المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات

كتاب في مقال

د.أحمد محمد كنعان

ضمن سلسلة "كتاب الأمة" التي تصدر عن إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في دولة قطر ، صدر كتاب ( المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات ) شارك في إعداده نخبة من الباحثين ، وهو بمثابة مشروع ثقافي جماعي اعتادت "مؤسسة الأمة" على إصداره سنوياً في محاولة منها لاستدعاء النظر إلى هجرة الكفاءات من الوجه الآخر ، في محاولة من المؤسسة لتغيير زوايا النظر التقليدية ، ذلك أن معظم الكتابات حول موضوع الهجرة اهتمت برصد الآثار السلبية للهجرة ، ولم يتوقف سوى القليل منها عند الوجه الإيجابي للهجرة ، أو ما يمكن أن يكون عطاء حضارياً للهجرة مما يتطلب وضع استراتيجية عمل أو خارطة طريق لاستثمار هجرة الكفاءات استثماراً بناءً .

والكتاب يدعو للتأمل في أزمة الكفاءات العربية التي اضطرتها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية القاسية إلى الهجرة ، غالباً نحو الغرب ، أوروبا والولايات المتحدة بخاصة ، ولعل الجديد في هذا الكتاب أنه لم يتوقف فقط عند الآثار السلبية لهذه الهجرة بل تعداها للحديث عن آثارها الإيجابية أيضاً ، وهو بهذه اللفتة يعيد إلى الأذهان هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى يثرب وما رافق تلك الهجرة من آلام ومتاعب ومعاناة ، لكنها كانت في الوقت نفسه المقدمة الحقيقية لفتوحات عظيمة ، كان أولها إقامة الدولة الإسلامية الأولى ، ثم انتشار الإسلام في أرجاء العالم ، فالهجرة بحسب مؤلفي الكتاب تنطوي على جوانب سلبية وأخرى إيجابية قد تكون هي الأهم والأبرز .

يبدأ الكتاب بتقديم طويل غني بالأفكار والمعاني العميقة للأستاذ عمر عبيد حسنة ، وهو المشرف على هذه السلسلة القيمة التي مضى على تأسيسها نحو ثلاثة عقود كانت حافلة بالعطاء الفكري المتميز ، تبدأ فصول الكتاب ببحث تحت عنوان ( الهجرة ومأزق الهوية ) للباحث المغربي د.إدريس مقبول ، الذي تحدث عن الهجرة وعقدة الانبهار بالآخر المتمثل بالنموذج الغربي تحديداً باعتباره النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه ، والنظر إلى "الغرب" على أنه "الفردوس الموعود" الذي بات يدغدغ أحلام قطاع واسع من شبابنا اليائس والمتردد ، هذه الأحلام التي يمازجها الإحساس بالغربة بصورة العودة إلى الوطن عودة الظفر والانتصار والولادة من جديد ، لكن بمواصفات مادية مميزة ! ولا يفوت الباحث أن يشير إلى الجانب الآخر لظاهرة الهجرة تعرض المهاجرين إلى اختلال أهم ركن من أركان هويتهم وهو اللسان ، مما يولد مع طول الزمن نوعاً من الهزيمة الحضارية ، وقد يرتقي ليشكل ما يسمى بالتناشز المعرفي ، وهي حالة من التناقض بين المعتقدات التي يحملها الفرد وبين السلوك الذي يصدر عنه .

في الفصل التالي تحدث الباحث المغربي د.محماد بن محمد رفيع عن ( التأسيس الشرعي لعطاء الكفاءات المهاجرة ) ناقش فيه بإسهاب وتفصيل ـ في إطار تأصيل شرعي عميق ـ الحاجات الاجتماعية والدعوية والعلمية والعملية الماسة إلى بناء فقه الاندماج الاجتماعي الإيجابي ، والتواصل الحضاري بين المسلمين وغيرهم ، وعرض فيه كذلك الضوابط الشرعية لتوظيف مبدأ الاندامج الاجتماعي في بناء جسر التعارف والتعاون بين أطراف الخلاف داخل المجتمعات ، وأشار إلى جملة من الوسائل العملية والمداخل الثقافية والتربوية التي من خلالها يتم تجاوز حالة الاضطراب المعرفي والخلط العلمي والاهتراء التنظيمي للمسلمين في المجتمعات الغربية .

أما الباحث المصري د.خالد حربي فقد تحدث عن ( هجرة العقول والكفاءات : معادلة حضارية ) فذكر أن في مقدمة الأسباب الداعية للهجرة في العصر الحديث تأتي الأسباب السياسية والاقتصادية ، وبخاصة منها الهجرات من دول العالم الثالث المتجهة إلى الغرب ، الأمر الذي أحدث أزمات ومشكلات في الدول المهجرة لرعاياها ، لاسيما الكفاءات أو العقول المميزة ، وأشار الباحث إلى أن هجرات العقول العربية إلى الغرب بدأت بصورة متواضعة في القرن 19 ، ثم أخذت تتزايد في القرن العشرين ، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية التي تزامنت مع بداية الثورة الصناعية في الغرب تفاقمت هجرات العقول العربية إلى الغرب ، وتعاظمت الأزمة أكثر فأكثر مع هزيمة عام 1967 نتيجة الصدمة النفسية الهائلة التي خلفتها تلك الأزمة ، ثم انتقل المباحث للحديث عن واقع العقول والكفاءات في الحضارة الإسلامية ، مبيناً أن العلم على مدى ألف عام تقريباً كان ينطق بالعربية في أنحاء العالم ، في ظل الحضارة الإسلامية ، ما جعل هذه الحضارة مركز جذب للكفاءات من أقطار الدنيا قاطبة ، ثم ناقش الباحث حال العقول والكفاءات الإسلامية بين عوامل الدفع المحلية وعوامل الجذب الغربية ، وذكر من أهم عوامل الدفع العاملين السياسي والاقتصادي ، حيث يجبر الكبت السياسي والحاجة الاقتصادية على الهجرة ، إلى جانب الفساد الإداري والمحسوبيات وما شاكل ذلك من ظروف معاشية سيئة تدفع بالعقول العربية دفعاً إلى الهجرة بحثاً عن ملاذ آمن وفرصة للحياة الكريمة . ثم عرض الباحث إحصائيات ووقائع خطيرة أظهر من خلالها حجم الأزمة ، منها أنه خلال النصف الثاني من القرن العشرين هاجر ما بين 25 ـ 50% من الكفاءات العربية إلى أوروبا والولايات المتحدة ، ، منهم 750 ألف عالم عربي هاجروا ما بين عام 1977 وعام 2006 ، وذكر كذلك أن حوالي مائة ألف من الأطباء والمهندسين العرب يهاجرون سنوياً نحو الغرب ، إلى غير ذلك من الإحصائيات التي تبين حجم الكارثة التي تنتج عن هجرة هذه العقول التي تنفق عليها بلداننا العربية مليارات الدولارات سنوياً !

ثم تحدث الباحث المغربي د.عبد الرحمن بودرع عن ( هجرة الكفاءات : رؤية حضارية ومقاربة اجتماعية ) رأى فيه أن الهجرة ظاهرة بشرية قديمة قدم التاريخ ، وهي تؤدي إلى تنوع الأجناس والثقافات في المجتمعات التي يهاجر إليها المهاجرون ، وذكر أن دراسة هذه الظاهرة تدخل في صميم الدراسات الاجتماعية ، وهي ترمي إلى أن يعي الفرد قيمته ومكانته بين الآخرين ، وتحمل من جراء ذلك النتائج المترتبة على اختياره ، وقد قسم الباحث الهجرة إلى أشكال ، منها الهجرات التجارية ، والهجرات السياسية ، والهجرات العلمية ، ويرى أن معظم المهاجرين العرب هم لاجئون سياسيون دفعتهم الظروف السياسية الظالمة في بلدانهم إلى الهجرة بحثاً عن بيئة أكثر امناً واستقراراً وتقديراً لكفاءاتهم العلمية والفكرية ، واقترح الباحث في نهاية بحثة مجموعة من الحلول للإفادة من الكفاءات ووقف هجرتها ونزيفها إلى الخارج ، وانتهى إلى ضرورة إخراج التعليم في الوطن العربي من حالته التي هو عليها اليوم والتي تؤدي ـ بحسب الباحث ـ إلى هجرة المتخرجين ذوي العقول المبدعة باحثين عن بيئة علمية توافق هواهم وتحقق لهم الأرضية العلمية التي يحققون فيها إبداعاتهم .

ثم تحدث الباحث البحريني د.عبد الستار الهيتي عن ( الأبعاد الاقتصادية في هجرة الكفاءات : أسبابها وآثارها ) الذي رأى أن تزايد الحاجات البشرية وتنوعها عبر العصور ولدت لدى الإنسان الرغبة بالهجرة من مكان إلى آخر ، ومن بيئة اجتماعية إلى آخرى ، طلباً للرزق ، ورغبة في تطوير الذات ، وطموحاً للوصول إلى ما هو أفضل ، وبهذا كانت الهجرة ظاهرة فردية أول الأمر ، ثم لم تلبث أن أصبحت ظاهرة جماعية ، علماً بأن الهجرة قد لا تكون مجرد رغبة بل قد تكون نتيجة الاضطرار والفرار من الظروف القاسية في كثير من الأحيان ، ويرى الباحث أن هجرة العقول العربية والكفاءات أصبحت من أبرز الظواهر في مجتمعاتنا العربية في العقود الأخيرة ، وهي من أهم العوامل التي تؤثر سلباً على الحالة الاقتصادية في الوطن العربي عامة ، ويعدد الباحث من الأسباب التي تدعو الكفاءات العربية للهجرة : عدم توفر فرص العمل ، تباين مستوى الدخل بين الوطن الأصلي ووطن المهجر ، والإحباط العلمي والمهني للباحثين في البلدان العربية ، وانتشار الأمية العلمية ، وضعف الانتماء الوطني بسبب الظروف السياسية المجحفة ، والفساد الإداري ، وقمع الحريات ، والمحسوبية في توزيع المناصب العلمية ، والاستقطاب الطائفي والتوظيف السياسي ، وذلك كله مقابل الأوضاع المغرية في بلاد المهجر !

وقد انتهى الباحثون إلى جملة من النتائج والتوصيات التي نوجزها فيما يأتي :

1.    أظهرت الدراسة أن 60% من العرب الذين درسوا في الولايات المتحدة ، و 50% ممن درسوا في فرنسا ، خلال العقود الثلاثة الأخير ، لم يعودوا إلى بلادهم ، وتوقعت الدراسة تزايد ظاهرة هجرة العقول إلى الدول المتقدمة في المستقبل القريب ، نتيجة الظروف المعقدة التي يعيشها الوطن العربي ولاسيما في ظل "الربيع العربي" وما رافقه من أزمات طاحنة .

2.    انتهت الدراسة إلى أن من أبرز الدأسباب الاقتصادية التي تقف وراء ظاهرة هجرة الكفاءات عدم توفر فرص العمل المناسبة لهم ولمستوياتهم العلمية والمهنية ، وانخفاض مستوى الدخل ، وتدني مستوى المعيشة ، في مقابل ارتفاع مستوى الدخل وتوفير الحياة الرغيدة في بلدان المهجر ، ناهيك عن الإحباط العلمي والمهني للباحثين من أصحاب الكفاءات العلمية بسبب عدم توفر إمكانات وأدوات البحث العلمي ، إلى جانب تدني نسبة الإنفاق على البحث العلمي والدراسات الأكاديمية ، بالإضافة إلى تقديم من هم أقل كفاءة وعلماً إلى المناصب الإدارةي والعلمية .

3.    إن ارتباط دولنا بمنظومة النظام الاقتصادي الرأسمالي أدى إلى خلق علاقة تخلف وتبعية ، بحيث أصبح الوصول إلى الدول المتقدمة حلم أبنائنا الكبير ، لما تحمله من مزايا للمهاجر ، وهذا ما أسفر عن سرقة خيرة الكفاءات العلمية العربية .

4.    من أبرز الأسباب الاجتماعية لهجرة الكفاءات العربية انتشار الأمية العلمية في مجتمعاتنا ، المتمثلة في عدم تقدير هذه الكفاءات ، وعدم الاهتمام بأصحابها ، والتمييز الحزبي أو الطائفي أو العرقي في كثير من الأحيان ، مما جعلهم يشعرون بالغربة وهم في أوطانهم ، وأضعف انتماءهم للوطن العربي ، وزاد من رغبتهم في الهجرة .

5.    أما الأسباب السياسية للهجرة فلام تعد تخفي على أحد ، وهي تتمثل بالقمع والاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي ، وكبت الحريات الفكرية ، والاستقطاب الطائفي ، وسياسة الإقصاء والتهميش ، إلى جانب المحسوبية التي تعد من أسوأ وأخطر أنواع الفساد الإداري والسياسي ، كل ذلك أدى إلى استبعاد الكفاءات العلمية والمهنية من مركز القرار ، ودفعها للبحث عن محضن آخر في بلاد المهجر .

6.    أشارت الدراسة إلى بعض الجوانب الإيجابية لهجرة الكفاءات على الرغم من خطورة هذه الظاهرة على احضر ومستقبل الأمة ، فهي لا تخلو بالرغم من ذلك من بعض الآثار الإيجابية ، منها تنمية الكفاءات الوطنية علمياً ومهنياً ، والاستفادة من عوائد التحويلات المالية من بلاد المهجر إلى الوطن الأصلي ، والحد من مشكلة البطالة ، والمساهمة في التقدم الصناعي والتكنولوجي للبلد الأصلي ، وتحقيق التفاعل الحضاري بين الأمم والحضارات .

7.    لكن يبقى من أبرز النتائج السلبية لهجرة الكفاءات العلمية تستنزف العقول الوطنية المميزة ، وتشكل خسارة فادحة في مجال التعليم ، إلى جانب الخسائر الاقتصادية ، وهي توسع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة ، وتكرس تبعية الدول النامية للبلدان المتقدمة ، وتبدد الموارد البشرية ، مما ينتهي بالوطن إلى التدهور الإنتاج العلمي والبحثي ، وضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول التي أصبحت تصب في شرايين الدول المتقدمة ، مع أن دولها الأصلية في أمس الحاجة لها .

8.    توصي الدراسة بمعالجة ظاهرة هجرة الكفاءات من خلال برامج دقيقة تتعلق بسياسة التوظيف في مؤسسات الدولة ، من حيث الأجور والمرتبات المجزية لتحقيق الكفاية الاقتصادية ، واختيار المكان المناسب لتلك الكفاءات العلمية ، بما توافق مع مؤهلاتهم وإمكانياتهم ، وتوفير المناخ السياسي الذي يوفر لهم المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار ، والعمل على نشر ثقافة الولاء الوطني والابتعاد عن الولاءات الضيقة الحزبية والعرقية والمذهبية ، وإعداد خطة علمية لتطوير مناهج التعليم بما يتناسب مع حاجة المجتمع ، وتفعيل دور الشباب في حرية إبداء آرائهم وأفكارهم من خلال المنتديات والمراكز الثقافية والشبابية ، وتشجيع الشركات والمؤسسات الخاصة للمشاركة في تمويل البحوث العلمية والإفادة منها ن وتوفير أدوات وأجهزة البحث العلمي ، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل العلمية التي لها ارتباط بالوقاع الصناعي والاقتصادي والعلمي ، من أجل إحداث احتكاك علمي بين الخبرات المحلية والعالمية ، وصولا إلى الإبداع والابتكار ، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب .

9.    ضرورة وضع استراتيجية عربية وإسلامية تعمل على وضع ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية على جدول أعمال اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ، من خلال مؤسساتها ووحداتها المختلفة ، لرصد إحصائياتها الدقيقة والتنبيه إلى خطورتها ، ووضع برامج عملية لمعالجتها .

10.                       تبني المواهب العلمية وعدم أهمال المخترعات التقنية التي يتقدم بها أعداد كبيرة من الطلبة والباحثين العرب والمسلمين إلى الجامعات ومراز البحث العلمي دون أن تجد طريقها للتنفيذ ، ويتحمل مسؤولية هذه المهمة كل من الدولة والقطاع الخاص .

11.                       ضرورة رعاية الجامعات العربية والإسلامية للعلماء والخبراء والمنتسبين إليها ، والحرص عليهم ، وتوفير السبل التي تتيح لهم الابتكار والإبداع ، وتقديرهم مادياً وأدبياً بدلاً من الوقوف في وجه طموحاتهم العلمية والمهنية ، والتوسع في إنشاء الأطاديميات التقنية والبحثية لإتاحة الفرصة لهذه الكفاءات كي تمارس دورها العلمي والقيادي في نهضة الأمة وتقدمها .

 وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هجرة العقول سنة كونية من سنن الله في خلقه ، فلا نتوقع وقفها بصورة تامة ، ولكن يمكننا استثمارها وتوظيفها بطرق علمية مدروسة جيداً فتكون خيراً وبركة على الأمة ، وتكون كسباً حضارياً وعلمياً وتقنياً يساهم في تقدم الأمة وازدهارها وإثراء تجاربها ، أما إذا لم نحسن استثمارها فإنها سوف تظل عامل تقويض وضعف للأمة .