أدب الخلاف

محمد بن إبراهيم الدبيسي

عند الشيخ "صالح بن حميد

محمد بن إبراهيم الدبيسي

يكاشف (د. صالح بن عبد الله بن حميد) أطروحات الواقع (الديني) في قضايا ذات مساس بالبنى الاجتماعية المنحدرة منها.. والمتداخلة معها..!

فيما كتبه عن (أدب الخلاف) الذي هو مشترك الخطابات

وهو عمقها وتعبيرها اللازم.. وغير الملتزم بمعايير توافقية..!

بل اختيارية، يطرها (مزاج) المخالف.. وتحركها أخلاقياته وتعبر عنها (أدبيات) خطابه..

وهو المعوّل عليه في توجيه مشاعر الجماهير.. وبناء نموذجها..!

وحقن ذهنياتها بالمفاهيم والتصورات وهو من جانب آخر (كاشف) لبنيتها الثقافية، ونظم تفكيرها.. ومحركات اهتماماتها.. وهمّها..

** وعندما يحدد (عالم) بحجم صالح بن حميد (أدب الخلاف) ويتناول بالنقاش والعرض والتحليل أخلاقياته وأساليبه.. وآلياته، فثمة رؤية تتسم بالتسامح.. وتؤمن بالحوار والتعددية.. ترهص.. وتتداخل في نسيج هذا الطرح.. وتأخذ براءتها العلمية من شخص (ابن حميد)

كمهاد ذكروي وقبلي عنه في ذهن يقرؤه.

فهو (صالح بن حميد) إمام الحرم..

ورأس الهرم الوظيفي والإداري المسؤول عن أطهر مكانين على وجه الأرض..!

** وهو (د. صالح بن حميد) المؤتلف ضمناً.. مع ضمير المؤسسة الدينية.. والممثل لوجه من وجوه خطاباتها.. والمعتبر من خلال ممارساته البحثية والوعظية، رمزاً تنويرياً مؤسساً على رصيد معرفي.. ودراية فقهية.. ودخيلة صادقة فيما تدعو إليه.. لا تبتغي غير نور الحق سبيلاً.. ولا غير نية الإصلاح حجة ومقصداً..! وهو فيما يمثله في خطبه ومؤلفاته ومحاضراته رمز إصلاحي..

يتحاور مع مشهد الخطاب القائم.. ويشارك في صناعة أنساق هذا الخطاب.. بمعطيات توفيقية للخطاب العلمي المرتكز.. على قاعدة فهم ديني عميق.. باعتبار العلم الشرعي تخصصه.. ومحل اشتغالاته.. وهمّه.. وباعتبار تعاطيه للرأي الآخر.. ومعه.. قائم على الحوار.. والنقاش والسؤال..!

** وخطاب يتأسس على (هكذا) رؤية عقلانية في تجلياتها..

يكمن مفاصل حوار يؤصل لمفاهيم لا تأخذ طابع الانفعال الوقتي.. ولا تأجج العواطف ترغيباً وترهيباً..! إنما تتعاطى أهدافها، عبر وسائط الحوار والخطاب المتبادل.. والقراءة الواعية لأنساق الواقع الاجتماعي.. وتداخله مع الديني، بعيداً عن التزمت والغلو.. والتعصب والإسقاط..!

** فقاعدة قراءة أنساق الخلاف المشاهد بيننا اليوم يراها (ابن حميد):

"في الناس من هو ذو فكر محصور إدراك ضيق وعلم قليل، تختل عنده الموازين.. وتختلط لديه الأولويات قد ينحدر في التعصب المقيت.. لانحياز المذموم لرأي عالم أو فئة.

يوجد من يوغل في النقد وينشط في الجدل حتى يدخل في الغيبة والتجريح وتتبع الزلات والعثرات من غير فقه في واجب النصح وحسن الظن ومعرفة بأقدار الرجال" ص9.

ويحدد واجب أهل (العلم والدعوة).. تجاه مبدأ الخلاف وممارسته في سياق قيمي.. وهما هنا محط قضايا الخلاف ونموذج أمثلته ووجوده.. حيث يرى "أن يكون مصدر لجاجة أو غضب.

إن من شأن المجتهدين أن تلفوا ونتائج هذا الخلاف مقبولة من غير تشنج وتعصب". ويعبر الخطاب بصياغاته لدى "ابن حميد" فحوى السماحة والتعددية وقبول الآخر.. عبر أدبيات صياغة محددة.. وأساليب إقناعية تحاور العقل.. وتستشهد بالفعل.. والممارسة.. وتتكئ على القاعدة الدينية مصداقاً لأهدافها.

بعد أن يقسم الخلاف.. ويعرف أنواعه وأمثلة وقوعه ثم أمثلة واقعية نظرياً وتطبيقياً.. في الممارسة النبوية للدعوة والتعليم والسلوك والعبادة.. من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفية تعاطيه مع المخالفين.. في عهده عليه الصلاة والسلام.. وكيف كان يؤصل في سلوكه.. مبادئ سعة قاعدة الاجتهاد.. ورضاه بالتعددية في التعبير.. والسلوك الحركي في العبادة..

فيما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم.. في العهد الأول من قضايا خلافية.. وتراكماتها النفسية.. وأبعادها التاريخية.. ونتائجها الحربية.. مستخلصاً منها.. بقاء ضوء التوجيه النبوي.. وتسامي نفوس المتخالفين.. في الإقرار بحق (للآخر) المختلف معه.. مؤكداً أن اختلاف المسلمين.. في بعض تفاصيل التعامل في القضايا الفقهية لشرعية تصب في غاياتها البعيدة.. في المقصد الإسلامي للتشريع.. دون خروج عن جوهر الدين وقواعده.. وأدبيات الحوار وأساليبه.

** ثم يقدم نماذج لبعض القضايا الفقهية المختلف فيها بين الصحابة وكيفية تعاطيهم للرأي المخالف.. واحترام مكانته الإنسانية.. وحق في الكرامة التي حددها الإسلام له..

ثم يتتبع تسلسل هذه النماذج المضيئة.. في ممارستها الخلافية.. وأدبيات الحوار العقلاني.. النابذ للهوى.. وذو المساس الجوهري بقضايا الفقه.. بأئمة العصر التابعي ومن تلاهم ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وأحمد، كيف أن الخلاف بينهم..؟

لم ينجم عن هوى أو شهوة أو رغبة في الشقاق.. فقد كان أحدهم يبذل جهده.. وما في وسعه ولا هدف له؟ إلا إصابة الحق وإرضاء الله عز وجل..

** "ذلك فإن أهل العلم في سائر العصور، كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل فيصوبون.. ويستغفرون للمخطئ.. ويحسنون الظن بالجميع.. ويسلمون بقضاء القضاة على أي مذهب.. ولعمل القضاة بما ظهر لهم لو خالف مذهبهم من غير حرج أو تعصب".

ويتطرق في نهاية الكتاب إلى ما أسماه (الإفراط والتفريط) في مسائل قبول الصوت المخالف والحوار مع رأي آخر.. مؤكداً أن من صور التفريط المذموم الغلو في الإنكار على أهل المذاهب حتى يقوده ذلك إلى التفتيش والتنقيب في عبارات للمتقدمين يفهم منها قدح في بعض الأئمة فيحييها ويبثها فينشر العداوة والبغضاء، ومثل ذلك تتبع الزلات العلمية.. والشذوذات الفقهية وتجميعها.. وبثها في المجالس والمنتديات.. لتزعزع الثقة ليس بالمذهب.. ولكن بالدين كله وهذا عمل شائن وتصرف وبغي" ص43.

** ثم يقدم جملة ركائز أخلاقية.. لتعاطي الخلاف.. والحوار العلمي والوصول به إلى قيمته المبتغاة.. والوصول به إلى قيمته العلمية.. والتثبت بواسطته إلى الرأي الحق.. دون ما تنطع..! أو القطع بثبوته..! ودون المساس بذات المخالف، والمختلف معه قدحاً أو تجريحاً..! أو إسقاط على عقيدته أو كرامته الإنسانية..

** والممثل لمثل هذا التوجه.. شخصية بحجم وزخم "صالح بن حميد" تأخذ بعدها التواجدي.. من قيم علم وصلاح.. واجتهاد بالمعرفة.. ورؤية محللة.. وسماحة وثقة بقبول التعددية.. أو الرأي المخالف.. مما يجعل الموقف المغاير، مهما ادعى أمانة الدفاع عن الفضيلة.. والتهافت بحجة "حراستها" ضعيفاً وسقيماً.. ومعتلاً بأدوات خطابه المتشنج وإسقاطات ذاته الأحادية.. المتجهة صوب التكفير.. والأحكام القبلية الجاهزة وإلغاء الآخر وإقصائه، ليس من ساحة الحوار فقط..؟ وإنما من ساحة الوجود..!!

** وإنما يدعو إلى التساوي بصوت الاعتدال.. الموثق بجوهر الطرح العلمي.. والمسار الحر والنزيه.. في تحديد الإشكال وأسلوب المعالجة وعرض الآراء.. وتحديد الداء وكشف علله وآفته، وطرح خيارات الدواء..! وهو ما يمثله "صالح بن حميد" في رؤيته لأدب الخلاف.. وتحديده لأدبيات تعاطيه.. والاشتغال بمسائله وإشكالاته..! مما يؤسس في مشهدنا العام.. نموذجاً لحوار العلماء.. وأخلاقيات المحاورين.. وسمو رؤية الاختلاف، وتكوين المحاور النموذج..

و"ابن حميد" يمثل في ذلك شخصية إسلامية عامة.. وبنية علمية لقيمة العلم الشرعي والاجتهاد الفقهي.. ورأياً يتمثل وجوده القيمي.. في أطروحاته العلمية.. في قراءة.. وإضاءة قضايا شرعية وفقهية.. تشاكل الاجتماعي والثقافي.. بمفهومها الجدلي والعام.. مما يضيء قبساً في معالم مشهد.. يتعطش إلى أنقياء أتقياء.. مثل "ابن حميد" ولا نزكي على الله أحداً وهو حسبنا ونعم الوكيل..