رحلة عقل في دروب الفكر والأدب

تأليف : محمد يوسف عدس

عرضنا فيما سبق من فصول هذا الكتاب الممتع تحت عنوان (الفلكلور في أولاد حارتنا) واليوم نعرض قراءة الأستاذ الكبير محمد يوسف عدس للواقع الثقافي المصري من كتابه موضوع العرض دون كلمة واحدة قمنا بإضافتها أو حذفها. إنها كلمات الكاتب ورؤيته بصرف النظر عن رؤيتنا التي قد تؤيد أو تعارض بعض أو كل ما جاء فيها مع الاحتفاظ للكاتب الكبير بمكانته العظيمة في قلبي وعقلى ولا أراني إلا واقفاً عند سفح هرمه يقول الأستاذ الكبير عن الواقع الثقافي المصري.

(( فى مصر يتم تزييف التاريخ – بدم بارد – فى كل مرة يعتلى فيها عرش السلطة حاكم؛ إذ يصبح العهد السابق عهداً بائداً لا ينبغى أن يعرف الشعب عنه شيئاً؛ إلا كل نقيصة ومذمة.. وما دمت تزيف التاريخ – وهذه جريمة كبرى – فأنت تزيف الحقائق وهذه جريمة ثانية؛ يتولد منها تلقائياً جريمة ثالثة أشد غلظة وأبعد أثرا، ألا وهى جريمة تزييف الوعى وتضليل الأجيال.

ومن تجليات هذه الجريمة حرق المكتب وحبس الوثائق أو فرمها، وإشاعة وقائع مناقضة عبر اجهزة الإعلام إمعاناً فى الضليل.. أما فى هذا الزمن فنحن نشهد جريمة رابعة – مضافة – ألا وهي تزييف العقيدة؛ متمثلة فى الجرأة على الله ورسوله.. وعلى الأحكام الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة..

ولكن ليس هذا موضوعنا.. ربما تكون مقدمة ضرورية لكي نعي حقيقة أننا يمكن أن نعيش فى وهم أعواماً طويلة حتى يأتى من يكشف لنا الحقيقة ويرفع عن أعيننا الغطاء..

لقد جذبنى أدب نجيب محفوظ فى وقت مبكر جداً وتابعته – مستمتعاً – بقراءة كل ما نشر له حتى روايته "أولاد حارتنا" التى نشرتها صحيفة الأهرام فى حلقات سنة 1959/ 1960، ثم توقفت عن النشر لاعتراض الأزهر عليها، ولما أحاط بها من لغط شديد واتهام مؤلفها بالزندقة.

لقد كنت أشعر أن نجيب محفوظ بهذه الرواية كان يقتحم دروباً محظورة فى عقائد مقدسة عند الناس باستهانة غير معهودة فيه.. كانت – رغم الأسلوب الرمزي وعدم التصريح بالأسماء – تشف لى عن توجه خاطئ وتورط فيما كان لا ينبغى له أن يتورط فيه.. ولعل نجيب محفوظ قد أدرك خطأه فتعهد ألا تنشر هذه الرواية أبداً إلا بإذن من الأزهر، وقد التزم بهذا الوعد حتى آخر حياته.. ولقد سرقت الرواية من قبل ناشرين لبنانيين اعتادوا على سرقة حقوق المؤلفين، ثم تم تهريبها داخل مصر وبيعت سراً بأسعار خيالية.. أكاد أجزم بأن نجيب محفوظ كان صادقاً فى موقفه من الرواية وفى رغبته أن يطوي صفحتها من حياته وإليك مسوغات هذا الاعتقاد:

أولاً – لقد تمت عدة محاولات لنشر الرواية؛ فبعد فوزه بجائزة نوبل سنة 1989م أعلنت صحيفة المساء الحكومية إعادة نشر الرواية مسلسلة.. ولكن بعد أن نشرت الحلقة الأولى اعترض محفوظ عليها فتم ايقاف النشر.. ثم جرت محاولات أخرى ستاراً للترويج للرواية.. فتنافست عدة صحف على نشرها منها "الاهالي".. لكن نجيب محفوظ ظل على موقفه من معارضة النشر.. إلا أن "الأهالى" وهي صحيفه شيوعية لا يهمها الجانب الأدبي من الرواية بقدر ما يهمها الترويج لعمل أصبح رمزاً للتجديف على الإسلام.. لم تحترم إرادة نجيب محفوظ ونشرتها كاملة فى عدد خاص يوم الأحد 30 أكتوبر 1994.. وقيل أنها تحدى التيارات الإسلامية والفكر الإسلامي، ولكنها أيضاً حرباً مغموسة بالمصالح التجارية والكسب غير المشروع تم فيها التلاعب بالرواية وبصاحبها على السواء..

ثانياً- فى غضون تلك الفترة بعث نجيب محفوظ بكلمة إلى ندوة أقامتها الأهرام تحت عنوان "نحو مشروع حضارة عربي" قال فيها بالنص: "إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام، وعلى العلم كلاهما.." وشرح رأية بالتفاصيل فى مناسبة أخرى حضرها بعض المثقفين الشهود.. أذكر منهم الإعلامي المخضرم أحمد فراج صاحب البرنامج الدينية الشهرية.. قال نجيب محفوظ:

"إن أهل مصر الذين أدركناهم.. وعشنا معهم.. والذين تحدثت عنهم في كتاباتى كانوا  يعيشون بالإسلام.. ويمارسون قيمه العليا.. دون ضجيج ولا كلام كثير..وكانت أصالتهم تعنى هذا كله.. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس.. هي تعبير أهل مصر الواضح إسلامهم.. ولكني في كلمتى إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم.. لأن أي شعب يأخذ بالعلم ولا يدير أموره علي أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب.. إن كتاباتي كلها؛ القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا.. والعلم الذى هو (أداة) التقديم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.

ثالثاً- صحيح أن نجيب محفوظ فى الفترة من حياته الدراسية كان متأثراً بالأفكار الماركسية عن العدالة الإجتماعية والاشتراكية ولكن كثيراً من المفكرين الذين مروا بهذه المرحلة تجاوزوها وأصبحوا من المفكرين الإسلاميين المرموقين تذكر منهم: المستشار طارق البشرى ومحمد عمارة ومصطفى محمود.. بل إن على عزت بيجوفيتش فيلسوف الإسلام فى القرن العشرين يعترف بلوثة ماركسية أصابته فى سنوات مراهقته، سرعان ما انقشعت.

أنا لا أزعم أن نجيب محفوظ تحول إلى مفكر إسلامي.. وإنها فقط أحاول إنصاف الرجال من تهمة لصقت به نتيجة خطأ استهان به فى البداية ثم أفاق إلى نفسه.. واستغله المتعصبون من الجانبين: الإسلامي والعلماني عل السواء؛ ليبقى سيف "أولاد حارتنا" معلقاً فوق رقبته رغم إرادته.. وخصوصاً أن الجانب العلماني حرص على أن يحاصره ويفرض عليه صورة العلمانى الذى لم يغادر حظيرتهم؛ فقد تسلط عليه محمد سلماوى، فى آخر حياته وهو يعانى المرض والعجز عن الاتصال بالعالم الخارجي؛ خصوصاً بعد تدهور شديد فى سمعه وبصره، وعدم قدرته على الامساك بالقلم، فاستنطقه كلاماً لم يقله، ونقله إلى عموده الصغير فى الأهرام حتى يبقى على صورته التى صنعوها له فى أذهان الجماهير..

من المصادافات الهمة أننى التقيت بالأستاذ جمال النهري إبن أخت نجيب محفوظ، فى بيت قريب لى وصديق له فى نفس الوقت.. فسنحت لي الفرصة أن أناقش معه شكوكى حول "أولاد حارتنا" وأموراً أخري عن موقف خاله، وقد استطعت أن أعرف منه حقائق كثيرة عن حياته، كما حصلت على نص كلمته التى ألقيت بالنيابة عنه فى حفل تسليم جائزة نوبل بالسويد، وكانت قبل نشرها على شبكة الإنترنت سراً غطى عليها الإعلام المصرى، فلم ينشر منها إلا تمجد الحضارة الفرعونية..

قدم إلينا جمال النهرى على أنه طبيب وكاتب ومفكر إسلامي وأحد قيادات الإخوان المسلمين الذين استضافتهم سجون مصر أكثر من مرة فى عهد عبد الناصر.. عرفت منه كيف تحايل على زيارة سيد قطب فى مستشفى السجن سنة 1954م برشوة حارسه.. وقد استغربت أن اسمع منه أن سيد قطب ذكر نجيب محفوظ بخير إذ قال جمال النهري وهو لا يعرف أنه ابن أخته: لو قدر لك أن تخرج سترى نجيب محفوظ أعظم أديب فى مصر وربما فى العالم"، ونصحه بلقائه والتعرف عليه وحدثه عن عبقرية نجيب محفوظ فى وقت مبكر جداً خلال الأربعينات من القرن العشرين، عندما بدأ يكتب قصصه فلم يلتفت إليه أحد من النقاد سوى سيد قطب وكان أحد أبرز نقاد الأدب فى مصر.

عنى سيد قطب بقراءة قصصه وكتب عنها وتنبأ له بمستقبل أدبي باهر، وكانت سعادة نجيب محفوظ بهذه الشهادة فوق الوصف؛ فقد انطلقت شهرته وشاعت على كل لسان بعد هذه الشهادة التى كتبت بقلم أديب متميز كان يكتب بأفصح بيان وأجمله عن موضوعين لدى المثقفين فى ذلك الوقت: العدالة الاجتماعية، والتصوير الفنى فى القران.. وكان مبدعاً ومقروءاً على أوسع نطاق من أنصار العدالة الاجتماعية والإسلاميين على السواء..

رابعاً- عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب لسنة 1989م ورد فى قرار اللجنة إشارة إلى روايته "أولاد حارتنا".. مما تسبب فى أثارة ردود أفعال سلبية فى العالم العربي.. واعتبر البعض أن سر فوز نجيب محفوظ هو هذه الرواية الموصومة بالمروق.

ولكن أعمال الرجال الأخرى – وهي غزيرة ومبدعة – تؤهله لجائزة نوبل.. بل أجرؤ على القول بأنه كان أحق بالجائزة من كثير ممن حصلوا عليها من أدباء العالم الثالث والمتقدم على السواء.. بعضهم – فى اعتقادي – يعتبرون أقزاماً بالنسبة لنجيب محفوظ.. فلما كثر الجدل وبولغ فى تقييم أثر هذه الرواية كسبب فى الجائزة.. كان على نجيب محفوظ أن يختار بين أمرين: رفض الجائزة من الأساس.. وهذه لن يعفيه – على كل حال – من التهمة التى لصقت به، فالرواية لا  تزال موجودة رغم أنه أصدر بشأنها قراراً سابقاً والتزم به حتى آخر حياته، وهو ألا يعيد نشرها أبداً إلا بإذن من الأزهر.

أما الاختيار الثانى آثره نجيب محفوظ فهو ألا يظهر اهتماماً عملياً بالجائزة فلا يسافر ولا يحضر احتفال مؤسسة نوبل عند تسلم الجائزة.. فبعث من ينوب عنه هناك.. ولكن الأهم أنه ضمن كلمته عبارات قوية وجريئة عن أكبر القضايا المؤرقة فى العالم العربي  وهي القضية الفلسطينية.. وأبراز الانتهاكات والظالم التى وقعت على الشعب الفلسطيني من جراء العنف الإسرائيلي.. وندد بسكوت الغرب على هذه الانتهاكات..

لقد أراد محفوظ أن يواجه  الغرب فى عقر داره وفى أكبر مؤسساته الداعية إلى السلام فى العالم.. ويضعهم أمام المرآة ليروا حقيقة موقفهم المخزي ويحسهم على تصحيحه وإعادة الحقوق المهدرة إلى أهلها.. ولكن الغريب فى الأمر أن الإعلام المصرى هلل للجوانب السطحية فى الموضوع.. وعلل  عدم سفر الرجل لاستلام الجائزة، بعشقه الشديد لمصر وأنه يؤثر البقاء على أرضها فلا يفارقها لحظة من حياته.. وهو تهريج إعلامي لا يصدقه العقلاء..

هذه الإعلام – كعادته – أخفى الحقيقة عن أعين الجماهير.. بل تعمد تشويهها عندما نشر فقرات منها تمجد الحضارة الفرعونية باعتبارها حضارة وثنية على خلاف رؤية نجيب محفوظ.. لذلك لم تنشر الكلمة  كاملة أبداً)) .

وإلى المقال القادم بإذن الله.

وسوم: العدد 669