمْ عباءاتُ النساءِ المعولاتُ من الفراقْ

فلتطمئنّي، لم يطأ غازٍ ثرى وطني ليبقى،

فانهضي، وتدفّقي عبقاً وإيماناً،

سيعبر كلّ همّاز، ككلّ العابرينَ، وتزدهي بالحبّ أوردةُ العراقْ.

الراحلون

رحل الذين تحبّهمْ،

وبقيتَ مثل السّيفِ، محمولا على ظهْر الغيابْ

لتذوق أصناف العذابْ

هم يركبون إلى الشهادةِ عزمَهمْ، وأسنّةَ الإيمانِ، زادُهُمُ كتابْ

يا ليت شعري، كيف لي بسنا الأحبّة، والشعابْ

هتكتْ براءتَها الثعالبُ والذئابْ؟

وحديقةٌ بيداءُ عمْرِك، ما لها للضّوْءِ بابْ

محمد!

الطّاهر!

سَلاَّم! (*)

يا ليت شعري!

ما لقيتمْ بعدما زرتم غَيَاباتِ القبورْ؟

ماذا لقيتم في الورودِ؟

وهل لمنْ قد أثقلتْه العاديات من الخطايا من صُدورْ؟

(*) محمد بنعمارة ، والطاهر دحاني، وحموشي سلام.

الوصية

اكتب وصيّتك الأخيرةْ

واغنمْ هُنيهتك القصيرةْ

واغرسْ فسيلتك التي أجّلْتها زمناً،

وخلِّ عروقها تمتدّ نحو النّهْر، متّبعاً مصيرهْ

بيداءُ عمْركَ سرْحةٌ مهجورةٌ، أو شمعةٌ منسيّةٌ في الريحِ،

تمنحُ راكب الظّلماءِ دمعتها الأثيرةْ.

أدلجْ فإنّ المدلجين قد استراحُوا

من بعدما قد أنشبت أظفارها الحمراءَ في دمهمْ، وزمجرتِ الرياحُ.

ما العمرُ إلا ليلةٌ قطّعْتها بالآي، منفيّاً عن السُّرُرِ الوثيرةْ

وحديقةٌ بيداءُ عمركَ، ما وجدتَ لها صِفَةْ

هي ما روتْ أشجارَها امرأةٌ، ولا أطفتْ توقّدها شَفَةْ

والأرضُ موحشةٌ، فلا أطيارها تشدو،

ولا أشجارها زمن القطافِ بما تُحمّلُ مسْعفةْ

فاكتبْ وصيّتك التي أجّلْتها، واجعلْ تقى الله الذخيرةْ

اشتعال الموج

حَزَنٌ توقّدَ كاشتعالِ الموجِ، في أحْداقِ راهبةٍ تُصلّي...

في خرائب نينوى... وتلفّها سحُبُ الدّخانْ

ذو النّون راح مُغَاضِباً ممّا يرى،

لكنّ غيماً من جبينِ النّخْلةِ الفرعاءِ، هوْناً للقلوب تحدّرا

كالنّور يُطفئ حُزْنَ والهةٍ، يدُ التقوى تُسيّجها،

تسَيّرُ قاربَ المسْتَضْعَفينَ إلى مرافئها الحسانْ

والريح تكتب في جذوع السنديانْ:

" الشمسُ تُشْرقُ"، فلتفضْ بالبشر روحُ الأقحوانْ

عشتار  تنشر ألواحها

سيجيءُ هذا الموتُ، كي يطْوي أزاهيري، فيسبقه صداكْ

ويكون آخر مرفأ ألقي بأحزاني إليه ضفّتاكْ

مالي أخرّق كل حينٍ في سفينة عمريَ المنفيِّ خَرْقا

وأقول: أرْقَى؟

حتى إذا جاء الغلَسْ

أسرجتُ أفراسي، وذرّفَتِ الدّموعُ، ورنّ في سمعي نداءٌ:

درْبنا قدَرٌ، ولكنّ السفينة لا تسيرُ  كما يُقالُ  على اليبَسْ

ضدّان في ذاتي: أنا نورٌ وظلمةْ

جهلٌ وحكمةْ

من أستجير به؟ لمن ألقي زمامي؟ هذه الأمواج غُمةْ

فانشرْ رداءَ الصّبر يا ربّي على ذاتي الغريقةْ

كي أستقيمَ على الطريقةْ

فتَحَتْ كتابَ الخصبِ لي،

قرأتْ عليَّ مقاطعاً من حكمة الأجدادْ

فتدفقت بين الضلوع قصيدة خضراءُ، لم يحلم بها من قبل شاعرْ

وتألّقتْ، مِنْ مسِّ بهجتها، الدَّفاترْ

فكأن جلجاميش يرقى بي إلى الملكوتِ مبتهجاً،

وشوق الخِضْر سَرْبَلَهُ، ورتّل ألفُ طائرْ

أنشودةَ الميلادْ

وكأن أنكيدو يُفَتّحُ شرفة الآمال لي

ويوزِّعُ البشرى على بغدادْ

عشْتار تهتفُ: إن هذا اللَّوْحَ لكْ.

يا أيّهذا الأطلسيُّ،

شراعك المنشورُ يعْبُرُ ظلّ مملكتي،

                       ويدفع عن مقاصيري الحَلكْ

 لن أسألكْ:

لمَ جئتَ محمولاً إلى المنفى على جمْرِ اشتياقكَ ؟

                                     من تراهُ أشعلكْ؟

إنّي جعلتُ على ضفافِ دمي المحصّنَ منْزِلَكْ.

يا أيّهذا المغْربيُّ، اجعلْ شراعكَ سَرجَ حُلْمِكَ،

                                   إنّ من ينكصْ هلكْ

والطائر الميمونُ محتاجٌ جناحيهِ ليطوي هذه الدنيا، ويختصر الفلكْ.

عشتار عادتْ عبْرَ أحراشِ العذَابْ

جذلى، برغم النّفي، تفتح شرفة الآتي، تُبشّر بالإيابْ

البابليّةُ من وراء الحجبِ تدعوني لأدخل أرض بابلَ.

إنّ بابلَ شرفةٌ قدسيةٌ لا تخلف الميعادْ.

بئر الحرمان

من كردستانَ أنا،

من كردستانْ

وطني نجمةُ صبحٍ لا يُدركها النسيانْ

وحمايَ حديقةُ حبٍّ وارفة الأغصانْ

وهْي بتقواي محصّنةٌ لا يقربُها قُرْصانْ

وحصاني عربيٌّ، عربيٌّ، يتألق من إيقاع حوافره الميدانْ

وكواكبُ خيمتيَ القرآنْ

اسمي تارا

هل ذكّركَ اسمي عشتارا؟

هل تبصر عيناك  إذا اتّقدتْ إيمانا  قيثارا

تبكيه كاهنةُ المعبد إذ تتدثّر بالأحزانْ؟

يا قمراً يزرع في بابلَ فاكهةَ الزمن الريّانْ

أيُّ وشاحٍ حصّن فوديكِ؟ فكانْ

خير التيجانْ

فوشاحكِ نورٌ أنزله ربُّ العرشِ،

فلا إنْسٌ يدرك أسرارَ حواشيه البيضاء ولا جانّْ

وكأنكيدو إذ يتبعُ صاحبهُ تتبعُ طيفَكِ أحلامي الحجريةُ

فالخلْدُ ربيعٌ يطلع من سبّابتك اليمنى حين تسبّح للرحمنْ

وأنا فُلْكي لا يعْرفُه الطوفانُ

                  ولكنْ قد تبلعه الخلجانْ

يا تارا

يا سرّا يتجلّى نارا

في الطّورِ فيخطفُ من نجواه الأبصارا

من بعد رحيلكِ يغمرني الصمتُ الموحش والدّيدانْ

تتقَرّى كفني المنشورَ، وقافلتي تسقيها بئر الحرمانْ

لو أنّها نفس واحدة

لو أنها نفْسٌ دعوت ركائبي

                      لكنها نفسٌ تسَاقَطُ أنفسا

لم أعرفِ امرأةً تجفّفُ من حنيني،

أو تُلطّفُ من جنوني،

أو تعرّفني أنايَ، وما يُخطّ على جبيني،

                      أو تظلّلني بأعراش السكينة واليقين

لكنني إنْ أتلُ في غسق الدجى من سورة الرحمنِ

             أبصرْ ظلّ نخلتي الفريدة بانتظاري،

                     تستحمّ كنجمةٍ قطبيَّةِ في النُّورِ،

تومئ لي:(تعال إليّ، لكنْ طهّرِ الأثوابَ، واحذرْ أن تجيء مدنّسا).

يا ربُّ، هل نخلُ العراقِ يسابقُ العُشّاقَ،

                        مصحوباً ببهجته، إلى سرر الجنانْ؟

اجعلْ لنفسك ساعةً عبر النشيجُ بها إلى معراجكَ القدسيّ

                                             فالدنيا متاعْ

ثمّ ابْك قافلة الجياعْ

مَنْ ذلك الطِّفْلُ الذي ساقاه، في زمن الغِيَابْ

مشدودتان إلى التُّرابْ؟

والجسمُ تحت الريح شمعة راهبٍ

                         تبكي الذين تسربلوا حُلَلِ الغيابْ

روزا لوكسمبورج

روزا، صباح الحبّ، يا ألقاً ربيعيا،

صباح الحبّ للأطفال، للعمّالِ،

للمستضعفين المكتوين بنار عولمةٍ

قد اغتسلت بماء غوايةٍ محمومةٍ

كيَدٍ مضرّجةٍ، يطاردها خيالُ قتيلها،

روزا، صباح الحبّ.

فيم يدمّر الغربيّ حبّكِ، غير مهتمٍّ،

وأنت صباحه الأبهى؟

يدمّر حبَّك المجنونَ للأطفالِ، للعمّالِ،

ثم يجيءُ محمولا على دبّابةٍ همجيّةٍ

ترمي إلى الفقراء أرغفةً تطير من اللّهبْ

لتهدّ حلم الجامحين من السَّغبْ

الجانحين إلى الغَضبْ

فمن الذي أوصاه يا روزا ليسحق جثّة الأطيارِ،

والأشجارِ، والأنهارِ، من أوصاه يسكر من دم الضعفاءِ؟

                        من أين الطريق إلى عناقيد الغضبْ؟

نارُ القرى

يا ليتني شجرٌ بغابِ

في الفجر أخضد، إنْ نما شوكي،

وأعرى من ثيابي

أعرى بلا إثمٍ ولا حرجٍ، فثوبي من إهابي

يا ليتني حجرٌ يسنُّ عليه سيف العدلِ،

نجمٌ ضائعٌ، أو نملةٌ منسيّةٌ في الليلِ،

ذئبٌ جائعٌ يسري، نقوشٌ فوق لوحٍ بابليّ،

                 مزنةٌ سكنتْ تجاويفَ السحابِ

تبكي لتضحك طفلةٌ في الحقلِ،

يحملني جناح فراشةٍ كالبرقِ،

                   ثمّ أؤول في جذلٍ إلى حضن الترابِ

يا ليتني حملٌ أقرَّبُ للضّيوفِ،

فتزدهي نارُ القرى من أضلعي،

ويقال لي يومَ الخلائقُ في انتظارٍ: "كنْ تراباً"

                            لستُ أُعرضُ للحسابِ

ما أطيبَ العمر الجميل إذا انتهى

                         ما كدّرتهُ غداً مقاريضُ الحسابِ

الخروج

الأقحوانةُ لم تعدْ تفضي إليكَ بسرّها المخبوء في ليل الحنينْ

ما عاد يطرق بابَ بيتك، إن تراخى الليلُ، عطرُ الياسمينْ

والصحْبُ شتّتهمْ غرابُ البينِ فارتحلوا

                                 وفي الأحداق أشرعة اليقينْ

وبقيتُ في خلْفٍ تنادوا مصبحينْ

فاخرجْ بنفسك، هذه الأرض التي عُلِّقْتَهَا أضحت مباءة مارقينْ

اخرجْ بنفسك واتخذْ لك غايةً في هذه البيداءِ تهدي السالكينْ

إنْ أنت لم تفعلْ فإنَّك هالكٌ، أو قد تلينُ إذا دعيتَ وتستكينْ

اخرجْ فكلّ فراشةٍ أو وردةٍ تدعوك، في يدها كمينْ

لا تلتفتْ، واخرجْ فإن الأرض واسعةٌ

وفي المنفى شفاءٌ، واتخذْ لك صاحباً، والزَّاد أعراش اليقينْ

وسوم: العدد 741