أيام الرشيد ولياليه !

تأليف : فهد ناصر الجديد

إذا كان أبو الفرج الأصبهاني وأمثاله قد أساؤوا فيما أوردوه من حكايات عن بعض الخلفاء ومجالسهم، فإن من أتوا بعدهم قد اعتمدوا هذه الأخبار دون تمحيص، وأقاموا عليها بناءً فنياً، فكرروا الإساءة من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وإذا كانت كتابة الرواية التاريخية ليست تاريخاً صرفاً، ولا يُطلب من الكاتب فيها أن يكون مؤرخاً، فليس معنى ذلك أن ينقل الحادثة إلى عكسها، والشخصية إلى نقيضها! فإن فعل ذلك، فيكون قد تلاعب بالتاريخ ولاسيما إذا كان هذا التاريخ معروفاً بأحداثه ومشهوراً بشخصياته، وهذا ما فعله جرجي زيدان فيما يُسمى روايات تاريخ الإسلام، من تشويه لصورة الرشيد وأهل بيته.

وإذا كان قد أُتيح للتاريخ (أحداثاً ووقائع) من يُصحح كثيراً من هذه الأغاليط، فظهرت مؤلفات تدافع عن الرشيد وعصره، فقد ظل الفن الروائي ينتظر من يكشف الحقائق ويرد الشبهات بعمل أدبي، لأن الكثيرين ممن تأثروا بهذه الشبهات قرؤوها في قصص وروايات ولم يقرؤوها في كتب التاريخ، ولعل هذه الرواية التي نعرضها قد فعلت شيئاً في تقديمها لسيرة هارون الرشيد بأسلوب شيق يسطر تلك الأيام والليالي العظيمة لشخصية عظيمة معتمدة أدق المصادر التاريخية والأدبية وأصحها: خليفة ملتزماً بآداب الإسلام مجاهداً حاجاً غازياً.

إذ تبدأ الرواية من ترشيح العلماء ورجالات الدولة للشاب هارون قائداً للجيش في مواجهة الروم، وتصوره عارفاً بحقيقة الجهاد، ومتطلبات المعركة، وتصف الجيش المسلم وإمكاناته وتكامله المادي والمعنوي، ثم تصف حياته بعد استلامه الخلافة، فهو يستنير برأي العلماء، ويأخذ بنصائحهم، إذ يضعون له المناهج للسير عليها كما فعل أبو يوسف في كتاب (الخراج). وهو يبحث عن الناصحين الصالحين، كالفضيل بن عياض، ويتأثر بما يقولون. ويتقبل العزاء فيهم كما فعل في ابن المبارك.

وتصور الرواية انتقاله من بغداد إلى الرقة لقربها من مواقع الجهاد، وبناءه مراكز للمجاهدين، وإيفاد العلماء إليهم، وهو يحرص على معرفة أحوال الناس، ولاسيما في بلاد الحرمين ويتواضع في حجه، ويجتمع بالوفود ليتعرف على أحوال الرعية.

وأما في حياته الخاصة فقد قدمت الرواية صورة قلَّما سمع الناس بها، فهو يحاسب نفسه، ويفرض عليها بعض العزلة، خشية أن يكون قد انساق وراء الدنيا، أو أكثر من المباح. كما تصوره وهو يجد راحته في الصلاة، فيصلي مائة ركعة كل يوم! ويستمع إلى الشعراء وينادمهم، ولا يسمح أن يُنشَدَ في مجلسه ما يغضب الله، ويتنافى مع أخلاقيات الدين الحنيف، كما كان يفعل مع أبي نواس (علماً بأن لقاء أبي نواس بالرشيد رواية مردودة عند بعض المؤرخين)، وهو يتحرج من الإنفاق والبذخ، كما أنه يراوح بين الحج والغزو، فيواجه الروم بعزة المسلم، ويقمع الفتن ويتابع الجانحين، وقد لخص أحد الشعراء ذلك بقوله:

وقد عرجت الرواية على دور البرامكة، ونكبتهم بعد أن نالوا ثقة الرشيد، إذ قاموا بتقريب من يثقون به، وإبعاد المقربين من الخليفة ولو كانوا أقرباءه، وإطلاق سراح من أمر الخليفة بحبسه، مع تشفع بالزنادقة، ومراسلة المناوئين للخلافة! فالقضية لم تكن بسبب علاقة ما بين العباسة أخت هارون وجعفر البرمكي كما حلا لبعضهم أن يصورها!! كما أبرزت الرواية دور المرأة المسلمة وثقافتها في ذلك العصر، من خلال الخيزران أم الرشيد، وزبيدة امرأته فهي متزنة عاقلة تقدر الأمور بقدرها وتعطي رأيها فيها.

وقد ختم الكاتب روايته بتصوير الساعات الأخيرة من حياة الرشيد ووفاته في (طوس)، وهو متوجه لقمع فتنة في خراسان!

لقد أحاط الكاتب بالأحداث وفسرها تفسيراً صحيحاً مستمداً من تصور سليم للحياة الإسلامية، آخذاً بعين الاعتبار الضعف البشري الذي يعتري النفوس في حالاتها المختلفة، وقد جمعت الرواية بين السرد والحوار، وقد يتحول السرد أحياناً إلى سرد تاريخي فتأتي المعلومة فيه مجرد خبر من الأخبار.

وأما الحوار فقد ورد مرة بالصيغة التراثية وأخرى يقيمه الكاتب على فكرة أو حدث باللغة المعاصرة للتخفيف من رتابة السرد.. كما استخدم الحلم في البناء الروائي أكثر من مرة للدلالة على المستقبل والتمهيد له، وكان للشبان دور متميز من خلال الشخصيات الثانوية التي اخترع المؤلف بعضها اختراعاً.

والرواية – إجمالاً- سطرت حقائق التاريخ، ومسحت صفحات تعمد المغرضون تشويهها، بالافتراء على شخصية من أعظم شخصيات تاريخنا الإسلامي في العصر العباسي: خليفة تربع على عرش أكبر دولة في المعمورة في ذلك الحين.

وقد جاءت الرواية في (131) صفحة من القطع المتوسط

وسوم: العدد 774