فتن ومحن في العصر الأول 1

 

توطئة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى خاتمهم، وأفضلهم، سيد الكائنات المصطفى؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:

هذه النسخة لا تختلف عن النسخة السابقة إلا بأمر واحد، وهو أنني أضفت مقدمة لمواقف العلماء في القرن الهجري الأول من خلفاء بني أمية، وذلك لكي يكون البحث متكاملاً إن شاء الله – كما أتوقع –؛ ولذلك هي لا تختلف من حيث المضمون الأصلي للكتاب، إلا بهذه المقدمة التعريفية من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه السلاطين، ومن من هؤلاء العلماء يعتبر السكوت عن الحاكم الجائر إذا كانت الدولة في الاتجاه العام مستقيمة هو الأصل، ومنهم من يرى النصح برفق لهم دون إثارة، ومنهم من يرى الصدع بالحق، وعدم السكوت، ولذلك قدمت لهذا الموضوع بمقدمة ليست بالطويلة، ولا بالمختصرة المخلة – كما أرى- والله وليّ التوفيق.

حسن حسن فرحات

تمهيد

الحمد للَّه وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد.

فهذه كلمات أهمس بها في أذن كل مسلم في هذا العصر، فقد ظهرت بوادر كثيرة تشير إلى أن كثيراً من الشباب، تأثروا بشيء من أفكار العلمانيين باسم تجديد الدين، وتجديد قراءة التاريخ الإسلامي، كما تأثروا بأفكار الخوارج، يدفعهم إلى ذلك حبهم الشديد لهذا الدين، وتفانيهم في سبيله، ولكن – كما أرى – أخطؤوا الطريق، فهم – كما أرى أيضاً – أن القسم الأول على خطى الزنادقة الذين جاؤوا بقولهم إن دين الإسلام دين عام، ولا علاقة له بالعرب والعروبة، فخرج من ثيابهم الشعوبية، مع أن اعتقادهم، أو أكثرهم لا يُشك في نواياهم، ولكنهم كمن أراد أن يحسن فأساء، والقسم الثاني يشبهون بوجه من الوجوه، ذلك الرجل الخارجي الذي انطلق بكل ما يملك من حماس وقوة؛ ليقتل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يصرخ بقولته الشهيرة: «وعجلت إليك ربي لترضى»، مقلداً في كلامه نبي اللَّه موسى صلى الله عليه وسلم، وشتان ما بين الغاية التي يحملها في قلبه، وبين الوسيلة التي يسعى بها لتحقيق هذه الغاية، كما يفعل كثير من شباب الصحوة هذه الأيام، فينطلقون بالتكفير والتضليل كل من خلفهم، بحجة إقامة حكم اللَّه في الأرض، ويحتجون بأحداث كثيرة حدثت في القرن الهجري الأول من فجر الإسلام.

وينطلق هذا البحث عن حقيقة وقرت في عقلي، وفي نفسي، وفي قلبي أن الصحابة جيل تربّى في مدرسة النبوة، فكان الجيل المثالي الفريد الذي لن يتكرر؛ وذلك لأن من تربى، وتهذّب على يدي خير خلق اللَّه محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدانيه من تربى على الأقوال، أو تتَبُّع الأفعال النبوية، دون اليد النبوية المباشرة؛ فعسى أن أكون قدمت ما أراه حقاً، أو أقرب إلى الحق، بعيداً عن الانحياز إلى رأي مسبق، أو شخصية معينة، وانطلقت في هذا البحث من خلال هذه النظرة، فلم أقبل أن أحمل بذهني ما يردده كثير من المفكرين المسلمين، أو العلماء الذين اطّلعوا على تاريخ الصحابة، وبدؤوا يطلقون الأحكام بما توصلوا إليه من خلال الروايات التاريخية المبثوثة في بطون الكتب، وقد سبق أن قمتُ مع بعض أساتذتي من المحدّثين أن خرّجنا روايات الطبري حول الفتنة بين الصحابة في وقعتي الجمل وصفين، وتبين لنا أن معظمها رويت بأسانيد أقرب للوضع منها إلى الضعف، ولذلك بدأت أفكر في أن ما رواه الطبري حكمه بما حكم عليه في مقدمته حيث قال: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»([1])، فقناعتي أن الصحابة لهم ميزانٌ عدلٌ، لا مطعن فيه، وقد يخطئون ويصيبون، ولكن قناعتي أن تحديد من يصلح في الكلام حول الخطأ والصواب أهله الذين يعتمد عليهم في مثل هذه الأبواب.

فلو أن رجلاً من هؤلاء الذين يدّعون العلم في هذه الأيام جاء ليخبرنا أن في القرآن الكريم أخطاء في اللغة العربية – وقد سمعت هذا في عدد من القنوات الفضائية – فيقال له على الأقل: أنت لست ممن يرجع إليهم في مثل هذا القول، ورحم اللَّه الإمام الذهبي عندما صنف كتاباً فيمن يقبل قوله في الجرح والتعديل، ولذلك كان النظام الذي وضعته لنفسي أن الصحابة لا يقبل القول في أخطائهم إلا من الصحابة أنفسهم، فهم أقران، وفهمهم للغة متقارب، إن لم يكن متطابقاً، ونهْلِهِم من سيد الخلق قد يختلف، فيتفاوتون فيما بينهم، ولذلك لا يمكن أن يأتي ممن تربى على يد فلان وفلان؛ ليضع القول الفصل في صحابي نهل من المورد الزلال الأول، الذي لا يدانيه مورد، ومن اعتبر نفسه أنه مثل الصحابة، فكأنما ألغى وجود النبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم، ولا قيمة للتربية النبوية عنده، فهم يؤمنون بمحمد الرجل النبي إيمان عقل، ويقين، ولقاء، وإصغاء وسماع، ونحن نؤمن إيمان عقل، وروايات يحاولون التشكيك بها عن طريق هؤلاء الصحابة أنفسهم، فلو أن صحابياً صحت عنه الرواية في الكلام عن غيره من أقرانه، فممكن أن نأخذ بهذا القول، أما مَن بعدهم، فكما أرى، لا يُقبل قوله فيهم، وهذه الفكرة بدأت تشغل بالي، وتدور في ذهني منذ قرأت عند الكثيرين أن الخليفة الراشد الخامس هو عمر بن عبد العزيز ♫، فكيف يتخطى هؤلاء القائلون بهذا القول الحسنَ بن علي، ومعاويةَ، وعبدَ اللَّه بن الزبير y، وهم صحابة، ويصلون إلى عمر بن عبد العزيز، وبدأت أبحث عن هذا الموضوع، فرأيت أن الإمام ابن كثير ذكر في اختصار علوم الحديث:

«وقال بعضهم في معاوية، وعمر بن عبد العزيز: لَيوم شهده معاوية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته»([2]). 

وذكر ذلك أيضاً في تاريخه البداية والنهاية:

«وقد اختلف العلماء أيهم أَفْضَلُ هُوَ [أي عمر بن عبد العزيز] أَوْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ؟ فَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ لِسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ، وَزُهْدِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَفَضَّلَ آخَرُونَ مُعَاوِيَةَ لِسَابِقَتِهِ، وَصُحْبَتِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيَوْمٌ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَيَّامِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ»([3]).

وقال ابن العماد:

«سئل الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أيما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟

فقال: لغبارٌ لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وأماتنا على محبته»([4]).

وما أجود ما قال الأستاذ محمد طاهر البرزنجي، بتحقيق وتعليق محمد صبحي حلاق في الرد على الأستاذ محمد قطب:

«... أشاد [يقصد الأستاذ محمد قطب] بعامين ونصف من عهد عمر بن عبد العزيز، وأثنى عليه .. فإنه لم يول ذلك الاهتمام بعقدين من الزمان من عهد أمير المؤمنين معاوية نَعِمَ الناس فيهما بالأمن، والأمان، والجهاد قائم، والمسلمون في عز، وكرامة، وفي مقدمتهم أئمة أهل البيت.

وإذا صار عمر بن عبد العزيز خليفةً راشدًا - بالقياس لا بالنص !!- وهو تابعي؛ فإن أمير المؤمنين معاوية أولى بذلك اللقب، وهو صحابي جليل، وكاتب وحي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو خير من عمر بن عبد العزيز بنص حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم «خير القرون قرني»([5]).

وهل يُروى في التاريخ أن عهد معاوية في خلافته التي امتدت عقدين من الزمان لم ينعم الناس فيها بالأمن والأمان، والرخاء والاطمئنان، والفتح في كل اتجاه، فما الذي زاده عمر ♫ على معاوية رضي الله عنه، فمعاوية عفا عن كل من حاربوه، وعفا عن كل من شتموه في قصره، وأمام رعيته، واتهموه ومدحوا علياً _ لأنهم ظنوا أنه يكره علياً – فكان كلما ذُكر أمامه عليٌّ بمدح، مع مرافقة المدح بشتمه هو، يبكي ويقول: صدقتم كان علي أفضل مما قلتم، ويتركهم دون عقوبة، أو حتى دون تثريب، وأظن الحِلْم الذي بلغه معاوية رضي الله عنه لم يبلغه حِلمُ أحدٍ جاء بعده، لا من الخلفاء، ولا الأمراء، ولا العلماء، ولا الكرماء، ولا أهل المروءة والقضاء، ولا عمر بن عبد العزيز :، وكان عصره عصر رخاء اقتصادي، فقد حكم الشام أربعين سنة، عشرين منها والياً، ولم يعرف أنه أصاب الناس في عصره جهد وبلاء، وفقر وازدراء، فكل أيامه: إمارة، وخلافة أمن ورخاء.

فكفى بالناس استهزاء بالعقول، أن يجعلوا عمر بن عبد العزيز الذي وجد دولة أرساها بنظامها معاوية، حتى بلغت ذروة غناها وعدلها، ووصلت إلى عهده ♫، ولولا ما ترك حكام بني أمية من غنىً في الدولة، واقتصاداً شامخاً، فلا يمكن لسنتين من عمر بن عبد العزيز أن يفعل ما فعل من عدلٍ ورخاء في زمنه، فكيف بعامين تقوم دولة من لا شيء، وبعد عامين لعمر بن عبد العزيز تعود إلى لا شيء، فهل هذا هو منطق التاريخ، ومنطق الاقتصاد والحضارة، أن يأتي عامان نزلا في مظلة من السماء، وبذهاب صاحب العامين ترتفع المظلة، وتعود الدولة إلى ما كانت عليه من ظلم، وإفلاس، وانهيار؟؟

وأعود إلى قضية الصحابة، وما يقال في هذه الأيام من تنقصٍ لكثير منهم، بحجة عدم العصمة، وأنهم بشر من البشر.

ويروي ابن كثير: «ولقد سئل المعافى بن عمران، أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟

فقال: أتجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟! معاوية صاحبه، وصهره، وكاتبه، وأمينه على وحي اللَّه»([6]).

ولو زعم أحدٌ من الناس أن الحكم الشرعي الفلاني خطأ، فيُسأل ما مكانتك في هذا الموضوع، وقناعتي أن الصحابة يثبت خطأ الواحد فيهم إذا صحّ ذِكر هذا الخطأ من صحابي مثله؛ لأنه عاش معه عهد النبوة، وما بعدها، ويفهم النصوص كما يفهمها أمثاله، مع تفاوتهم في الفهم، وإلا فليس من المعقول أن أجعل رجلاً لم ينل شيئاً من علوم العربية، ودرس التاريخ من خلال روايات لم يتحقق من صحتها، أن يقدم لي إعراباً، أو شرحاً لنص هو لم يفهمه، ويتكلم بتاريخ هو لم يعلمه إلا من خلال مرويات تحتاج إلى فهم، وتحقيق، وتدقيق.

والفرق بين الصحابة وغيرهم، أن الصحابة كلهم يفهمون لغة واحدة دون العودة للمعاجم، أو الشروح، فهم المعاجم والشروح، وهم من الذين اعتمد عليهم مؤلفو المعاجم والشروح، ولذلك لم أعتمد على رأي في صحابي من متعلم متأخر، لم يدر الفرق بين اللفظة واللفظة، ويحاول فهم النصوص على حسب فهمه كلام العامة العامّيّ، أو بعض ما التقطه من المدارس الرسمية في البلاد العربية، التي لم تستطع أن تخرّج إلا أشباه الأميين، أو ما رسخ في ذهنه من بعض علماء السوء، أو ممن تأثروا بنظرات ونظريات الروافض، وأعداء هذه الأمة، ولست ممن حمل فكرة سابقة عن صحابي، وجاء ليجد لها تطبيقاً بين الروايات، فليس عندي فرق بين صحابي وآخر من ناحية الفضل العام، ولم أحمل أي فكرة مسبقة يذكرها المتعالمون في التاريخ حول فلان فعل كذا، وفلان قال كذا، على فلان أثم كذا، فأنا أعتبر نفسي بعيداً عن كل ما تعلّمته أيام الدرس من مدرّسين قرؤوا بعض الروايات، فحملوا على بعض الصحابة، وفضلوا بعض الصحابة بناء على روايات تاريخية لا يعلمون صحتها من ضعفها، فليس عندي صحابي آخذ عليه، بل كلهم آخذ منه.

وكما نرى الآن في حياتنا التي انتشرت فيها وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، وسرعة وصول الخبر من أدنى الأرض إلى أقصاها، ومع ذلك نرى اختلافاً كبيراً بين مَن يُسمَّون بالعلماء حول عالم، أو سلطان، أو قوم، فأناس يكّفرون، وأناس يُهدون الإيمان لمن يحبون، ويبرّرون الأعمال والأقوال، أو يؤوِلونها حسب فهمهم، فما بالنا في عصر تباعدت فيه المسافات، والمساحات، فنرى في حديث كريب أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ب ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لاَ، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([7])، إذن كيف نستطيع الاعتماد على روايات يذكرها أناس متباعدون، ولا يصل إليهم خبر غيرهم إلا بعد عدة أيام، هذا في العبادات التي لا تحتاج إلى رأي، أو فهمٍ شخصيَّين، كما في أحداث التاريخ، والوقائع، والتي تتضمن آراء وعقائد الرواة، وكما نعلم أن المحدثين يخافون من الرواة الذين لهم عقائد مخالفة، فلا يقبلون منهم رواياتهم التي لها علاقة بعقائدهم.

كما يرى القارئ الكريم نماذج من إحنٍ بالحركات التي قامت خلال ذلك القرن، وارتباط بعضها بشخصيات، واتجاهات باطنية لم يدرك رؤساؤها غالباً خطرها الكامن، وسيرى من خلال العرض التفصيلي لهذه الحركات نتائجها الوخيمة، وآلامها الجسيمة، وماذا قدمت للأمة من خسائر، كل ذلك بسبب اجتهادات أولئك النفر الطامحين لإعادة الشورى التي يرون أنها قد اختفت من الحياة السياسية، ولإصلاح الحكم الإسلامي – بزعمهم – وذلك بسبب خفاء تلك العصابات التي رأت أن حرب الإسلام يجب أن يكون من داخله، لأن هذا الدين ألقى بجرانه على الأرض، وأصبح قوة لا تقهر، ولذلك بدأ هؤلاء ينخرون في جسده كالسوس في البدن، ومع أن الحكام لم يخرجوا عن منهج الإسلام العام، ولا عن الجهاد في سبيل اللَّه، وإن بعض ما وقع فيه بعضهم من معاصٍ – إن وجدت – لم يكن إلا أموراً خاصة بالعاصي نفسه، ولا أثر لها على الأمة، لا من قريب ولا من بعيد، فالحكم الذي كان قائماً هو حكم الإسلام، ولم يُطرح في يوم ما أي فكر غير الإسلام، بل كان كل همهم هو نشر الإسلام إلى كل الدنيا.

قال ابن خلدون ؒ: «... وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، لما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم به كان صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يُظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا اللَّه لمعاوية من ذلك، وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه، وإن كانوا ملوكاً،÷ لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم، إلا في ضرورة تحملهم على بعضها، مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد، يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم، فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك، وأما مروان، فكان من الطبقة الأولى من التابعين، وعدالتهم معروفة، ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك، وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه، وتوسطهم عمر بن عبد العزيز، فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة، والصحابة جهده، ولم يهمل»([8]).

 ومع ذلك أصبح الذي يسيطر في هذه الأيام على عقول كثير من الشباب فكرة انحراف الحكم الأموي التي بدأها أولئك أصحاب الإحن القاتلة في جسد هذه الأمة، فقامت ضده بعض الحركات للتصحيح [؟] وإعادة الحكم الصحيح، كما يرون، فذهبوا يسعون للنيل منه بكل طريق، وبات عندهم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يكون إلا بحرب الخليفة الأموي، أو كل سلطان، ويستشهدون بالذين قاموا على بني أمية، فهم إذن يرون أن الحكم الأموي غير إسلامي، ولذلك قامت ضده هذه الحركات التي تريد أن تعيد الإسلام للحكم، وبالتالي يطالبون الأمة بإقصائه، وإبعاده، ظناً منهم أن هذا هوا الصواب، وإن كانت هذه الفكرة فيها كثير من الخلل، فلم يتضح لنا بروايات صحيحة مدى اتساع الظلم في عهد بني أمية، بل قد يجدون شاهداً هنا، وشاهداً هناك، وكلها تحتاج إلى تحقيق وتدقيق.

ومع أن فترة بني أمية لم تفقد العلماء الذين لم يخافوا الخلفاء، ولا الأمراء من بني أمية، كالحسن البصري، وعامر الشعبي، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وغيرهم كثير، ومع ذلك يرى هذا النفر من المعاصرين لنا أن فترة بني أمية أماتت عند كثير من العلماء أفكار الإصلاح والتوجيه، وإبقاء الأمور على ما هي عليه، وهذا – بزعمهم - يناسب الطغاة كثيراً، ويناسب الملاحدة، حتى وصل كثير من مجتمعاتنا إلى الضياع، والخروج عن الصفة الإسلامية للمجتمع بمعناها العام، فلا تجد أي صفة من صفات المسلمين على أوضاع هذه المجتمعات.

وأظن أن هذه النظرية التي اتبعها هؤلاء إنما هي من صنع أعداء الإسلام، وهم الذين أرهقوا الحكم الأموي من أوله إلى آخره، وهم يحاربونه، ومع ذلك لم يستطيعوا إشغاله عن مهمته في نشر العدل، ونشر الإسلام في كل اتجاه، ويجب أن نعلم أنه ما من خليفة أموي، إلا وقام الكثيرون - بوعي أو من غير وعي - يريدون تقويضه، حتى لا تقوم للإسلام قائمة، وقد تبين صدق هذه النظرة عندما انهارت دولة بني أمية، فتوقفت الفتوح، وجاء بنو العباس الذين قاموا بمساعدة أعداء الإسلام (الشعوبيين) بالقضاء على بني أمية، ومع أنهم اكتشفوا، هؤلاء الأعداء، فيما بعد عدة مرات، وحاولوا القضاء عليهم خلال تاريخهم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يعيدوا المجد الأموي، والفتوحات الأموية.

وهؤلاء العلماء المعاصرون[!] حاربوا بني أمية من خلال تزوير تاريخهم – بوعي أو بدون وعي – وبدلاً من أن ينصرفوا لحرب من جاء إلى تسيير الأمور في العالم الإسلامي الحديث، والذين لم يُعرف فيهم من الإسلام إلا الأسماء، فكانوا حرباً على هذا الدين، واعتمدوا على ظلم الناس، وإرهابهم، بدلاً من أن يوقظوا شعوبهم لإدراك مأساة ما هم فيه، راحوا لينالوا من بني أمية، وأن الإسلام انحرف منذ عهدهم، وأنهم هم عماد الظلم التاريخي لهذه الأمة، وأن الظلم الذي يعيشه الناس الآن هو من آثار بني أمية، لا من غبائهم هم، وحمقهم هم، وحقد سلاطينهم على الإسلام، مما أدى فيما بعد إلى انفجار غير طبيعي لهذه المجتمعات، فقامت تضرب يميناً وشمالاً، بلا عقل واعٍ، ولا فكر مستنير، بل سيطرت عليها الأفكار الخارجية بلا فهم لها، ولا حتى المآلات التي تُوصل المجتمعات إليها، فإذا بنا أمام نابتة من فتيان المسلمين، يريدون إقامة الأحكام – كما يدّعون – مع أنهم ما زالوا على انحرافهم الأخلاقي والعقلي، فينتقلون بين المواصفات الإيمانية إلى المواصفات الانحلالية الأخلاقية، فلم يدركوا ديناً، ولا حصّلوا دنيا، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

وقد كان اختيار الروايات من خلال كتب التاريخ، والروايات الحديثية، وكتب الرجال، وقد يكون في بعض الروايات ضعف، إلا أنني آثرت اختيارها، ولكن دون الاعتماد عليها في إثبات حكم، أو بحث مسألة فقهية، فهذا ليس موضعه هنا، ولكن هذه الروايات أصبحت تعبيراً عن شخصيات هذه صفاتها، فمثلاً: عبد اللَّه بن عمر، الصحابي الجليل رضي الله عنه، سواء صحت الروايات التي تذكر ميله إلى ترك منابذة حكام المسلمين الذين عاصرهم، ومحاربتهم، أو لم تصح، فهو لم يصحّ عنه أي رواية في المعنى المخالف، بل على العكس من ذلك، صحت الروايات عنه بسلامته من الاشتراك، أو الانغماس، أو الدعوة إلى أي حرب، أو فتنة وقعت في عصره، ولم يصحّ عنه كلمة واحدة في شتم أمير، أو مسبة والٍ، بل على العكس من ذلك صحّ عنه أن لسانه لم يعرف اللعن في تاريخه كله، وهكذا، ولكننا مع تكرار الفكرة الصحيحة في عهد ابن عمر – كما كان يرى هو- أن الحكام لم يكونوا أعداء للإسلام، أو ضد الإسلام، بل كانوا مسلمين، ويحكمون بالإسلام...

وفي هذا البحث قد أشيرُ إلى الكتب التي أوردت هذه الروايات بأسماء مؤلفيها، وأسمائها، وأجزائها، وصفحاتها، وأراعي في روايات الفتن، والخارجين على الحكام التفصيل، والتعليق، بينما الروايات الباقية أكتفي فيها بالسرد، والتعليق الموجز في آخر كل طائفة منها، وروعي في ترتيب الروايات أسماء أصحابها، وترتيبهم ألفبائياً، لتداخل كثير منهم في أكثر من فترة واحدة.

وأخيراً، فما كان من صواب، فهو من تيسير اللَّه، وتوفيقه، وأحمد اللَّه عليه، وما كان من خطأ، فإنما هو من زلات الفكر، وعثرات اللسان، ومحاولات الشيطان في الإضلال والخذلان، أسأل اللَّه أن يغفرها لي، ويتجاوز عنها، إنه عفو غفور، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلّم على سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وجميع أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والحمد للَّه أولاً وآخراً.

حسن حسن حسن فرحات

1441هـ.

في العهد النبوي

لا يتخيل أي باحث أن يثبت مثل هذه الأفكار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يعلمه كل ناظر في السيرة النبوية أن الحرب على الإسلام قائمة منذ اليوم الأول للدعوة الإسلامية، وبينما كانت الحرب سافرة، وظاهرة، وتستعمل القوة والتعذيب، والقتل، ثم بدأت تتطور حسب نموّ ونجاح الدعوة الإسلامية، وسيطرتها على أرض لها تقيم عليها دولة، ولها جيش يدافع وينافح عن هذه الأمة الوليدة، تتطور الحرب على الإسلام بتجهيز الجيوش، فخاض أعداء الإسلام حروباً عديدة، وكلها هي انطلاق جيوش الكفر إلى عاصمة هذه الدولة للتخلص منها وإبادتها.

وعندما فشلت هذه الطريقة، بدأ أعداء هذا الدين يخططون لحرب هذه الدولة، والتخلص منها، ويصنعون الخطط السرية، ومحاولة ضرب هذه الدولة بالجيوش الظاهرة، وبالجيوش السرية، بين إرسال بعض الشخصيات لمحاولة التخلص من قائد هذه الأمة، وسيدها ونبيها صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم، وسيد الأولين والآخرين، وقدوة للخلق، ورسول رب العالمين.

وكان من أهم أصحاب هذه المحاولات اليهود، ومخططاتهم، ومحاولة الاتفاق مع كفار العرب، وكلها باءت بالفشل.

والذين سنتحدث عن كثير منهم في عصر الصحابة، ولا يمكن أن يشمل الصحابة هذا المفهوم، فليس كل مقصر، أو تارك لأمر هو عدو للإسلام، فقد يكون مثل هذا الحكم فيه كثير من القسوة، أو الشطط، وكان الأولى أن يوضع الحق في نصابه، ويدخل السيف في إهابه، ويطلق على الإنسان ما يستحقه في خطئه وصوابه، فإن المخالفات الشرعية تتفاوت، والذنوب فيها الصغائر والكبائر، والناس فيهم العاصي والفاجر، ومع هذا لا يوسمون بالكفر والمروق.

فإذا ورد في هذا البحث شيء من الإشارة إلى ما يعتبره بعضهم تقصيراً، أو هنات وقعت من بعض الصحابة، كما يتخيلون، فإنما وردت لتبيان مدى الشطط الذي وقع فيه كثير من هؤلاء الذين أطلقوا ألفاظ المروق، والبعد عن سير الخط الإسلامي الصحيح، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فقد كان الأولى بهم أن يهتموا بإصلاح هؤلاء الناس، وتقريبهم من الحق، وإرشادهم إلى سبل السلام، دون أن يثيروهم بمثل هذه الأحكام، فيبعدوهم عن الحق وأصحابه، ولن يجدوا بين هذا الصنف من الناس من قال لحاكمه كما قال ذلك الرجل: لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، ومع ما قال هذا الرجل من إجحاف وشطط، فإن جواب عمر رضي الله عنه كان: الحمد للَّه الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.

وصحيح أننا لن نجد صدراً رحباً في العصر الحديث كصدر عمر رضي الله عنه، فتلك أمة لن يتكرر جيلها، ولكننا نستطيع أن نهدئ الكثيرين ممن يسلون السيوف أسوة بهذا الرجل الذي قال ما قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والصحابة y أجمعون، التزموا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكامه.

وأما المنافقون، والخوارج، فهم الذين حكموا على أنفسهم بالمروق، أو الخروج.

الفترة المكية:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ، أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾»([9]).

وفي كتب السيرة تبيان لما بعد هذه الحادثة، فيرون «أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له: هؤلاء عمومتك، وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد، واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك، وحبسك أسرتك، وبنو أبيك، إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تثب عليك بطون قريش، وتمدها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحداً قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل اللَّه تعالى تَبَّتْ [المسد: الآية 1] ...»([10]).

ومن هنا بدأت تكبر الأمور في رأس أبي لهب، حتى أصبحت حقداً يملأ قلبه، ولما «كانت رقية [ابنة رسول اللَّه r] تحت [ابنه] عتبة، ... وأختها أم كلثوم تحت ابنه عتيبة...

قال ابن سعد: وكان تزوجها قبل النبوة، .. فلما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ بعدما أنذر صلى الله عليه وسلم، قال لهما أبوهما -أبو لهب-: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما، ولم يكونا دخلا بهما»([11]).

لهذا الحد وصل حقد أبي لهب، بعد أن أحب ابن أخيه محمداً، ففرح عند ولادته، وأطلق حرية مولاته ثويبة، وخطب لابنيه بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حبه له، ولكن لما زُرع الحقد والضغن في قلبه على ابن أخيه، وعلى كل ما يمت به، حمل لواء الحرب عليه جهاراً نهاراً، حتى كان هو الكافر الوحيد الذي ورد ذكره بكنيته (أبي لهب) في القرآن، ولم يذكر غيره لا بكنية، ولا اسم، وأدى حقده وحربه على فرض تطليق أولاده من ابنتي أخيه، لقطع أي صلة بينه وبين ابن أخيه صلى الله عليه وسلم.

وأمر آخر، هو أن هذا الدين لم يرتبط بقبيلة، أو عشيرة، أو عائلة، فأبو لهب هاشمي، وهو أخو عبد اللَّه والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه حمل الضغن والحقد على ابن أخيه، وله زوج أموية هي أخت أبي سفيان زعيم بني أمية، فهما عائلتان في قريش تتقاربان في النسب فيما بينهما أكثر من جميع بطون قريش، فهاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه عبد شمس جد أبي سفيان، ولذلك كثر التزاوج بينهما، فزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أموي قبل الإسلام، وأبو لهب زوجه أموية، وجدة عثمان بن عفان الأموي البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان تزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية، وأم كلثوم، وتزوج النبي الهاشمي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان الأموي، إذاً هذا التلاحم العجيب في النسب والقرابة بين الأمويين والهاشميين، لم يجعل أبا لهب المتزوج من أموية القبول بالإسلام، بل كان أبو لهب من أفظع من حارب الدعوة في عصر النبوة الأول، والأعجب من هذا أن العباسيين، وهم بنو العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين انقلبوا على بني أمية، وتخلصوا من حكمهم، ومنهم، وكان هذا بأثر من دعوة الشعوبيين الذين تزيوا بزي آل محمد، دون نظر إلى رحم وقرابة، ولذلك نرى أبا لهب هنا كان أشد عداوة من بني مخزوم منافسي الهاشميين، وستظل الأمة الإسلامية تعاني بين وقت وآخر من قريب لرجال الدولة القائمة فيناجزها، ويحاربها، فليست عداوة أبي لهب هي النهاية، بل هي البداية لأناس سيأتون بعد ذلك، ويحملون أمثال هذه الإحن التي تغلغلت في نفس أبي لهب، وأبي جهل، ويكونون نخراً في جسدها أكثر من أعدائها الحقيقيين.

وروى البيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما: «قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَى كِتَابِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنِي قصِيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا الْقِرَى، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ»([12]).

وأورد ابن كثير «روى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا، وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ، لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انصرفوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا.

فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيق، فَقَالُوا: لَا نَبْرَح حَتَّى نتعاهد أَلا نَعُودَ.

فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا.

فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَاد بهَا، [وَأَشْيَاء لَا أعرفهَا وَلَا أعرف مَا يُرَادُ بِهَا] فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ ! تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ! وَاللَّهِ لَا نَسْمَعُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ»([13]).

وهنا نلحظ الإحن التي وقرت في قلب أبي جهل، وكثير من أفراد عشيرته مخزوم، كيف لم يقبل أن يسبقهم واحد من بني هاشم، فلا يستطيعون إدراكه، لأن ما جاء به ليس بإمكان بشر الوصول إليه؟

إذن تبدأ الإحن والعداوة منذ اليوم الأول لدعوة الإسلام، فكبراء أهل مكة، لم يقبلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس منهم، وأنهم وجدوا في أنفسهم أن يأتيهم فقير بني عبد المطلب بمثل هذا الأمر، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل ابن عبد المطلب، فأخذتهم العزة بالإثم، وقويت إحنهم ضد بني المطلب، وضد فتاهم الذي جاء بأمر لا يستطيعونه، فقد كانوا يسابقونهم في الكرم، والوفادة، والإطعام، وغير ذلك من الفضائل، أما النبوة، فلا إمكان للمسابقة فيها، وهذا ما وقع فيه بنو حنيفة، وغيرهم من قبائل العرب التي بدأت تنافس القرشيين بالمتنبئين، فوقر في قلوبهم الحسد، والبغض، واستشرى في نفوسهم، هذا قبل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين شوكة، أو دولة، فكيف إذا بنوا لأنفسهم دولة، وأصبحوا أمة لها قوتها، وسطوتها؟.

قال الزرقاني في شرح السيرة النبوية: «مر عدوّ اللَّه أبو جهل بـ(سُمَيّة بنت خياط) إحدى السابقات، كانت سابع سبعة في الإسلام، أم عمار بن ياسر، وهي تعذب، هي وابناها عمار، وعبد اللَّه، وأبوهما ياسر بن عامر؛ كما رواه البلاذري عن أم هانئ، قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وأُعطيت سمية لأبي جهل، فطعنها في فرجها، بحربة، وهي عجوز كبيرة، فقتلها، ورمى عبد اللَّه فسقط، وقد روى ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد أن سمية أول شهداء الإسلام.

وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود: أن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار، حتى بلغت فرجها، فماتت، فقال عمار: يا رسول اللَّه! بلغ منا، أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار)، وأما عمار، ففرّج اللَّه عنه بعد طول تعذيبه؛ فقد جاء أنه كان يُعذَّب حتى لا يدري ما يقول، ورئي في ظهره أثر كالمخيط، فسئل، فقال: هذا ما كانت تذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار، فمر صلى الله عليه وسلم فأمر يده عليه، وقال: (يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم)»([14]).

فهذه الأنواع من التعذيب ليست تعذيباً سياسياً، أو عقدياً فقط، بل هي أقرب إلى الحقد، والتشفي، وتعلّم كل أعداء هذه الأمة من أبي جهل، وأضرابه أن تكون الحرب على هذه الدعوة حرباً تعتمد على الإخلال بالشرف، والمروءة، والأعراض، لأنها في المقام الأول حقد على الدعوة، وحقد على أصحابها، وهذه الأنواع من الأحقاد – برأيهم – أشد الأنواع قهراً، وأشد الأنواع قتلاً للنفوس، والعزة الإنسانية، فاستعملها الأعداء في كل وقت، ومع كل طائفة مؤمنة على مدار التاريخ، وما تزال، وهي القانون العام، والأهم في التعذيب، ليبلغوا إلى مآربهم عن طريق الأعراض بالاغتصاب، والفجور في أعراض الأمة.

بل بلغ الحقد، والإحن عند أبي جهل، أن يقرر قتل النبي مباشرة، ولكن بطريقة عجيبة، تخفي هذا الحقد الغائر في قلبه، «فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوً) قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ U - لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ -: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [العلق: 7]- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾ [العلق: 14]، زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَأَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: 17]»، يَعْنِي قَوْمَه([15]).

فهل هذا عمل المحارب، أم عمل الحاقد، يريد أن يقضي على صاحب الدعوة، وكل تاريخ الإسلام مبني على هذه النظرة، الحقد يتبعه الإبادة والقتل لأهل هذه الدعوة، بل وفي الأكثر كانت تبدأ برأس الأمة، ففي عهد النبي تعرض صلى الله عليه وسلم لمحاولات اغتيال بلغت عدداً كبيراً، وكلها لم تنجح؛ لأن النظرة كانت أن قتل صاحب الدعوة يعني قتل الدعوة، وهذا ما تنبه له الصحابي الجليل أنس بن النضر([16])، وهذا ما سنراه في استشهاد الخلفاء الثلاثة: عمر، وعثمان، وعلي y.

وهنا نجد أن أبا جهل وأضرابه من رؤوس الكفر كيف كانوا يحاولون إظهار حقدهم، ليس على الضعفاء فقط، كما فعلوا بآل ياسر، بل أظهروه على قائد الدعوة نفسه، ولذلك كانوا يحاولون بأي طريق إذلاله أمام أتباعه، وأمام كل الدنيا، ليسلبوه الاحترام، والهيبة بين الناس، فـ«عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ - قَلِيبِ بَدْرٍ - قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ [السبيعي تابعي مخضرم، وهو من رواة هذا الحديث]: «الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ»([17])، ولذلك أعاد الإمام مسلم رواية أخرى لأبي إسحق، فيها تصحيح لاسم الوليد الذي هو ابن عتبة، وليس ابن عقبة، فقال: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ - أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ) شُعْبَةُ الشَّاكُّ -، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَيًّا - تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ»([18]).

وهنا نرى أثر هذه الحادثة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائد المسلمين، كيف جعلته يدعو عليهم هذا الدعاء، بما يوازي حقدهم، وغِلّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين.

ونلاحظ أنه منذ بدايات الدعوة، كان المشركون يجتمعون لبحث أمر هذه الدعوة، وأمر صاحبها، وهي ما سيقوم به أعداء الدعوة الذين يملأ الحقد قلوبهم، وكراهية الدين نفوسهم، مع أنهم كلهم يؤمنون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن أخلاقه، وسيرته، ولكن اجتماعاتهم كانت تدل على هذه الإحن التي تملأ نفوسهم، «فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اجْتَمَعَ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ، وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.

فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.

فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ.

فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فَإِن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً  قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللَّهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى... فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا كَلَّمْتُهُ.

قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

ثُمَّ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً، مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.

قَالُوا: وَيْلَكَ! يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَا تَدْرِي مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ ...

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيك عَن طَعَام مُحَمَّد، فَغَضِبَ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا»([19]).

وهكذا نرى أن الأمر ليس فرداً واحداً تبنى الحرب على الإسلام، والحقد عليه، وعلى أصحابه، بل كل الزعماء الموجودين في مكة كانوا متآمرين، مع ملاحظة أن أبا سفيان لم يُذكر حضوره في كل هذه المؤتمرات.

وروى ابن إسحاق، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهما بإسناد قوي عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا، وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ، انْطَلِقْ فَائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ، أَوْ كِبْسٍ، يَقُولُ بَيْتٌ صَغِيرٌ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ، وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً)، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا»([20]).

فهنا نرى مدى اجتماع كبراء قريش في استهداف الدعوة، وقائدها، وكيف حاولوا الاستفادة من عمه أبي طالب الذي كان يحوطه، وينصره، ويخاف عليه منهم.

وهناك حدث عجيب، ليس له تفسير إلا الحقد، والإحن، كيف أن هؤلاء الكفار بلغ الحقد في قلوبهم إلى أنهم لم يفرقوا بين المؤمن والكافر، فقرروا الحرب على كل مؤمن، أو كل من لا يكره المؤمنين، ولذلك كان اجتماع عجيب لهؤلاء الكفرة الحاقدين في مقاطعة كل مؤمن، ومن لم يكره المؤمنين، فقاطعوا بني هاشم: مؤمنهم، وكافرهم، واستثنوا أبا لهب، وقاطعوا كل بني المطلب؛ لأنهم وقفوا بجانب بني عمهم، وهذه المقاطعة كانت من البغضاء والحقد ما لا تدركه العقول، والنفوس السليمة، فروى ابن سعد قائلاً: «لَمَّا بَلَغَ قُرَيْشًا فِعْلُ النَّجَاشِيِّ لِجَعْفَرٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَإِكْرَامِهِ إِيَّاهُمْ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَغَضِبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَتَبُوا كِتَابًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَلا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلا يُبَايِعُوهُمْ، وَلا يُخَالِطُوهُمْ، وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ الْعَبْدَرِيُّ، فَشُلَّتْ يَدُهُ، وَعَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ الْجُلاسِ بِنْتِ مُخَرِّبَةَ الْحَنْظَلِيَّةِ؛ خَالَةِ أَبِي جَهْلٍ، وَحَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ لَيْلَةَ هِلالِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، مِنْ حين تنبى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْحَازَ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْن عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فِي شِعْبِهِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَخَرَجَ أَبُو لَهَبٍ إِلَى قُرَيْشٍ، فَظَاهَرَهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.

وَقَطَعُوا عَنْهُمُ الْمِيرَةَ، وَالْمَادَّةَ، فَكَانُوا لا يَخْرُجُونَ إِلا مِنْ مَوْسِمٍ إِلَى مَوْسِمٍ، حَتَّى بَلَغَهُمُ الْجَهْدُ، وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، فَمِنْ قُرَيْشٍ مَنْ سَرَّهُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَاءَهُ، وَقَالَ: انْظُرُوا مَا أَصَابَ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ، فَأَقَامُوا فِي الشِّعْبِ ثَلاثَ سِنِينَ، ثُمَّ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما كَانَ فِيهَا مِنْ جَوْرٍ، وَظُلْمٍ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ U... كَتَبَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا، وَخَتَمُوا عَلَيْهِ ثَلاثَةَ خَوَاتِيمَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ U عَلَى الصَّحِيفَةِ دَابَّةً، فَأَكَلَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِلا اسْمَ اللَّهِ U... أُكِلَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ، إِلا (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، وفي رواية: أُكِلَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ مِنْ قَطِيعَةٍ، غَيْرَ (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، ... فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَالِبٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ لإِخْوَتِهِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ: إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي، وَلَمُ يَكْذِبْنِي قَطُّ، أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى صَحِيفَتِكُمُ الأَرَضَةَ، فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَوْرٍ، أَوْ ظُلْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَبَقِيَ فِيهَا كُلُّ مَا ذُكِرَ بِهِ اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ أَخِي صَادِقًا نزعتم عن سُوءِ رَأْيِكُمْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمْ فَقَتَلْتُمُوهُ، أَوِ اسْتَحْيَيْتُمُوهُ، قَالُوا: قَدْ أَنْصَفْتَنَا.

فَأَرْسَلُوا إِلَى الصَّحِيفَةِ، فَفَتَحُوهَا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَ في أيديهم، ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نُحْبَسُ، وَنُحْصَرُ وَقَدْ بَانَ الأَمْرُ؟ ثُمَّ دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ انْصُرْنَا مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَقَطَعَ أَرْحَامَنَا، وَاسْتَحَلَّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَّا.

ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى الشِّعْب، وَتَلاوَمَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَا صَنَعُوا بِبَنِي هَاشِمٍ، فِيهِمْ: مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو البختري بْنُ هشامٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَلَبِسُوا السِّلاحَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَأَمَرُوهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَعَرَفُوا أَنْ لَنْ يُسْلِمُوهُمْ، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ الشِّعْبِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ»([21]).

وهكذا نرى هذه الحالة العجيبة التي لا تقيم وزناً لعقل، أو قرابة، أو دين، إنما هو الموت البطيء، فالرواية تقول: إنهم قرروا قتله، فحاصروه، إذن هو القتل جوعاً، وما تزال هذه الحالة ملازمة لأعداء هذا الدين أن ينصبّ حقدهم حتى على منع الطعام، والمأوى، فيطردونهم إلى الشعاب، أو إلى أي مكان لا يمكن العيش فيه، فالمسلمون كما في بعض الروايات أكلوا العشب، والعظام، والجلود، وما وجدوه يمكن أن يؤكل، وأهل الكفر ينتظرون لهم الموت البطيء الذي هو أقسى من الموت نفسه، وهذه الحالات تكررت مع أعداء هذه الأمة مرات في التاريخ، ولا تزال تكرر حتى في التاريخ المعاصر الذي يعتبرونه عصر الحضارة، والإنسانية، والتقدم، ولكن يُستثنى دائماً أصحاب هذا الدين، وأفراد هذه الأمة، من حق الحياة الحرة الكريمة.

وقد حاول هؤلاء المشركون أن يستفيدوا من كل أمر في حقدهم، وحربهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، روى ابن شبة «عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51] قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْجِبْتَ الشَّيْطَانُ، وَالطَّاغُوتَ الْكَاهِنُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: 51] قَالَ: ذَاكَ عَدُوّا اللَّهِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَانَا مِنْ أَشْرَافِ يَهُودَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، لَقِيَا قُرَيْشًا بِالْمَوْسِمِ، فَقَالَ لَهُمَا الْمُشْرِكُونَ: أَنَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَإِنَّا أَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، وَجِيرَانُ الْحَرَمِ؟ قَالَا: بَلْ أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ، إِنَّمَا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ حَسَدُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: 52]»([22]).

ومنذ هذه الحادثة نجد أن اليهود بدؤوا يجهزون العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأتباعه، ونرى هنا اتفاقهم مع كفار قريش، حيث أدى حقدهم هذا أن يعتبروا كذباً وزوراً أن دين الوثنية، وهو دين قريش، أفضل من دين التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التلاحم في الحقد والحرب على الإسلام سيبقى إلى الأبد بين اليهودية وملل الكفر، وسنراها متلازمة عبر تاريخ هذه الأمة.

ولكن اجتماعاتهم هذه، وحربهم على الدعوة وصاحبها وصلت في نهاية الفترة المكية إلى أكثر من هذا الأمر: حيث بدأت بالمخاطبة، والمحاورة، والتعذيب له ولأتباعه، ثم وصلت لتقرير قتله، والتخلص منه، وتمت بأمرين (الحبس، أو القتل)، عندما قرر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة، بعد أن هاجر كثير من أصحابه، وبدأ المشركون يشعرون بخطر هذه الدعوة، وهذه الفئة، وهذا النبي القائد.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «فِي قَوْلِهِ U: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ﴾ [الأنفال: 30] قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ - يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ U نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ فَبَاتَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ»([23]).

وهناك رواية أوردها الإمام ابن كثير ♫ فقال: «وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ: عتبَة، وَشَيْبَة، وَأَبُو سُفْيَان، وَطعيمَة ابْن عَدِيٍّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيم بن حزَام، وَأَبُو جهل ابْن هِشَامٍ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّنَا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا.

قَالَ: فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِل مِنْهُم، قيل إِنَّه أبو البخترى بْنُ هِشَامٍ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، زُهَيْرًا، وَالنَّابِغَةَ، وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ....

فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فإذا خرج عَنَّا، فو اللَّه مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ، إِذَا غَابَ عَنَّا، وَفَرَغْنَا مِنْهُ، فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا، وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ...

فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بن هِشَام: وَاللَّه إِن لي فِيهِ رَأيا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ.

قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذ من كَانَ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مُنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ، فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ...

فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ على ذَلِك، وهم مجمعون لَهُ، فَأتى جِبْرَائِيل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ.

قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ حَتَّى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لن يخلص إِلَيْك شيء تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ.

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ التِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَدْ رَوَاهَا الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَغَيْرِهِمْ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ»([24]).

إذن صدر قرار القتل، فاختيار أربعين فارساً ليس لأنهم يخافون من قوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو فروسيته، وإنما ليذهب دمه هدراً بين القبائل، فلا يستطيع أهله المطالبة بالثأر له، كما هي عادة العرب عندما يُقتل لهم قتيل من عشيرة أخرى، فالقتل هو آخر الدواء لأي مشكلة، وبذلك ينتهون من هذا الأمر الذي أرَّقهم منذ ثلاث عشرة سنة، ودون أن تقع الشحناء والبغضاء بين القبائل العربية.

إذن هذا الأمر بناء على مشاورة، واتفاق بين كبراء المشركين [والغريب عدم وجود أبي سفيان في كل هذه المؤامرات والمؤتمرات]، حيث اجتمعوا، وتشاوروا، واتفقوا، والرواية أثبتّها؛ لأنها شرح للآية، لا لأنها هي النص، فنص الآية واضح، وسماها القرآن مكراً، وهذا المكر فيه خيارات ثلاثة: الحبس، أو القتل، أو النفي، والرواية تذكر الحصار المفروض، وإحاطة الفرسان بالبيت، لفعل أحد هذه الأمور الثلاثة.

وهكذا لاحقوه حتى غار ثور، يبحثون عنه ليقتلوه، أو يثبتوه، وهذا الذي فعله المشركون هو ما يقوم به أعداء هذا الدين في كل زمان، فالإحن والبغضاء لهذا الدين لا تنتهي إلى يوم القيامة، ويبقى المسلمون يرون سلفهم قدوة لهم في هذه الأمور، كما أن أعداء الأمة يرون سلفهم من كفار قريش هم القدوة لهم، فيفعلون ما فعلوا، ويحاولون التخلص من هذه الأمة بكل الوسائل والأساليب.

الفترة المدنية:

بدأت في الفترة المدنية تظهر الإحن متشعبة وكثيرة، فهناك اليهود، وهناك المنافقون، وهناك بقية كفار العرب، زيادة على كفار قريش الذين لم يتركوا محمداً، ولا صحبه ينعمون بالأمن، بل لا بد أن تلاحقهم إحن وبغضاء من مجموع هؤلاء الكفرة، واليهود، والمنافقين.

ففي صحيح البخاري عندما ذكر الهجرة النبوية، ووصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة « فَأَقْبَلَ [النبي صلى الله عليه وسلم] يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ، إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ، وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ، يَخْتَرِفُ لَهُمْ، فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا، فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ»، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي، قَالَ: «فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا»، قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ، وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ، وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ، فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ، وَيْلَكُمْ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ، فَأَسْلِمُوا)، قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ: (فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا، وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا، وَابْنُ أَعْلَمِنَا، قَالَ: (أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟)، قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: (أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟) قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: (أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟)، قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: (يَا ابْنَ سَلاَمٍ، اخْرُجْ عَلَيْهِمْ)، فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ، فَقَالُوا: كَذَبْتَ، فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([25]).

هنا تميز العدو الأول من خلال حسد اليهود، وعدم اعترافهم بالنبوة، بل بدأت الإحن تتفاقم بين الأمة الجديدة واليهود، مع أن الصحيفة اعترفت بوجود اليهود كمواطنين [بالتعبير العصري الحديث] في هذه الدولة الجديدة، ولكنهم ركبهم الحقد، وغلت نيران الحسد في قلوبهم، فبدؤوا بالكيد والحرب على الأمة الجديدة، والدولة الوليدة.

كما ظهرت طائفة المنافقين، ولكنها كانت تحارب الإسلام خفية، لا جهرة، فروى مسلم في قصة إيذاء المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ رَكِبَ [النبي صلى الله عليه وسلم] دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: (أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ: كَذَا وَكَذَا)، قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ، لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّه الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ، فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم»([26]).

ولنعلم شدة الإحن التي في قلب ابن أبيٍّ هذا، أورد شرح القاضي عياض لهذا الحديث:

«قَوْله شَرق بذلك - بِكَسْر الرَّاء-: ضَاقَ صَدره حسداً، كمن غص بِشَيْء، والشرق بالمشرب، والغصص بالمطعوم»([27]).

«قَوْله: يعصبوه بِالْعِصَابَةِ، قيل: مَعْنَاهُ يسوّدونه، وَكَانُوا يسمّون السَّيِّد معصباً؛ لِأَنَّهُ يُعصب بالتاج، أَو تُعصب بِهِ أُمُور النَّاس، وَقيل: مَعْنَاهُ: يعصبوه بعصابة الرياسة، وتاجها الَّتِي كَانَت تربطها مُلُوك الْعَرَب، وتعمّم بهَا، وعمائم الْعَرَب تيجانها، وَمِنْه الحَدِيث الآخر: (كَانُوا ينظمون لَهُ الخرز ليتوجوه، وينظمون لَهُ الْعِصَابَة)، وَفِي مُسلم: (ويتوجوه)، وَقَوله عاصباً رَأسه، وَقد عصب رَأسه مخففاً، أَي: شده بعصابة»([28]).

إذن شرق ابن أبيّ من دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وزعامته لأهلها، فقد سلبت زعامته، وقيادته، فامتلأ حقداً وحسداً، وبدأ يبحث عن مؤيدين له من أهل المدينة، عربها ويهودها، وهذا ما نراه واضحاً في غزوة أحد؛ حيث استطاع أن يقنع ثلث جيش المسلمين بالعودة إلى المدينة، وترك الذهاب للحرب ضد مشركي مكة.

«عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 152]: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ غَزَا أَبُو سُفْيَانَ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي لَبِسْتُ دِرْعًا حَصِينَةً، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَاجْلِسُوا فِي ضَيْعَتِكُمْ، وَقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهَا، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ قَدْ شُبِّكَتْ بِالْبُنْيَانِ، فَهِيَ كَالْحِصْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ فَلْنُقَاتِلْهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: نعم وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِنَا عَدُوُّ قَطُّ فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ، فَأَصَابَ فِينَا، وَلَا تَنَيْنَا فِي الْمَدِينَةِ، وَقَاتَلْنَا مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا هَزَمْنَا عَدُوّنَا، فَكَلَّمَهُ أُنَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ، فَدَعَا بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا أَظُنُّ الصَّرْعَى إِلَّا سَتَكْثُرُ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، إِنِّي أَرَى فِي النَّوْمِ مَنْحُورَةً» فَأَقُولُ: «بَقَرٌ، وَاللَّهِ بِخَيْرٍ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَاجْلِسْ بِنَا، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَلْقَى النَّاسَ، فَهَلْ مِنْ رَجُلٍ يَدُلُّنَا الطَّرِيقَ عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ؟» فَانْطَلَقَتْ بِهِ الْأَدِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّوْطِ مِنَ الْجَبَّانَةِ، انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ الْجَيْشِ»([29]).

وفي مستخرج أبي عوانة توضيح لما حدث «يوم نجم النفاق، وسُمُّوا المنافقين، وهم الذين خذلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين نهض إلى المشركين بأحد، وكانوا قريباً من ثلث أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمشوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا بلغوا الجبَّانة، وبرزوا من دور المدينة، انصرفوا إلى أهليهم ورأسهم يومئذ: عبد اللَّه بن أبي، وكان عظيم أهل تلك البُحَيْرة في الجاهلية»([30]).

ويؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد: وانخزل بن أبي من ذلك المكان في كتيبة يتقدمهم، وهو يقول: عصاني، وأطاع الولدان، ومن لا رأي له، وانخزل معه ثلاثمائة([31]).

وهنا تظهر العداوة والإحن عند ابن أبيّ، وطريقة خذلانه في أصعب الأوقات محنة، وفي وقت أشد ما تكون الحاجة إليه وإلى عسكره.

وفي غزوة أحد هذه كاد يحصل ما يريد الكافرون والمنافقون، عندما ظهر نداء بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وما يزال إلى الآن بعض أثر لهذه الأفكار، وسنرى أن أصحاب هذه الإحن حاولوا فعل هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم مراراً بقتله، وقتلوا عمر، وعثمان، وعلياً y، لأنهم كانوا يظنون أن قتل القائد، أو الرئيس سيؤدي إلى الفشل والضياع.

وعند العرب في معاركهم كانوا ينخذلون عن الحرب إذا مات القائد، ولذلك نرى هنا في غزوة أحد كيف بدأ الضعف، والتردد يدخل في قلوب بعضهم، فمنهم من هرب، ومنهم من بقي صامداً؛ لأنه يعلم أن الأمر أمر أمة ودعوة، لا أمر شخص، أو قائد، «فروى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ، فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّيَ أَنَسُ بن مالك»([32]).

ويؤيد هذا الحديث ما روى البخاري «عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، - يَعْنِي المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ»، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ»، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا نُرَى، أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي أَشْبَاهِهِ: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ»([33]).

وتظهر الإحن واضحة، عند عامر بن الطفيل الذي ساءه انتصار المسلمين في بدر، واستغل شيئاً من الضعف عندهم أحس به بعد غزوة أحد، ففعل ما فعل.

ذكر ابن كثير وغيره أن «قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مَلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، لَوْ بَعَثْتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إِلَى أَمْرِكَ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ، فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَار، فَبعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ الْمُعْنِقَ لِيَمُوتَ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النجار، وعروة بن أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ فِي رِجَالٍ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ، وَهِيَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا نَزَلُوا بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكَتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ نُخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا، فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ- عُصَيَّةَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَالْقَارَةَ- فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشُوا الْقَوْمَ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلُوا الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ؛ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ بِهِ رَمَقٌ، فَارْتُثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ الْقَوْمِ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، فَقَالَا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، فَأَقْبَلَا لِيَنْظُرَا، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لِأُخْبِرَ عَنْهُ الرِّجَالَ، فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُخِذَ عَمْرٌو أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ، أُطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ فِيمَا زَعَمَ، قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةَ، أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، حَتَّى نَزَلَا فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيَّيْنِ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلَا مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَمْهَلَهُمَا حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا وَقَتَلَهُمَا، وهو يرى أنه قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثَأْرًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا»([34]).

وقد حدثت هذه الحادثة كما تقول الروايات عقب غزوة أحد، ومكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقنت شهراً يدعو عليهم، فقد طلبوا الدعاة ليفقهوهم، ثم نكثوا، وانقضّوا عليهم، وقتلوهم، وهؤلاء الدعاة كانوا من خيار المسلمين، وفقهائهم – كما في الروايات – وهذا العمل لا يقوم به إلا كافر، أو منافق، ولسنا بحاجة إلى إثبات عداوة وإحن هؤلاء على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعلى الإسلام والمسلمين، أو لإثبات أنهم مسلمون، فدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهم كاف، ولا يحتاج إلى زيادة.

وتبدأ بعد ذلك إحن جديدة تظهر، وبأسلوب أخزى، وأقذر، فعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ»([35]).

وفي رواية مسلم: « فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَلاَ تَأْمَنُونِي!؟» قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ».

وفيها أيضاً: «فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِى قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ».

وفيها: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ - قَالَ - فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً!»، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ!»، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ، فَقَالَ: (إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ - قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ - لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ».

وهنا تبدأ مرحلة جديدة، قد يكون خطرها أكبر من غيرها، لأن الإحن هنا تأتي ممن اعتنقوا هذا الدين، وقاموا بمتطلباته التعبدية، ومظاهره الشعائرية، ولكن الخلل يأتي من عدم فهمهم، وعدم استيعابهم للمنهج الجديد في بناء الأمة والدولة، وبدأ أولهم يشعر أن فهمه هو الدولة، فجاء ليصحح للنبي أخطاءه، ويعلمه كيف يجب أن يكون الدين الحق، وكأنه هو النبي، وهو الأفهم والأعظم، فخرج عن الطريق، وتظاهر بالنصح، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ناصحاً: «اعدل»، أو «اتق اللَّه»، «هذا عمل لا يراد به وجه اللَّه» أي أن المشرِّع جار وظلم في حكمه، فحبا أهله وذويه، وآثرهم على باقي المسلمين، أي أن هذا المشرِّع يستغل سلطته، وسلطانه؛ ليستفيد منه أقاربه، وزبانيته، وأعوانه، ويقول هذا مع المشرّع، وأمام الصحابة، مما حدا ببعضهم طلب قتله بتهمة النفاق.

ولست هنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، لنقارن بين الإمام وشخص النبي (المشرع) صلى الله عليه وسلم، فنكون بذلك ازدرينا أنفسنا قبل أن نشير بشيء إلى شخص نبينا صلى الله عليه وسلم، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجلّ، وأكبر، وأعظم من أن يقارن بأي إنسان، حتى ولو كان من صحابته الأدنين، بجعله مجالاً للمقارنة مع من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

وهذا العمل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خروج ومروق، وانتهاك لحرمة الدين بشخص المشرع صلى الله عليه وسلم.

ودواء مثل هذه الواقعة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، فإن له أصحاباً يقرؤون القرآن...»، أو«...لا، لعله أن يكون يصلي»، أو: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم».

- في عهد الخلفاء الراشدين:

قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بعض العرب يدور في نفوسهم الحسد نحو النجاح الذي نجح به النبي صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن الأمر قوة أهل مكة والمدينة، وقبائل الحجاز هي سبب هذا النجاح، فجاءت التفسيرات نحو هذه المشكلة متعددة بين قبائل العرب، ويذكيها عدد من المنافقين، واليهود، ولذلك نجد أن المشكلة تجتاح الجزيرة كلها عدا مدن الحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، وبعض القبائل، أو بعض أفراد من القبائل العربية متناثرين على مستوى جزيرة العرب، ولكن الإحن نحو نجاح قريش هي التي سادت بين هؤلاء الذين لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم.

فانقسم هؤلاء إلى:

أ- قسم رفضوا الإسلام جملة واحدة، وأحسوا أنهم أولى من قريش بالسيطرة على بلاد العرب، وهنا يكون الحسد والإحنة نحو قريش؛ لأنهم لم يدركوا سر هذا الدين الجديد، ولا بناء هذه الأمة، ولذلك بدؤوا يتقدمون بالقوة للتخلص من هذه الأمة الوليدة، فجهزوا الجيوش، وجمعوا القبائل، وأثاروا في نفوس أتباعهم الإحن والحقد على المسلمين، فكان منهم المتنبئون، ومنهم الرافضون للأحكام التي يأخذها القرشيون، بزعمهم، وأقسام دَفَعَتْهم شياطينهم للكسب المادي من هذه الدولة التي أصبح أهلها يمسكون بزمام المال، والتجارة لسعتها، وقوتها.

وصوّر المؤرخون بداية هذه الظاهرة: «...تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ، ارْتَدَتْ أَحْيَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ، وَانْحَازَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بَنُو حَنِيفَةَ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْيَمَامَةِ، وَالْتَفَّتْ عَلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ بَنُو أَسَدٍ، وطيِّئ، وَبَشَرٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ أَيْضًا كَمَا ادَّعَاهَا مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَاشْتَدَّتِ الْحَالُ...»([36]).

والظاهرة الثانية من رفضوا الزكاة؛ لأن وفاة النبي – بزعمهم – وضعت حداً لسيادة قريش، «وَجَعَلَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ تَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، يُقِرُّونَ بِالصَّلَاةِ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الصِّدِّيقِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة:103]، قَالُوا: فَلَسْنَا نَدْفَعُ زَكَاتَنَا إِلَّا إِلَى مَنْ صَلَاتُهُ سَكَنٌ لَنَا، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:

أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّه إذ كان بيننا

فوا عجبا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ»([37])

ويصور هذا المثال القسم الأول، وهو قسم المتنبئين بسبب العصبية القبلية، وحسد قريش على ما نالته من هذه النبوة، «جَاءَ [أعرابي] إِلَى الْيَمَامَةِ فَقَالَ: أَيْنَ مُسَيْلِمَةُ؟ فقال: مَهْ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَرَاهُ، فلما جاء قَالَ: أَنْتَ مُسَيْلِمَةُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ يأتيك؟ قال: رجس، قَالَ: أَفِي نُورٍ أَمْ فِي ظُلْمَةٍ؟ فَقَالَ: فِي ظُلْمَةٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ كَذَّابٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِنْ كَذَّابُ رَبِيعَةَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَادَقِ مُضَرَ، وَاتَّبَعَهُ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ الْجِلْفُ لعنه اللَّه حتى قتل معه يوم عقربا»([38]).

فهو هنا يعرف أن مسيلمة كذاب، وكل أصحاب مسيلمة يعرفون، ولكن الحسد والحقد على الأمة الوليدة التي قادها قرشيون، جعلتهم لا يقبلونها، ولو أطاعوا، واتبعوا هذا الدين لعلا بهم، فكثير من العرب غير القرشيين كانوا قادة، وزعماء، وأمراء في هذه الدولة، مع أنهم ليسوا بقرشيين، كأمثال المثنى بن حارثة الشيباني، وغيره من القادة، والأمراء، ولكن الإحن التي طحنت بعض النفوس، جعلتها تنقم على هذا الدين، وتنمي في نفوس أفراد قبائلها هذا الضغن؛ ليستطيعوا محاربة هذه الأمة.

وقد لقي الصحابة في هذه الحروب التي خاضوها ضد هؤلاء الخارجين عنتاً شديداً، وقدموا شهداء كثيرين، وهم من خيرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

واتفقت الأمة على حرب هؤلاء المرتدين، وإن وقع بين الصحابة جدل حول هذا القتال في بداية الأمر، إلا أنه كان جدلاً قصيراً، وسريعاً، فالظروف متلاحقة، والحوادث متتالية، تسير سير النار في الهشيم، فكان لا بد من الحسم، ولم يكن الجدل حول قتال المرتدين مع المتنبئين، فهؤلاء لم يختلف عليهم الصحابة، وإنما الخلاف حول الذين أقروا بالدين، إلا أنهم رفضوا أداء الزكاة.

وتروي كتب الحديث أحداث هذا الجدال، ففي صحيح البخاري: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».

«فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ»([39]) .

وعند البخاري أيضاً: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ)، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ»([40]).

نرى أن الصحابة اتفقوا على حرب الخارجين والمارقين، ولكن هنا ملاحظة مهمة، علينا ألا ننساها، أو نتناساها، وهي: أنهم رافضون للإسلام، أو لبعض أحكامه، واستعدوا لحرب دولة الإسلام، ومنهم من جهّز الجيوش لهذا، والحاكم هنا هو المنفذ لأحكام الإسلام، وحربه التي شنها على الخارجين، إنما شنها لأنهم رفضوا أحكام الإسلام، أو شيئاً منها، وجهزوا الجيوش لحرب هذه الأمة الوليدة، فلم يتهم أبو بكر رضي الله عنه بالتقاعس، أو التقصير، أو الانحراف، بل على العكس، كان التقصير والانحراف من شيمة الخارجين، ولذلك التحمت الأمة كلها في حرب هؤلاء المارقين المرتدين، فتوحدت الأمة التي بقيت متبعة لعهدصلى الله عليه وسلم النبي ورسالته، وأعانته، وتطوعت في جيوشه، واستشهدت تحت رايته.

وفي هذه الأحداث نلاحظ كيف أن الإحن في قلوب هؤلاء المرتدين كانت تلاحقهم ليتخلصوا من أمة الإسلام ودولته، وقد بدأت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يروي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ: «قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ»([41]).

وهذه رواية تفصّل الأمر أكثر «قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ شَهِدَتِ [نسيبة بنت كعب] الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا، وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُهَا حَبِيبٌ هَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، حِينَ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عَضْوًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ أُمُّ عُمَارَةَ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى الْيَمَامَةِ مَعَ الْمُسْلمِينَ حِينَ قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ، وَرَجَعَتْ وَبِهَا اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لوَأَرْضَاهَا، وَالْأُخْرَى» ([42]).

ورواية أخرى تجمع بين مسيلمة الكذاب ومتنبئ آخر هو الأسود العنسي، عن عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضِيبٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: إِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَيُجِيبُكَ عَنِّي)، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي ذَكَرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُرِيتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ)، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ»([43]).

والرَّجَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ الحنفي الذي أسلم على طريقة مسيلمة، وَاسْمُهُ نَهَارٌ، أَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَعَ، فَصَدَّقَ مُسَيْلِمَةَ، وَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، فَحَصَلَ بِهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ»([44]).

والحسد هنا ظاهر واضح عند مسيلمة، وعند من تبعه، فهو لا يستطيع أن يحارب النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، فبدأ يفاوضه حول استلام الأمر بعده، وإلا... ولذلك كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو لتوقع مسيلمة الكذاب: وإلا.

ولندرك كيف كان حقد مسيلمة، والإحن في قلبه نحو الإسلام والمسلمين، سأستعرض بعص الروايات:

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ، قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، قَالَ لِلرَّسُولَيْنِ: فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَقُولُ: كَمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا)([45]).

ولندرك مدى الإحن في نفوس أعداء الإسلام في كل وقت وحين ومكان، وكيف يُظهرون الشنآن والبغض الكامن، نعرض قصة «حَبِيبَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَزْدِيَّ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ [وهو ابن نسيبة بنت كعب]، وَنَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَصُحِّفَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، أَخَذَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: «نَعَمْ»، فَيَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: «لَا أَسْمَعُ»، فَقَطَّعَهُ مُسَيْلِمَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبٍ اسْمُهَا نُسَيْبَةُ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، فَخَرَجَتْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، فَبَاشَرَتِ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا، حَتَّى قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ، وَرَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا عشر جِرَاحَاتٌ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، حَدَّثَنَاهُ حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِهَذَا»([46]).

فرسولا مسيلمة حفظهما، وأبقى على أرواحهما؛ لأن الرسل لا تقتل عند العرب والمسلمين، وفي كل الأعراف، ولكن أصحاب الحقد والبغض، والصدور التي تغلي مراجلها حقداً على هذا الدين، رأينا كيف أن حبيب هذا قطّعه مسيلمة قطعة قطعة، وهو يطالبه بالإقرار بنبوته الكاذبة، فذهب حبيب شهيداً رضي الله عنه.

هذه المحاولات التي بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى عهد عثمان، كانت تضم العرب، واليهود، والمنافقين، وما حدث في عهد أبي بكر لم يكن من فئات مسلمة، بل هي فئات مرتدة، أو منافقة، أو يهودية، تريد استئصال شأفة الإسلام، وفي عهد عمر رأى الأعداء أن القوة لم تنجح في عهد أبي بكر، فقاموا باغتيال عمر بن الخطاب ليفرط عقد الدولة – حسب تصورهم – فوقى اللَّه الأمة من هذا الأمر، وبقيت الدولة قائمة قوية، فلجؤوا إلى الطريقة التي تتظاهر بالدين، وتفتك به بواسطة أهله، وأتباعه، وكان المؤتمرون في قتل عمر رضي الله عنه:  

قُتِلَ عُمَرُ، فَاتَّهَمَهُ [أي الهرمزان] بَعْضُ النَّاسِ بِمُمَالَأَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ هُوَ وَجُفَيْنَةُ، فَقَتَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ([47]).

وذكر الإمام ابن حبان: «خرج أبو لؤلؤة على وجه يريد البقيع، وطعن في طريقه اثني عشر رجلاً، فخرج خلفه عبيد اللَّه بن عمر، فرأى أبا لؤلؤة، والهرمزان، وجفينة [وكان] نصرانيًا، وهم يتناجون بالبقيع، فسقط منهم خنجر له رأسان، ونصابه [في] وسطه [وهي صفة الخنجر الذي طُعن فيه عمر رضي الله عنه]، فقتل عبيد اللَّه أبا لؤلؤة، والهرمزان، وجفينة ثلاثتهم»([48]).

فذكر هذه الرواية لاتفاق ثلاثة: فارسيان، ونصراني على قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، توحي بأن أمر أعداء هذا الدين رأوا أن التخلص من هذا الدين هو قتل خليفتهم، ليتفرق شملهم، ويتناثر شعثهم، فلا يجمعهم جامع، ولكن هذه المحاولة ثبت أنها لم تؤدِّ إلى ما أرادوا، فخلال أقل من ثلاثة أيام كانت بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتنصيبه خليفة على المسلمين.

رأى أعداء هذا الدين على ما يظهر أن قتل الخليفة وحده لا يجدي، فانتقلوا إلى مرحلة جديدة، وهي تأليب الأمة على الخليفة، والطعن في نزاهته، وهذا ما بدؤوه في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو من الخلفاء الراشدين، وعثمان بن عفان رضي الله عنه هو الملقب بذي النورين، ولسنا بحاجة للثناء عليه، أو مدحه، فيكفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوّجه ابنتيه، وأرسله رسولاً له يوم الحديبية، وكانت بيعة الحديبية تحت الشجرة انتقاماً له، لمّا جاء الخبر أن الكفّار في مكة قتلوه، وبايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين تحت الشجرة، وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وليس بمكة من بني عدي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بها مني: عثمان بن عَفَّانَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: (لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ)، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَيْعَةِ، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة»([49])، وقال السهيلي: «... أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ (لَا نَبْرَحُ حَتّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ)، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النّاسَ إلَى الْبَيْعَةِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَكَانَ النّاسُ يَقُولُونَ بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «إنّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ، فَبَايَعَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم النّاسَ، وَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا»([50]).

وهكذا كان اختيار عثمان رضي الله عنه لما كان عليه من عظمة ومقام عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعند قريش، وهذا ما ذكره عمر عندما عرض عليه النبي مختاراً له للذهاب إلى مكة، فقال له: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وليس بمكة من بني عدي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بها مني: عثمان بن عَفَّانَ»، فهذا هو عثمان حييُ رب العالمين، والنبي والمؤمنين، ويزيد على ذلك حقد قريش على عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان شديداً عليها، وقد جاء في رواية البخاري: «... فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ، اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ)([51]).

فبيعة الرضوان هي نصرة لعثمان، ومن أجل الثأر له، ولكن النبوة وحي، فقد أشار النبي هنا أن عثمان بايع بيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يد عثمان، والبيعة – كما قلت – أصلاً هي انتقام لعثمان، وبيعة النبي لعثمان بيده من معجزات النبوة، فإن البيعة أصبحت رتبة من الرتب التي رتبها النبي للمسلمين، فهناك الأولون ممن آمن من الصحابة، وهناك المهاجرون، وهناك الأنصار، وهناك البدريون، وهناك المبايعون يوم الحديبية، وهناك من أسلم قبل الفتح، وهناك من أسلم بعد الفتح، فعثمان من الأولين ممن آمن، ومن المهاجرين، ونلاحظ أن النبي اعتبره مع البدريين، لأنه طلب منه أن يبقى في المدينة ليمرّض زوجه رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم له من الفيء كما قسم لمن حضر، وحضر أحد والخندق، وجعله ممن حضر الحديبية، وبيعة الرضوان، مع أن كل البيعة حصلت من أجله هو، ولنصرته هو، ومع ذلك بايع عنه النبي بيده الشريفة عن يد عثمان لينال درجة المبايعين.

ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن عثمان رضي الله عنه، أو الثناء عليه، فهو أكبر من كل ذلك كله، وصحبته تفوق كل عناصر الدفاع، وعناصر المدح والثناء، ولكننا هنا بصدد ما حدث من الإحن عليه التي وقعت في عهده.

ولذلك عاث أعداء هذه الأمة فساداً بين الناس، يؤلبون عليه العامة، وينشرون الأفكار المسمومة الخبيثة، ويطعنون بذي النورين، وهو عثمان بن عفان الذي روت عائشة ل حديثاً يقول:

كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَسَوَّى ثِيَابَهُ - قَالَ مُحَمَّدٌ [بن أبي حرملة: أحد الرواة]: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ، فَجَلَسْتَ، وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ، فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»([52])، وأقول فعلاً هؤلاء لا يستحون، فالملائكة تستحي من عثمان، ونبينا يستحي من عثمان، وهؤلاء لا يستحون من الله، ولا من الملائكة، ولا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عثمان رضي الله عنه، فبمَ اتهم عثمانَ هؤلاء الذين خرجوا عليه، وما المآخذ التي أخذوها عليه، ولو أجملناها لوجدناها:

1- حمى الحمى.

2- حرق المصاحف.

3- أتم الصلاة في السفر.

4- ولّى الأحداث (الشباب الصغار)، وترك الصحابة الأكابر.

5- أعطى بني أمية من مال الدولة أكثر مما أعطى باقي الناس.

6- عتبوا عليه عقابه لعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر.

7- عتبوا عليه إيواءه الحكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف([53]).

وبما أننا – كما قلنا – لسنا بصدد الدفاع عن عثمان، إلا أنني أجدني مضطراً إلى ذكر بعض الردود التي وردت على لسان بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو عثمان نفسه رضي الله عنه، يرد على هذه الاتهامات، حتى لا يتسرب إلى نفس القارئ شكوك حول الخليفة الراشد، وما اتُّهِم به.

ذكر الإمام ابن كثير :: «فَأَجَابَ عَلِيٌّ عن ذلك: أما الحمى، فإنما حماه لإبل الصَّدَقَةِ لِتَسْمَنَ، وَلَمْ يَحْمِهِ لِإِبِلِهِ، وَلَا لِغَنَمِهِ، وَقَدْ حَمَاهُ عُمَرُ مِنْ قَبْلِهِ.

وَأَمَّا الْمَصَاحِفُ، فَإِنَّمَا حَرَقَ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَبْقَى لَهُمُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَأَمَّا إِتْمَامُهُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا، وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَتَمَّهَا.

وَأَمَّا تَوْلِيَتُهُ الْأَحْدَاثَ، فَلَمْ يُوَلِّ إِلَّا رَجُلًا سَوِيًّا عَدْلًا، وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَتَّابَ بْنَ أُسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلَّى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَطَعَنَ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فقال: (إنه لخليق بالإمارة).

وَأَمَّا إِيثَارُهُ قَوْمَهُ بَنِي أُمَيَّةَ [مع أن عطاءه لبني أمية كان من ماله الخالص]، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ قريشاً على الناس، وواللَّه لَوْ أَنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ بِيَدِي، لَأَدْخَلْتُ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا».

ونقل الشيخ محب الدين الخطيب ♫ الآتي([54]): ولـ«أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج([55])، وما زعمه الزاعمون من أن عثمان كان يودّ ذوي قرابته، ويعطيهم، فمودته ذوي قرابته من فضائله، وعليٌّ أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي، وأعطيهم، فأما حبي لهم؛ فإنه لم يَمِلْ معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم، فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت علي أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا! ؟، قال الطبري([56]): «وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب»، بل توسع شيخ الإسلام ابن تيمية في الاحتمالات فذكر في منهاج السنة([57]) أن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام، كما قاله الحسن، وأبو ثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية. . . وقيل هو لمن ولي الأمر بعده. . . قال: وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية، أو بمال، ثم قال([58]): إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها أنه عامل عليه، والعامل يستحق مع الغنى، الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، الثالث أنهم (أي ذوو قربى عثمان) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم، وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به»([59]).

ثم يقول ابن كثير: «وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي عَمَّارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ عُثْمَانُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا.

وَعَتَبُوا عَلَيْهِ فِي إِيوَائِهِ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَدَّهُ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَدَّه»([60]).

من هذا الحوار بين الإمام علي والقائمين عليه، بدأت تظهر آراء، ومنها رأي الإمام علي رضي الله عنه: «وَيُرْوَى أَنَّهُمْ بَعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَشَهِدُوا خُطْبَةَ عُثْمَانَ هَذِهِ، فَلَمَّا تَمَهَّدَتِ الْأَعْذَارُ، وَانْزَاحَتْ عِلَلُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ، أَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ على عثمان بتأديبهم، فصفح عنهم رضي الله عنه، وَرَدَّهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَلَمْ يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا أَمَّلُوا وَرَامُوا، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ، وَسَمَاعِهِمْ مِنْهُ»([61]).

وهنا يتساءل المرء عن هذه الأمور التي أخذها هؤلاء الخارجون على عثمان رضي الله عنه:

هل الحجج التي تذرع بها هؤلاء الغوغاء الحاقدون كافية لخلعه، أم هي ذرائع لضرب دولة الإسلام، ولنشر الفوضى وتحويل الدولة إلى عصابات، وإمارات قبلية لا وجود لسلطان الدولة فيها، وهل كانت حججهم مقنعة، وكافية لخلع الإمام إن صحت، أم كانت مآخذ صحيحة ومقبولة؟ أم هي تمحل وادّعاء، وليس فيها نصيب من الإصلاح للدولة، وإعادة سيرها كما كانت في عهد الشيخين: أبي بكر وعمر ب؟ كما زعموا؛ لأن هؤلاء الخارجين كانوا يحتجون بسيرة الشيخين ب، وينعون على عثمان رضي الله عنه انحرافه عن هذه السيرة([62]).

وقد عرضنا في الفقرات السابقة مآخذهم على عثمان رضي الله عنه، ولكن ما المطالب التي يريدون تحقيقها لإنهاء خروجهم؟

قال ابن كثيراً نقلاً عن ابن جرير: «إن عثمان اسْتَدْعَى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوُضِعَتْ لِعُثْمَانَ وِسَادَةٌ فِي كُوَّةٍ مِنْ دَارِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَشْتَرُ مَاذَا يُرِيدُونَ؟

فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْكَ إِمَّا أَنْ تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي مِنْ نَفْسِكَ مَنْ قَدْ ضَرَبْتَهُ، أَوْ جَلَدْتَهُ، أَوْ حَبَسْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ نُوَّابَهُ عَنِ الْأَمْصَارِ، وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا مَنْ يُرِيدُونَ هُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ أَنْ يُسْلِمَ لَهُمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَيُعَاقِبُوهُ كَمَا زَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ كِتَابَهُ إِلَى مِصْرَ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ إِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَيَكُونَ سَبَبًا فِي قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَمَا فَعَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِهِ الْقَتْلَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الاقْتِصَاصِ مِمَّا قَالُوا بِأَنَّهُ رَجُلٌ ضَعِيفُ الْبَدَنِ كَبِيرُ السِّنِّ [!؟!]، وَأَمَّا مَا سَأَلُوهُ مِنْ خَلْعِهِ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَلَا يَنْزِعُ قَمِيصًا قَمَّصَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَتْرُكُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يَعْدُو بَعْضُهَا عَلَى بعض، ويولى السفهاء من الناس من يختارونه هم، فيقع الهرج، ويفسد الأمر [كما ظن]، فإن فعل فسدت الأمة ووقع الهرج، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ إِنْ كُنْتُ كُلَّمَا كَرِهْتُمْ أَمِيرًا عَزَلْتُهُ، وَكُلَّمَا رَضِيتُمْ عَنْهُ وَلَّيْتُهُ؟ وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَتَحَابُّوا بعدي، وَلَا تُصَلُّوا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَا تُقَاتِلُوا بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا، وَقَدْ صَدَقَ رضي الله عنه فِيمَا قَالَ»([63]).

ولأمر ما طلبوا منه التنازل عن الخلافة، ولكنه كان يحفظ حديثاً نبوياً، وأكثرهم يعرف هذا الحديث، وهو ما رواه الإمام أحمد «عَنْ عَائِشَةَ ل، قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلَامٍ كَلَّمَهُ، أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ، وَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه U عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي» ثَلَاثًا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ؟ قَالَتْ: نَسِيتُهُ، وَاللَّه فَمَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِي أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ بِهِ، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَابًا»([64]).

والرواية التي تذكر كتابة عائشة هي ما رواه الإمام أحمد: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، حَدَّثَهُ قَالَ: كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا كِتَابَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَلَا أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنِّي كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ يَوْمًا مِنْ ذَاكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَبْعَثُ لَكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا»؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا أُرْسِلُ لَكَ إِلَى عُمَرَ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «لَا»، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَسَارَّهُ بِشَيْءٍ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ: (يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه U لَعَلَّهُ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ) ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كُنْتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّه لَقَدْ أُنْسِيتُهُ حَتَّى مَا ظَنَنْتُ أَنِّي سَمِعْتُهُ»([65]).

فنص الحديث النبوي أنهم منافقون، وهو ما أشرنا إليه من أن هؤلاء الغوغاء والأوباش كانوا سلّماً للتخطيط الذي بدأت تظهر بوادره واضحة في الحرب على الدولة الإسلامية الفتية لوأدها في مهدها، وهل كلما قامت فئة من الناس، لا يُعرف عنها علم، ولا صلاح، ولا مكانة في الأمة، تريد تغيير الخليفة تطاع، وتصبح الخلافة، وتنصيب الحاكم لعبة بين أيدي السفهاء والغوغاء، أم لا بد من نظام، ونهج مطلوب في إحقاق خليفة، أو خلعه، كما ذكر صاحب الأخبار الطوال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عبد اللَّه علي [ابن أبي طالب] أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فقد لزمك، ومن قبلك من المسلمين بيعتي، وأنا بالمدينة، وأنتم بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان y، فليس للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الأمر في ذلك للمهاجرين والأنصار؛ فإذا اجتمعوا على رجل مسلم فسموه إماماً، كان ذلك للَّه رضى، فإن خرج من أمرهم أحد بطعن فيه، أو رغبة عنه، رد إلى ما خرج منه»([66]).

بغض النظر عن صحة الرواية، لأن معناها صحيح، وليس لأنها حكم شرعي، بل هي نظام لا بد منه عقلاً، وشرعاً، وإلا كانت الفوضى، وتهارج الناس فيما بينهم تهارج الحمر.

ولذلك حدث ما قال عثمان رضي الله عنه في آخر كلامه من الهرج والمرج، ونرى أن هؤلاء الخارجين لم يخفوا أهدافهم المباشرة، فهم يريدون إقصاء الخليفة، وهدم الخلافة، وإلا فالقتل نهايته، والمآخذ التي تذرعوا بها، لا تتناسب مع النتائج التي يطلبونها، ولذلك كان الناس في عهده يحسّون بأن هؤلاء الخارجين معظمهم أصحاب فتنة، يريدون هدم الدولة الإسلامية من أساسها، وهذا ما استشفه عثمان رضي الله عنه من أقوالهم، فخاطبهم هذا الخطاب، وحذرهم هذه النتائج الوخيمة.

وهم يدّعون أنهم إنما يفعلون ما يفعلون هو تصحيح لمسار الدولة، وتصحيح موضوع الخلافة، والتخلص من الخليفة الضعيف المسكين الذي يتحكم به أسرته (بنو أمية)، وأقاربه وأصحابه.

وضعف عثمان هذا إنما هو ادعاء لا حقيقة له، لأن عثمان كان شديداً فيما يحكم به، وما جلده لأخيه من الرضاعة لاتهامه بالمسكر، وما إصراره على نسخ القرآن للأمصار، وعقوبة جميع الذين رفضوا تسليم الصحف المكتوبة عندهم، هذا كله يدل على أن نسبة الضعف إلى عثمان إنما هي كذب وافتراء، وأما تركه للخارجين عنه، فهي – كما أرى – أفضل ما قام به عثمان رضي الله عنه، لأنها أثبتت أن عثمان كان عنده حدْس مستقبلي على مستوى أمة الإسلام كلها، وعلى مدى تاريخ هذه الأمة، فهو ترك الشذاذ والأفاقين والغوغاء ومدعي الإصلاح، ولم يحمل عليهم سلاحاً، ولم يقتل منهم أحداً، ولم يُدخل أحداً منهم إلى سجن، أو يقيم عليه عقوبة، ولو فعل لكان من حقه، ولكنه علم أن هذا العمل سيكون حجة لكل مستبد، وطاغية.

وفي مثل هذه الثورة يحسّ الإنسان أن على الخليفة أن يكون ذا يد من حديد، ويحطم كل من تطوع له نفسه هدم أركان الدولة بادعاءات مطبوخة في مطابخ النفاق والفجور، وتتزيا بزي ظاهري قشيب، ولكن نقول: لماذا لم يفعل عثمان كما هو المتوقع من الخليفة الحاكم القويّ، فلم يُعدم هؤلاء الخارجين، أو ينفيهم من البلاد، أو يعاقبهم بالسجن؟.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي :: «وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقى بيده، أو يستنصر؟، وأجاز بعضهم أن يستسلم، ويلقى بيده اقتداء بفعل عثمان، وبتوصية النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذلك في الفتنة.

قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يكُ [يُرى] في الأرض منكرٌ، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا إليَّ [واستسلمت] لأمر اللَّه، وأمرت كل من حولي ألا يدافعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار.

وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم المتقدمة، والثاني الاقتداء بعثمان، والثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم المؤيدة بالوحي، فإن من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا [مستعينين به] مستغيثين له، فأراق دماءهم.

وأمرُ عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية، فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه «بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد»([67]).

فنبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن عمل الخلفاء الراشدين سنة مهدية، ولو فعل عثمان كما يفعل الطغاة، لأصبح هذا العمل بالقتل، أو التعذيب، أو العقاب سنة ماضية، يحتج بها كل الطغاة إلى يوم القيامة، كما نرى أن بعض الأحاديث التي يستخدمها الطغاة، والدعاة لهم؛ لمنع أي طلب للإصلاح، بحجة الطاعة مهما بلغ السوء والطغيان بالسلطان، ويحاولون تأويل أحاديث أخرى تطالب بالصدع بالحق، ورفض الظلم، فرضي اللَّه عن عثمان، وأرضاه، وبما أن ما يقوم به الخلفاء الراشدون سنة متبعة عند المسلمين، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، فإن هؤلاء الصحابة كانوا يدركون خطورة أي عمل يقومون به، فإن عثمان رضي الله عنه أصر على عدم الدفاع عنه، بل كان يرفض ذلك بشدة، ولو رغب بهذا، أو وافق عليه، لوجد الصحابة كلهم جنوداً له، ذائدين عنه([68])، وأصبحت سنة الحكام – سواء كانوا صالحين أم مفسدين، فجرة أم كافرين - في مخالفيهم القتل والصلب، فهم الآن يقومون بهذا الأمر، فيقتلون، ويُعدمون مخالفيهم دون احتجاج برواية عن صحابي، فما بالنا بعثمان ذي النورين رضي الله عنه الخليفة الراشد الثالث، وسكوت عثمان رضي الله عنه، وتحمله لصلفهم وانحرافهم، لم يردعهم عن مثل هذا العمل، إلا أنهم لا يجدون من أعمال الصحابة شيئاً يؤيد ما يقومون به، فيحاول بعض العلماء أن يبرروا لهؤلاء الحكام – ظالمين أو عادلين – مثل هذه الأعمال اعتماداً على نصوص مؤولة أو ملتوية، أو مبتورة، أو صحيحة – في بعض المرات – دون البحث في أسباب هذه المخالفات التي يجنح إليها كثير من الشباب – هذه الأيام – ليخففوا من غلوائهم، أو تمردهم، أو ثورتهم.

ولكن من هم هؤلاء الذين خرجوا على عثمان، وما صفاتهم، وأحوالهم، وما أهدافهم التي أعلنوا عنها، وأهدافهم التي أضمروها، فظهرت نتائجها في الفتنة الكبرى التي حدثت بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه.

«السبئيّة: [فريق] مثل الذي قبله، طائفة من غلاة الشيعة، نسبوا إِلى عبد اللَّه بن سَبَأ، كان يهودياً من أهل صنعاء، فأسلم أيام عثمان، ثم تنقَّل في البلاد، وهو الذي حمل أهل مصر على قتل عثمان، وأظهر الميل إِلى علي، وكان خبيث الباطن، غرضه الفساد بين المسلمين، وتم له»([69]).

فهي أول طائفة بدأت تعلن الكلام عن إمامة إمام، غير إمامة الخليفة، وبدأت تتكئ على اسم علي رضي الله عنه، حتى أصبح اسم علي في كل كتب التاريخ يسبقه كلمة الإمام، وهذه الكلمة لم تجد مجالاً لوضعها قبل اسم أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، ومثلها جملة كرم اللَّه وجهه، واخترعوا سبباً لهذه التسمية أنه الوحيد الذي لم يسجد لصنم، وباقي الصحابة لم يحصل لهم هذا الشرف الغريب الذي أضفوه على سيدنا عليّ رضي الله عنه، وهذا يذكرني ما حدث في العصور المتأخرة، عندما بنى العبيديون (الفاطميون كما اشتهر اسمهم بين سذّج المؤرخين) جامع الأزهر، في مصر، ونسبوه لفاطمة الزهراء ل، وألصقوا عليه كلمة (الشريف)، وما يزال الكثيرون من العلماء والكتَّاب والمؤرخين وعوام الناس، إن لم نقل كلُّهم، أو جلّهم على الأقل، ولم ينسب هذا اللفظ إلى أي مسجد آخر، بناه صحابة أو في عصرهم، أو تابعون، أو في عصرهم، كمساجد: قباء، والأموي، والزيتونة، وقرطبة (في الأندلس)، وغيرها من المساجد في العلم، وما يزال الناس من علماء، ومؤرخين، وكتّاب وأدباء يتبعون اسم الأزهر بـ(الشريف)، وباقي مساجد اللَّه لا توصف بهذا الوصف، كسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أفردوه بلفظ الإمام دون غيره من الصحابة، أو الخلفاء، فهذه كلها من الآثار الرافضية التي تسري بين الناس دون اهتمام.

مع أن رأي علمائنا القدامى كانوا يهتمون في الحذر مما يصدر، أو يسري بين الناس من دعايات الرافضة، ويبقى كثير من الناس يتأثرون بدعايات الرافضة، كما قال الدينوري المالكي: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، نَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُسْلِمٍ؛ قَالَ: مَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قَوْمًا أَضْعَفَ عُقُولًا، وَلَا أَكْثَرَ اخْتِلَافًا، وَتَخْلِيطًا مِنَ الرَّافِضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ قَوْمًا ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةِ لِبَشَرٍ غَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَبَأٍ، وَأَصْحَابَهُ ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه؛ فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ:

لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرا

أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قُنْبُرا

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُخَتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ ادَّعَى النُّبَوَّةَ، وَقَالَ: جِبْرِيلُ يَأْتِينِي، وَمِيكَائِيلُ، فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ، وَاتَّبَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ: الْكَيْسَانِيَّةُ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: الْبَيَانِيَّةُ؛ يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَيَانٌ»([70]).

وهذه الأخبار والمخرقات نجدها تسربات بأثواب ظاهرها البعد عن أثواب الرافضة، فتسربت باسم الشيوخ بدلاً من اسم الأئمة، فبعض مشايخ المتصوفة لا تفترق مواصفاتهم عن مواصفات الأئمة المعصومين، وإن كان الجميع يدّعون عدم العصمة نظرياً، ويثبتها كثير من المتصوفة عملياً وحقيقة.

إذن هؤلاء الغوغاء والشذاذ والسذج الذين تأثروا بدعايات ابن سبأ وتلاميذه، وأمثالهم بدؤوا بالتأليب على عثمان رضي الله عنه، وتابعوا في محاولات حثيثة للقضاء على الدولة الإسلامية الفتية، بواسطة هذه الأفكار الخبيثة التي استطاعو أن يسيطروا فيها على كثير من الناس.

عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

وما أن نصل إلى عهد علي رضي الله عنه حتى تزداد الفتنة خرقاً وتتسع، ويقع عدد من الأصحاب ضحايا لها، ويقف الخليفة الجديد في مفترق طرق كثيرة، بدأت هذه الطرق تتشعب شعباً صغيرة – في ظاهرها – فإذا بها تتفتق عن أنهار من الدماء، ومعارك تصطلي الأمة بنارها، ويموت فيها الكثير من أفراد الأمة، فبينما تذهب عائشة ل، ومعها طلحة والزبير لأخذ الثأر لعثمان صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم، واحتجت عليهم بقول اللَّه تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾([71])، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، وأرسل فيه، فرَجَت المثوبة، واغتنمت [الفرصة]، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها([72]).

واستطاع النفر الذين قتلوا عثمان ومن شايعهم من الغوغاء وأوباش الناس، ومن لم يستقر الإيمان في قلوبهم، أن يذكوا النار بين الفريقين، فاقتتلوا وجرت الدماء فيما بينهم، والذي يطمئن قلوب المؤمنين أن هذه الحرب بين الصحابة ليس فيها نصيب للشيطان [في قلوبهم، ومبادئهم، وعقائدهم]، وذكر ابن كثير: «بلغت الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ، فَقَالَ: اللَّهمّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ»([73])، وعند ابن عساكر: «وسمع علي الدعاء، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعو، ويدعون معها على قتلة عثمان، وأشياعهم، فأقبل يدعو وهو يقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم»([74]).

وفي رواية عَنْ عُمَيْرِ بْنِ رُوزِيٍّ قَالَ: «سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ عُثْمَانَ؟ كَمَثَلِ ثَلَاثَةِ أَثْوَارٍ كُنَّ فِي أَجَمَةٍ، ثَوْرٌ أَسْوَدُ، وَثَوْرٌ أَحْمَرُ، وَثَوْرٌ أَبْيَضُ، مَعَهُنَّ فِيهَا أَسَدٌ، وَكَانَ الْأَسَدُ لَا يَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ لِاجْتِمَاعِهِنَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَسْوَدِ وَلِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ، فَإِنَّهُ مَشْهُورُ اللَّوْنِ، فَلَوْ تَرَكْتُمَانِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكُمَا الْأَجَمَةُ، فَقَالَا: دُونَكَ فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ، فَإِنَّ لَوْنَهُ مَشْهُورٌ، وَإِنَّ لَوْنِي وَلَوْنُكَ لَا يَشْتَهِرَانِ، فَلَوْ تَرَكْتَنِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكَ الْأَجَمَةُ، وَعِشْنَا فِيهَا، قَالَ: دُونَكَ، فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَحَمَرِ إِنِّي لَآكلُكَ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُنَادِيَ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ، قَالَ: نَادِ، قَالَ: أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ: أَلَا وَإِنِّي إِنَّمَا وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه»([75]).

إذن الهدف الذي أراده قتلة عثمان من تبديد، وتدمير الدولة بدأت تبرز معالمه، فهذه الحرب قامت بدايتها بين الصحابة.

وبعد انتهاء المعركة، قام سيدنا علي رضي الله عنه بتفقد أرض المعركة، والبحث عن جرحى، والتعرف على القتلى، ويروي ابن كثير أن علياً دار بين القتلى، فرأى سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه [وكان في جيش عائشة]: «وَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَارَ بَيْنَ الْقَتْلَى، رَآهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ مجدولا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([76]).

ويروي ابن عساكر: «رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد اللَّه رحمة اللَّه عليه ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: عزيز عليَّ أبا محمد بأن أراك مجندلاً في الأودية، وتحت نجوم السماء، ثم قال: إلى اللَّه أشكو عجري وبجري، قال نصر بن علي: فسألت الأصمعي عن قوله: عجري وبجري، فقال: سرائري، وأحزاني التي تموج في جوفي»([77])، ولذلك صاح أمام الملأ، وبين جنوده: «وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([78]).

وأما حرب علي ومعاوية ب، فقد ذكر البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ»([79]).

وقد أورد العلماء هذا الحديث وأمثاله على ما شجر بين الصحابة، ويؤيد هذا أن التاريخ لا يحدثنا عن خلاف بين الفريقين حول أحكام الإسلام، أو عقائده، أو شرائعه، إنما الخلاف على إمام لم يطعه والٍ من الولاة الذين يرون أنه لم تنعقد له الإمامة انعقاداً كاملاً، لأنها كانت في ظل المارقين القاتلين لعثمان رضي الله عنه، ورفض الانصياع لحكمه حتى يأخذ بثأر الخليفة القتيل ظلماً، وهذا ما جعل الفريقين بعيدين عن أحكام الحرب التي سنها الإسلام بين المسلمين والكفار والمنافقين، فعلي رضي الله عنه عندما يتحصن أمام الماء لم يمنع جيش معاوية منه([80])، وكذلك إطلاق علي رضي الله عنه  الأسرى دون فداء، أو تبادل أسرى بين الفريقين([81])، وفي نصوص التحكيم التي وردت بين الفريقين، وشروطها دلالة كافية على أن دعوى الفريقين واحدة، حيث جاء فيها: «هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَاضَى عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ: إِنَّا نَنْزِلُ عند حكم اللَّه وكتابه، ونحيى ما أحيى الله، وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- وَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- عَمِلَا بِهِ، وَمَا لَمْ يَجِدَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُتَفَرِّقَةِ، ثُمَّ أَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ عَلِيٍّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أَنَّهُمَا آمِنَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عَهْدُ اللَّه وميثاقه أنهما عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»([82]).

ولا نستطيع القول إن حرب معاوية لعلي قد تشبه الخروج على الإمام في أحد وجوهها، حيث إن الصحابة الذين كانوا موجودين هم الذين بايعوا علياً، ونصبوه خليفة، وهنا امتنع معاوية من بيعته، ومن هذا الوجه قد يبدو لبعضهم أن يُعدّه خروجاً، على الحذر من الابتعاد عن أن معاوية ما ادّعى الخلافة، أو نادى بها، فهذا افتراء على التاريخ، «ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل عليٌّ أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له [أي لعلي] بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال .

بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب [على معاوية وأصحابه] عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته، يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.

وهم [أي أصحاب معاوية] قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقَتَلَتُه في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا([83]) ظلمونا، واعتدوا علينا»([84]).

ويتابع شيخ الإسلام ابن تيمية كلامه: «وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كُفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة، مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه، فإن فضل علي وسابقته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم y»([85]).

والروايات متتالية في عدم منازعة معاوية لعلي على الخلافة، «وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ، وَجَمَاعَةً مَعَهُ، دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا أَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيَّ؟ فَقُولُوا لَهُ: فَلْيُسَلِّمْ إِلَيَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ أَحَدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ»([86]).

وعلى هذا يمكن القول كذلك إنه ليس خروجاً بالمعنى الصحيح المعروف؛ لأن معاوية رضي الله عنه لم يرفض إمامة علي رضي الله عنه ابتداء، ولم يدّع الخلافة أصلاً، أو لم يطلبها – كما سبق-، فقد اتفق الطرفان المتنازعان على التحكيم، فيقول الشيخ محب الدين الخطيب : حول هذا الموضوع: «فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم، تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة، أما التصرف العملي في إدارة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين، فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وكان يكون محلاً للمكر أو الغفلة، لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولّى معاوية إمارة المؤمنين، وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادّعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية، وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين»([87]).

فمعاوية هنا لا يكون خارجاً عن الإمام ولا عليه، إذا أخذنا بادّعائه أنه وليّ الخليفة المتفق على إمامته – وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنه كان والياً عنده، وباعتباره ولياً له، فلن يترك الولاية حتى يأخذ له بثأره، ولذلك ورد في بعض الروايات أن أبا الدرداء، وأبا أمامة ب دخلا «على معاوية فقالا له: يا معاوية، علام تقاتل هذا الرجل [يعنيان علياً رضي الله عنه]؟ فو اللَّه إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عثمان، ثم أنا أول من بايعه منْ أَهْلِ الشَّامِ»([88]).

إذن معاوية لا ينكر خلافة علي، ولا يرفضها، ولكنه كان يشترط الأخذ بثأر عثمان، باعتباره وليَّ المقتول الشهيد، فهو وليُّه – كما يرى لأنه ابن عمه- وأن له السلطان في الأخذ بثأره، فهو يشترط البيعة بالأخذ بالثأر، وقد يكون هذا – برأيي – شرطاً غير كافٍ لتبرير موقفه هذا، فإنه قد يوحي بالخروج على الخليفة الذي بايعه كثير من المسلمين في المدينة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، وفيهم عدد كبير من الصحابة، فهو من الناحية الفقهية اجتهاد حقيقي، وليس خروجاً، أو إنكاراً للخليفة.

والدليل على هذا الاجتهاد، وأنه ليس إنكاراً أو خروجاً، هو أنه لم يكن يقاتل علياً حمية جاهلية، ولا تكفيراً، أو تفسيقاً، بل اجتهاد – كما سبق – وقد جاء رواية عن معاوية ورأيه في علي بن أبي طالب ب «لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ عَلِيٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ قَاتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ، إِنَّكِ لَا تَدْرِينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ، وفي رواية أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟»([89]).

ولذلك يرجح، بل يجزم، ابن كثير على أن الحرب بينهما كانت باجتهاد، ويستشهد بالحديث الذي يذكر مروق الخوارج بأن الذين يقاتلونهم هم الفرقة الأدنى إلى الحق من الفريقين المختلفين من المسلمين اللذين دعوتهما واحدة، فيقول: «ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتَلِ عُثْمَانَ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ عَظِيمٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَقَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْإِسْلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ- أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ- كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح: «تمرق مارقة على خير فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ» فَكَانَتِ الْمَارِقَةُ الْخَوَارِجَ، وَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ»([90]).

 ([1]) تاريخ الطبري (1/ 8).

([2]) الباعث الحثيث، (181).

([3]) البداية والنهاية (9/ 225).

([4]) شذرات الذهب ( 1 / 65 ).

([5]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (4/ 54).

([6]) البداية والنهاية (8/ 138).

([7])  صحيح مسلم، حديث رقم (1087).

([8]) مقدمة ابن خلدون 1/ 275.

([9]) صحيح البخاري، رقم4801.

([10]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (1/ 404)

([11]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (4/ 322)

([12]) سيرة ابن إسحاق (4/ 191)، وهي صحيحة، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 207)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/ 255)، رقم 35829، وفي روايات هذه الكتب ألفاظ: تحاكت الركب، وتحاذينا على الركب، وتجاثينا على الركب.

([13]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 505).

([14]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/ 496).

([15]) صحيح مسلم (2797).

([16]) انظر الرواية في القترة المدنية.

([17]) صحيح مسلم (1793).

([18]) صحيح مسلم (1794).

([19]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 501)

([20]) سيرة ابن إسحاق (2/ 136، مسند أبي يعلى (12/ 176)، (6804).

([21]) الطبقات الكبرى (1/ 163).

([22]) تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 454).

([23]) مسند أحمد (5/ 301)، (3251)، وذكره في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 27)، وقال: «رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو الْجَزَرِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ».

([24]) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 228)

([25]) صحيح البخاري، (3911).

([26]) صحيح مسلم (1798).

([27]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 249).

([28]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 94).

([29]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 363)

([30]) مستخرج أبي عوانة، (15/ 54). وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 221)،

([31]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 39).

([32]) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 245).

([33]) صحيح البخاري (2805).

([34]) البداية والنهاية (4/ 72)، المعجم الكبير للطبراني (20/ 358)، تاريخ خليفة بن خياط (ص: 8)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 129): «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَى ابْنِ إِسْحَاقَ»، وقد وردت القصة بتمامها مفصلة في صحيح البخاري، رقم (4086).

([35]) صحيح البخاري، رقم 3610، وصحيح مسلم، رقم 1063- 1064.

([36]) البداية والنهاية، 6/ 311. وانظر: إمتاع الأسماع للمقريزي، 14/ 236.

([37]) البداية والنهاية، 6/ 311.

([38]) البداية والنهاية، 6/ 327.

([39]) صحيح البخاري، رقم 1399، 1400.

([40]) صحيح البخاري، رقم 7284، 7285، وصحيح مسلم، رقم 20.

([41]) صحيح البخاري (3620).

([42]) البداية والنهاية (4/ 418).

([43]) صحيح البخاري (4378).

([44]) انظر: البداية والنهاية (9/ 495).

([45]) مسند أحمد (15989)، وإسناده صحيح.

([46]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 355).

([47]) البداية والنهاية  (10/ 64).

([48]) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان (2/ 497).

([49]) البداية والنهاية (4/ 167).

([50]) الروض الأنف (7/ 64).

([51]) صحيح البخاري (10/ 103)، رقم الحديث 4066.

([52]) صحيح مسلم (4/ 1866)، حديث رقم 2401.

([53]) البداية والنهاية (7/ 171).

([54]) العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية (ص: 101).

([55]) الخراج لأبي يوسف الطبعة السلفية سنة 1352 (ص60 – 62).

([56]) تاريخ الطبري (5: 103).

([57]) منهاج السنة النبوية (3/ 187 - 188).

([58]) تاريخ الطبري (3/ 237).

([59]) انتهى ما ذكره الشيخ محب الدين الخطيب.

([60]) البداية والنهاية (7/ 171).

([61]) البداية والنهاية (7/ 171).

([62]) انظر ذلك في المصدر السابق.

([63]) البداية والنهاية (7/ 180).

([64]) مسند أحمد (41/ 113) 24566، إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح.

([65]) مسند أحمد (42/ 84)، ح 25162، حديث حسن، وصحيح ابن حبان (15/ 346)، ح 6915، وسنن الترمذي (5/ 628)، ح 3705، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (7/ 173): «رَوَاهُ أبو بكر بن أبي شيبة وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ مُخْتَصَرًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ».

([66]) الأخبار الطوال للدينوري (ص: 166)

([67]) العواصم من القواصم (ص: 143).

([68]) انظر: المصدر السابق (ص 145)، والبداية والنهاية (7/ 181).

([69]) جامع الأصول (12/ 492).

([70]) المجالسة وجواهر العلم (3/ 454).

([71]) سورة النساء: 114.

([72]) انظر: العواصم من القواصم (ص: 156).

([73]) البداية والنهاية (7/ 242).

([74]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111).

([75]) تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1233)، مصنف ابن أبي شيبة (7/ 562)، رقم الحديث 37933، تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ 472).

([76]) البداية والنهاية (7/ 247).

([77]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111،  صحيح مسلم (4/ 2214)، ح 157.

([78]) البداية والنهاية (7/ 247)، وانظر: أسد الغابة (2/ 471)، تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 115).

([79]) صحيح البخاري (9/ 59)، ح: 7121.

([80]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 76)، البداية والنهاية (7/ 256)، تاريخ ابن خلدون (2/ 627).

([81]) ذكر ابن كثير أن علياً «قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية، وكان قد عزم على قتلهم؛ لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ، أَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ الَّذِينَ فِي يَدِهِ». البداية والنهاية (7/ 277).

([82])  البداية والنهاية (7/ 276)، وانظر: تاريخ ابن خلدون (2/ 634).

([83]) هكذا في مجموع الفتاوى، وأما في مختصر الفتاوى المصرية (ص: 484): «هم غالبون لهم شوكة، فإذا لم نمتنع ظلمونا، واعتدوا علينا، وعليٌ لا يمكنه دفعهم، كما لا يمكنه الدفع عن عثمان».

([84]) مجموع الفتاوى (35/ 69).

([85]) مجموع الفتاوى (35 / 70).

([86]) البداية والنهاية (8/ 129)، وقد ذكر ابن حجر هذه الرواية، وصدرها بقوله: «وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي، أحد شيوخ البخاري، في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة... إلخ» فتح الباري لابن حجر (13/ 86).

([87]) العواصم من القواصم (ص: 174).

([88]) البداية والنهاية (7/ 259).

([89]) البداية والنهاية (8/ 130).

([90]) البداية والنهاية (8/ 126)، والحديث في صحيح مسلم (2/ 741)، ح ( 1064)،

وسوم: العدد 879