الطريق إلى مكة

أحمد بهجت

في بداية حياته عمل مراسلاً للصحف الألمانية والأوروبية، وقضى سنوات يتجول بين أقطار الشرق الأوسط ويتأمل الإسلام والمسلمين ويفكر، ثم أصبح مسلماً سنة 1926م.

كان يومئذٍ في العشرينات من عمره بعد ذلك عاش ست سنوات في جزيرة العرب، ونعم بصداقة الملك عبد العزيز، يرحمه الله، ثم ترك الجزيرة العربية وذهب إلى الهند، حيث التقى هناك الشاعر والفيلسوف الإسلامي محمد إقبال. وكان هذا اللقاء نقطة تحول في مسيرته.

كان برنامجه يقتضي السفر إلى تركستان الشرقية والصين، ولكنه ألغى برنامجه بعد أن أقنعه محمد إقبال أن عليه في الهند مسؤولية تتصل بالحلم الإسلامي وإنشاء دولة باكستان المسلمة، كانت باكستان يومئذٍ مجرد حلم في مخيلة إقبال. وقد نجح في إقناع محمد أسد أن يجند كفاءته لتحقيق هذا الحلم.

وهكذا أوقف محمد أسد نفسه سنين طويلة على هذا المثل الأعلى، وقام بدراسات كثيرة، وكتب مقالات طويلة، وألقى محاضرات عديدة، حتى اشتهر مع الوقت كترجمان للثقافة الإسلامية والفقه الإسلامي، وعندما أنشئت باكستان سنة 1947م انشغل في دائرة إحياء الإسلام، وكان عمله هو انتقاء المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي يمكن أن تقوم عليها المؤسسة الحديثة للدولة.

بعد عامين من هذا النشاط انتقل إلى وزارة الخارجية الباكستانية، وعمل رئيساً لقسم الشرق الأوسط.. بعد ذلك وجد نفسه بين أعضاء وفد باكستان إلى الأمم المتحدة في نيويورك.

هل كان هذا مجرد تكيف لرجل أوربي مع بيئة عاش فيها سنوات؟

هذا سؤال يجيب عليه محمد أسد بالنفي.

لقد كان هذا في رأيه، دليلاً على انتقال واع من صميم القلب، من بيئة ثقافية إلى بيئة أخرى تختلف عنها تمام الاختلاف، لم يعد مجرد تكيف مع البيئة، كان انخلاعاً من البيئة الأوروبية بكل مغرياتها إلى البيئة الإسلامية بكل فضائلها وقيمها.

وقد حير السؤال كثيراً من أصدقائه في الغرب كانوا يتساءلون بين أنفسهم، كما كانوا أحياناً يسألونه: كيف يستبدل إنسان أوروبي تعاليم وقيم الإسلام بتراثه الثقافي العربي؟ وكيف يقبل أفكاراً دينية واجتماعية، كانت في اعتقادهم المطلق أقل بكثير من جميع المفاهيم والمعتقدات الأوروبية؟

كان محمد أسد يستمع إلى السؤال الذي كان يقال له بصراحة أو بمواربة. وكان يمتلئ بالدهشة أن أصدقاءه الأوروبيين لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة الإسلام دراسة واعية مباشرة. كانت آراؤهم تقوم على مجموعة من الشكليات والأفكار المشوهة التي انحدرت إليهم من الأجيال السابقة. إن أسلوب التفكير اليوناني الروماني القديم كان يقسم العالم إلى قسمين:

1- الرومانيون واليونانيون من جهة.

2- البرابرة من جهة أخرى.

هذه الفكرة التي تقسم العالم إلى متحضرين وبرابرة، وتقصر الحضارة على الغرب وتنظر إلى بقية العالم كبرابرة، هي التي تجعل الغربي يرفض القيم الإيجابية ما دامت تقع خارج مداره الثقافي الخاص.

ويلاحظ محمد أسد أن المفكرين والمؤرخين الأوروبيين منذ عهود اليونان والرومان، يميلون إلى رؤية تاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوروبي والتجارب الثقافية الغربية وحدها. أما الثقافات والمدنيات غير الغربية فلا يعرضون لها إلا من حيث تأثيرها على الإنسان الغربي.

وهكذا فإن تاريخ العالم وثقافاته المتعددة لا يعدو أن يكونا في نظر الغربي، امتداداً موسعاً للغرب. وطبيعي أن النظر من هذه الزاوية الضيقة لا بد أن يقود إلى نتائج خاطئة. أبسط هذه النتائج أن يتصور الأوروبي أن طريقة الحياة الغربية هي النموذج الصحيح الوحيد الذي يمكن أن يتخذ مقياساً للحكم على سائر طرق الحياة.

لذلك فإن كل مفهوم ثقافي يتعارض مع النموذج الغربي، إنما ينتمي حتماً إلى درجة من الوجود أدنى وأحط، ومن هنا يعتقد الغربي أن جميع المدنيات الأخرى (غير المدنية الغربية) لم تكن إلا تجارب متعثرة في طريق الرقي، وهو الطريق الذي قطعه الغرب بكثير من السداد والعصمة من الخطأ.

هذه الفكرة الغربية السائدة – إلا من بعض الاستثناءات – هي التي تحول بين تقبل الغربيين للثقافة الإسلامية.

إن الغربي يعتقد أن هناك كتاباً واحداً وقصة واحدة عن الرقي الإنساني، هو كاتب وقصة الحضارة الغربية.

أما محمد أسد، فقد رأى أنه ليس هناك كتاب واحد وقصة واحدة عن الرقي الإنساني، الأصح أن يقال أن هناك كتباً عديدة، وقصصاً عديدة، آخر فصول هذه الكتب وليس أفضلها بالضرورة هو الحضارة الغربية.

اصطدم محمد أسد وهو واحد من أبناء الحضارة الغربية بهذا التعصب الذي يلون نظرة الغربي بشكل عام ضد الحضارة الإسلامية، وقد عكف على تأمل هذا التعصب، فاكتشف أن تفكير الغربيين وشعورهم نحو الإسلام ينبعان من انفعالات وتأثيرات ولدت إبان الحروب الصليبية. إن هذه الحروب رغم ما يقرب من ألف سنة عليها ما زالت تلون نظرة الغربي حين ينظر إلى الإسلام.

بهذا الفهم العميق، وبعقل متحرر من التعصب والانحياز مضى محمد أسد في رحلاته في الشرق المسلم. كان صاحب قلب ذكي. كان يعرف أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وكان قادراً بقلبه هذا الذكي أن يستمع إلى نبض الحقيقة وأن يميز كلماتها الصامتة المطمئنة.

كان يقطع الصحراء حين دخل قرية من قراها، وجلس مع شيخ القرية يأكل التمر الذي قدمه له الشيخ ويستمع إلى أحواله. تحدث شيخ القرية عن الريح، قال: الريح.. الريح.. إنها تجعل حياتنا قاسية، ولكنها إرادة الله. إن الريح تهلك نخيلنا، وعلينا دائماً أن نناضل حتى لا تغطيه الرمال. لم تكن هذه حالنا دائماً، قديماً لم تكن الريح بهذه القوة، كانت القرية كبيرة وغنية، أما الآن فقد صغرت، إن كثيراً من شبابنا يهجروننا، والرمال تتقدم منا وتطبق علينا، ولكنا لا نشكو فكما تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن الله يقول ما معناه:لا تسبوا  الدهر.. لأني أنا الدهر.. يحدثنا محمد أسد (ولم يكن قد أسلم بعد) عن وقع هذا الكلام على نفسه يقول محمد أسد: كان يظهر على الشيخ هذا الرضى الفخور الصامت بمكانه في الحياة، ولم أر قط في حياتي، حتى لدى السعداء من الناس انصياعاً للحقيقة معبراً عنه بمثل هذا القدر من الهدوء والاطمئنان.. وكان بدوره عريضة غامضة من ذراعه، يشير لدائرة في الهواء، دائرة تضم كل شيء ينتمي لهذه الحياة. الغرفة الفقيرة الكريمة، والريح وزمجرتها المستمرة، تقدم الرمال تقدماً لا يرحم، الحنين إلى السعادة، والتسليم بما لا يمكن تبديله، القصعة الممتلئة بالتمر.. والنار في الموقد، وضحكة طفلة في مكان ما في الدار، في كل هذه الأشياء خيل إلي أنني أسمع غناء روح قوية لا تعرف حدوداً ولا حواجز. روح مطمئنة إلى نفسها. هذه الروح المسلمة لم أرها في الغرب حتى عند السعداء من الناس.

في إحدى رحلاته قبل إسلامه كان في القدس، وكان يراقب المسلمين حين يصطفون للصلاة. كانوا يقفون جميعاً في صف وراء الإمام، ثم ينحنون جميعاً في اتجاه مكة، ثم ينهضون ثانية ثم يسجدون حتى تلمس جباههم الأرض كانوا يتبعون كلمات إمامهم الخافتة، وكان يقف بين الركوع والسجود حافي القدمين على سجادته المعدة للصلاة، مغمض العينين، مكتوف الذراعين فوق صدره، محركاً شفتيه دون صوت، ومركزاً في استغراق عميق.

يقول محمد أسد: "لقد كان في استطاعتك أن ترى أنه كان يصلي بروحه كلها. وقد أزعجني في البداية أن أرى مثل هذه الصلاة العميقة مقرونة بحركات جسمانية آلية. فسألت الشيخ ذات يوم، وكان يفهم الإنجليزية قليلاً: هل تعتقد أن الله ينتظر منك أن تظهر له احترامك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه ويصلي لله في قلبه؟ لماذا حركات الجسم هذه كلها؟!"

لم يكن يريد ولا كان يقصد جرح مشاعر الشيخ، ولكنه فوجئ أن الشيخ يبتسم ويقول له:

"بأي طريقة أخرى إذن يجب أن نعبد الله؟ لو أن الله خلقنا بأرواحنا وحدها لصلينا بأرواحنا وحدها، ولكنه خلقنا بأجسامنا وأرواحنا ولهذا نصلي بأرواحنا وأجسامنا.

سأقول لك لماذا نصلي نحن المسلمين كما نصلي. إننا نولي وجوهنا نحو الكعبة، بيت الله الحرام في مكة، مدركين أن المسلمين جميعاً يتجهون نفس الاتجاه، نحن جسم واحد والله هو محور تفكيرنا جميعاً. بعد أن نفتتح الصلاة نقرأ شيئاً من القرآن الكريم ذاكرين أنه كلمة الله أنزلها على الإنسان ليكون مستقيماً رضياً في الحياة، ثم نقول الله أكبر. لنذكر أنفسنا أنه ما من أحد يستحق أن يعبد سواه، ونركع لأننا نعتبره فوق كل شيء، وفي الركوع نسبح بعزته ومجده، بعد ذلك نسجد على جباهنا لشعورنا أمام الله أننا قبضة من التراب والعدم، وأنه هو الذي خلقنا وهو ربنا الأعلى، ثم نرفع وجوهنا عن الأرض ونبقى جالسين داعين الله أن يغفر ذنوبنا وأن يتغمدنا برحمته ويهدينا الصراط المستقيم ويهبنا العافية والرزق، ثم نسجد بعد ذلك نستوي جالسين وندعو الله أن يصلي على النبي الذي أبلغنا رسالته، كما صلى على الأنبياء من قبله. وأن يباركنا أيضاً وجميع من يبتغون سواء السبيل، ثم نسأله أن يهب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وفي النهاية ندير رؤوسنا إلى اليمين وإلى الشمال قائلين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبذلك نحيي الصالحين أينما كانوا وحيثما كانوا. هكذا كان النبي يصلي، وهكذا علم أتباعه الصلاة. إن المسلم يسلم نفسه في الصلاة طائعاً مختاراً ويطمئن إلى مصيره.

يقول محمد أسد في مذكراته تعليقاً على ما قاله الشيخ: أدركت بعد ذلك بسنوات أن هذا التفسير البسيط قد فتح لي أول باب للدخول في دين الإسلام. إن جوهر الإسلام هو الطمأنينة لله وللمصير الإنساني معاً.

زار محمد أسد القاهرة أيضاً سنة 1923م، أي قبل إسلامه بسنوات قليلة، واستمع إلى أذان الصلاة الذي كان يرفع من المآذن خمس مرات في اليوم.

ورأى في الأذان وحدة صوتية جعلته يدرك مقدار الوحدة الروحية لدى جميع المسلمين، كما أدرك عمقها أيضاً.

لقد كانوا واحداً في اعتقادهم وواحداً في طريقة تفكيرهم وتمييزهم بين الحق والباطل.. وواحداً في فهمهم حقيقة الحياة الخيرة الطيبة.

ولقد خيل إليه في القاهرة أنه قد صادف لأول مرة مجتمعاً لا تنبع فيه صلة الإنسان بالإنسان من المصالح الاقتصادية أو العنصرية، وإنما تنبع من شيء أكثر استقراراً وأعمق. هذا الشيء هو الفهم المشترك للحياة. وهو فهم أزال كل حواجز العزلة والانفراد بين الإنسان والإنسان.

لقد استطاع محمد أسد أن يلحظ الاستقرار الروحي في حياة المسلمين كما نجح أن يستشعر أمنهم الروحي، وقاده هذا إلى إدراك تميزهم ورقيهم. لاحظ هذا كله من رحلاته التي كانت في نهاية الأمر جهاداً لمعرفة الحقيقة.

ولما كان الله يكافئ الذين يجاهدون في سبيله فقد كافأ محمد أسد بهدايته إلى الإسلام. وهكذا دخل الرجل في الدين الجديد، ولم يلبث أن صار بمشيئة الله وحده نجماً من ألمع نجومه.

مجلة القافلة - جمادى الأولى 1413