ولادات متعسرة

بدر محمد بدر

[email protected]

الكتاب: ولادات متعسرة

المؤلف والمترجم: عصام الخفاجي

الناشر: المركز القومي للترجمة، القاهرة

عدد الصفحات: 736

الطبعة: الأولى 2013 

يسعى كتاب "ولادات متعسرة.. العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق"، إلى تقديم تفسير مختلف عن التفسيرات القائمة لتشكيل العالم الثالث المعاصر، حتى وصل إلى الصورة التي عليها الآن، من خلال رفض تصوير التغيرات الاجتماعية أو تصنيفها، ضمن "ثنائية" تقوم على تفسيرها باعتبارها ناتجة إما عن تأثيرات "داخلية محلية" أو "خارجية دولية"، تتعلق بعلاقتها بأوروبا.

أي أن أوروبا في أوائل انتقالها إلى الحداثة، مثلها مثل العالم الثالث، لم تتطور في عزلة عن الخارج، ولكن ما حدد حصيلة التفاعل مع الخارج، هو طبيعة العلاقات الاجتماعية التي سادت هذه المجتمعات، وكان هذا التفاعل ينطوى على "تصادم" كتلتين أو أكثر من أصحاب المصالح.

ومؤلف ومترجم الكتاب هو د. عصام الخفاجي مفكر عراقي وأستاذ في عدة جامعات أوروبية وأميركية، متخصص في الاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية، وعمل مستشارا للبنك الدولي في واشنطن، وكبير خبراء الأمم المتحدة الإغاثي في سوريا، وله عشرات الكتب والأبحاث والمقالات بالعربية والإنجليزية والفرنسية.

ما قبل الرأسمالية

والكتاب مكون من تسعة فصول، يتناول الفصل الأول مرحلة "ما قبل الرأسمالية" في عدد من دول المشرق العربي، منها: مصر وسوريا والعراق ولبنان، في الفترة من منتصف القرن التاسع عشر، وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، وهي ما يمكن تسميته بمرحلة "صعود أرستقراطية كبار ملاك الأراضي" إلى السلطة، وتأثيرها الكبير على نشوء النظام الاجتماعي وقتها.

ويناقش المؤلف بالتفصيل طبيعة النظم الزراعية التي كانت مطبقة في تلك الدول، والتي شكلت القطاع الإنتاجي الأكثر أهمية في اقتصاديات المنطقة، باعتبارها توفر نحو ربع الدخل القومي لهذه البلدان.

ويرى أن العلاقات الاجتماعية في المجال الزارعي حددت أداء ووظائف المجتمع كله، وهو ما ينفي بوضوح وصف الرأسمالية عن مجتمعات المشرق في تلك الفترة.

لقد هيمن كبار ملاك الأرضي الزارعية على الحياة الاقتصادية لبلدان المشرق، وفي غياب مصادر الدخل المستقلة للحكومات، لعب كبار الملاك دورا شديد الأهمية في تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع.

وعلى سبيل المثال فإن برلمانات ما قبل يوليو/تموز 1952م كان كبار ملاك الأراضي يحوزون ما بين 37,5: 53,8% من أعضائها، وفي تشكيل الحكومات وصلت نسبتهم في بعض الفترات إلى 100% من الوزراء.

ويناقش الفصل الثاني الأزمات التي واجهتها دول المشرق في رحلة ما قبل الرأسمالية، ويشير إلى أنه بالرغم من أن تعزيز العلاقات قبل الرأسمالية، حقق فرصا لتحقيق ثروات هائلة لطبقة ملاك الأراضي، وجاء فتح الأسواق الداخلية والخارجية ليضاعف من هذه الفرص، إلا أن أزمات تلك النظم برزت على السطح، وكان من بينها تدفق المهاجرين من الريف إلى المدن الرئيسة، وهذا التدفق لعب دورا حاسما في إحداث التغيرات الاجتماعية الجذرية، التي عرفتها المنطقة طوال نصف القرن الأخير.

ويمكن القول بأن الغالبية العظمى من سكان المشرق كانت لاتزال ملتصقة بالأرض بشكل جماعي، ولذا فإن نشوء أشكال ملكية واستغلال رأسماليين، كانت أمرا لا يمكن تخيله, ولم تعرف أرياف المشرق ثورات فلاحية عنيفة على نطاق واسع، عكس روسيا والصين قبل ثورتيهما.

ثورات فلاحية

ويشير المؤلف في الفصل الثالث إلى أن المشرق لم يكن ناضجا بعد لحدوث ثورات فلاحية شاملة, لكن من المؤكد أن الانتفاضات الجزئية العنيفة والمتكررة، في المدن بوجه خاص، هزت أسس النظم السياسية ومشروعيتها الاقتصادية والاجتماعية القائمة.

وبعد استعراض توزيعات السكان في كل من مصر وسوريا والعراق, والتي تشير إلى أن نسبة التحضر في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين, كانت تقارب مثيلتها في أوروبا في عام 1890م, ولكن فيما وصلت أوروبا إلى هذا المستوى، حين غدت الصناعة تمثل ما بين 20 و25% من ناتجها المحلي الإجمالي, كان المشرق أبعد ما يكون عن ذلك.

والسبب في نظر المؤلف أن التركيب الاجتماعي لتشكيلة "ما قبل الرأسمالية" أغلقت بناها الاجتماعية أو الطبقية الداخلية سبل العبور إلى الرأسمالية, ولا شك في أن القوى الاستعمارية, ومن ثم المراكز الرأسمالية المتقدمة، لعبت دورا شديد الأهمية في إحباط عمليات التصنيع، عبر إصرارها على فتح الأسواق المحلية، وهو ما جعل الصناعات المحلية الناشئة تحت رحمة المنافسة الشرسة، مع السلع الأرخص ثمنا والأفضل نوعية، التي أنتجتها تلك المراكز.

وفي الفصل الرابع يشير المؤلف إلى أن نقاط الانعطاف في تاريخ المجتمعات الأوربية، وكذلك الشرقية، شهدت أعمالا جماعية من جانب أعضاء في جماعات كانت تعتبر نفسها منتمية إلى عوالم مختلفة كليا قبل ذلك.

ويمكن القول بأن الشروط الاجتماعية هي التي كانت تملي قواعد التغيير وحدوده، حتى لو حاولت "الطليعة" إقامة شئ آخر، وهذا هو الدرس المستخلص من المصير المأساوي للثورة البلشفية، التي لم يكن بوسعها المضي أبعد من حدودها الزمنية، أو سياق تطور المجتمع، برغم الأحلام الطموحة للحزب الشيوعي وقتئذ.

ولم تكن التغيرات التحويلية لمجتمعات الشرق استثناء من ذلك، إذ أن أحلام الثوريين وأوهامهم، والطرق التي تقاطعت فيها تلك الأوهام مع معاناة الناس العاديين، ثم الانهيار التام لمخططات التحديث الكبرى والأزمات المتعددة التي نجمت عن ذلك، اصطدمت بالشروط الاجتماعية.

ويستعرض الفصل الخامس دور الجماعة والسلطة والهوية وعلاقاتها ببعضها البعض، لينتهي إلى القول بأن ثمة مشروعية وضرورة لرفض النظر للدولة بوصفها مجرد انعكاس لمصالح طبقة حاكمة، باعتبار أن هذه الطبقة الحاكمة قد لا تتشارك في الواقع في نظرتها إلى العالم، ولا في معظم المصالح الأخرى، لأنها لا تعيش في فراغ بل تعتمد في تحقيق مصالحها على وجود فاعلين آخرين كثر في المجتمع.

وحتى تحافظ الدولة على قابليتها للحياة فإن عليها أن تنظم النزاعات الاجتماعية، بطريقة تعكس علاقات القوى السائدة بين الطبقات، وفي داخل تلك الطبقات وبين الأجنحة المختلفة لها.

الهجرات الداخلية

ويتحدث الفصل السادس عن الهجرات الداخلية من الريف إلى المدن في دول المشرق بحثا عن الرزق، وهو ما أدى إلى ظهور قادة جدد، يبحثون عن قواعد يعتمدون عليها في الحصول على مكاسب.

لقد كانت خلفية القادة الثوريين، القادمين من مناطق فقيرة أو المعتنقين لمذاهب مقهورة، كانت في صلب نظرتهم إلى الانقسامات الطبقية في مجتمعاتهم، وإلى الحلول التي تبنوا لتحقيق انسجامها، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وبالتالي ما إن أنجزت الثورات الأهداف، التي رحب بها معظم السكان، حتى ظهرت التشققات في صفوف الثوريين بادية للعيان، وهو أمر مرت به معظم، إن لم يكن كل، الثوارت، وهو ما يظهر ضعف القاسم المشترك بين هؤلاء القادة.

وفي الفصل السابع يشير المؤلف إلى أن هذه الثورات انتهت بأن احتكرها قادة، لم يعودوا يثقون إلا بأقربائهم أو أصدقائهم الشخصيين لكي يسندوا لهم المراكز العليا، لأن الروابط الإيديولوجية ليست كافية لصياغة وتطبيق سياسات عملية مملوسة، تتسم بالتفصيل والتناغم.

ولم يكن صراع القوى في المراكز العليا هو ما جعل هذا المآل ممكنا، بل إنه تشظي مجتمعات الشرق، وتزايد قدرة الدولة على لعب الدور المسيطر على الاقتصاد، فضلا عن جملة من العوامل الأخرى.

ويحلل الفصل الثامن طبيعة العلاقة بين السلطة والثروة في مشرق ما بعد الثورات، لينتهي بالتأكيد على أن الدولة والطبقة ليستا مقولتين متوازيتين، بل كليهما يمر بتغيرات في فترات التحول، ولا يمكن التكهن بنتائجها باستخدام تأكيدات تبسيطية، تتناول أحلام ونوايا القادة السياسين.

وفي الفصل التاسع والأخير يؤكد المؤلف أن العمليات المتشابهة التي مر بها المشرق وأجزاء من أوروبا، عبر لحظات تاريخية محددة من تطور المنطقتين، قادت إلى قيام بني اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابهة، وأيضا قادت أزمات وصراعات متشابهة إلى إنتاج عمليات اجتماعية وثقافية واقتصادية متشابهة.

وهذا يشكك في المزاعم التي تقول بأن أوروبا الاستعمارية غيرت مجرى تطور العالم الثالث جذريا، مما جعل العبور الأوروبي إلى الرأسمالية حالة فريدة من نوعها، وأن تشجيع قيام الرأسمالية في العالم الثالث، ومنه المشرق، إما مشروع محكوم عليه بالفشل المسبق، أو أنه غير ممكن الحدوث من دون توافر عوامل "خارجية"، هي بالتحديد السياسات الغربية الهادفة إلى تحقيقه.

وفي النهاية يمكن القول بأن الثورات لا تبني طبقات أو فئات جديدة، بل تقنن تحولات مجتمعية، كانت تشق طريقها في ظل النظم السابقة، وتعيد صياغة العلاقات بين فئات كثيرة في المجتمع.