حين حلف الحرامي!

في واقعٍ غرائبيٍ عجيب يستدعي من الذاكرة البعيدة مسرحية ألفريد جاري العبثية “أوبو ملكاً”، واقعٍ تحار فيه ويرهقك في محاولة فهمه بقدر ما يؤلمك في مجمله وشتى تفاصيله الناضحة، عنفاً وقسوةً ودماً، استُدعي مبارك المحنط “المكدس” بتعبير الجيش، من على أحد رفوف الدولة المصرية المتربة، ليشهد في قضية اقتحام السجون، لكي نستدعيه مرةً أخرى من ذاكرةٍ لم يقدم العهد بها، وإن توارى وراء ما تراكم فيها طيلة سنين سبع حفلت بشتى الأحلام المحبطة والمناورات والثورة المضادة والتنكيل والقمع من عمر ثورةٍ مغدورة.

دخل مبارك ذو التسعين عاماً منتصباً واقفاً، فرحم الله تلك الأيام التي كان يحمل فيها على محفةٍ طبية ليحاكم بتهم الفساد، ومن ثم فإن أول سؤالٍ يتبادر إلى الذهن هو: أليس ذلك بالطاغية الذي قامت عليه ثورةٌ شعبيةٌ لعلها الأكبر في التاريخ؟ ثم ألم يُدن بـ”باستغلال نفوذه وسلطات وظيفته في طلب والحصول على منافع مادية وعينية، بدون وجه حق وحيلة، والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على مال الدولة”، كما جاء في نص منطوق المحكمة، أي ألم يدن باللصوصية فصدر عليه حكمٌ بالحبس؟ فكيف يستدعى للشهادة في قضيةٍ تمس ثورةً قامت ضده؟

على كلٍ، وحيث أن تلك تعد شكليةً قانونيةً في بلدٍ يفصل القانون على المقياس، كالحلل والأحذية، بعد أن تسربت يد تخريب المؤسسة التنفيذية إليه، فقد أتحفنا مبارك بشهادته. بدايةً، أفادنا بأنه لا يستطيع الكشف عن كثيرٍ من التفاصيل، بدون حصوله على إذنٍ من الجهات العسكرية. كما أن اللواء الراحل عمر سليمان رئيس المخابرات العامة أخبره بأن ثمانمئة عنصر عبروا الحدود الشرقية وبحوزتهم أسلحة، وبعد أن ابتدأ بقوله إنه لا يعلم جنسياتهم، لم يلبث أن ناقض نفسه إذ نسبهم إلى حماس. كالمتوقع منه تماماً اتهم الإخوان المسلمين وحزب الله بضرب الشرطة والقيام بعملياتٍ إرهابية، بيد أنه في لفتةٍ مهمةٍ أكد بأنه لا علم له بمؤامرةٍ أمريكية – تركيةٍ – إخوانيةٍ – إيرانيةٍ – حمساوية (أي الشامي على المغربي ) للاستيلاء على السلطة، كما ورد في تقرير اللواء حسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة إبان الثورة، ثم لم يعدم الفكاهة حين أفاد بأنهم ناقشوا في اجتماعٍ حكومي في العشرين من يناير/كانون الثاني أخباراً عن مظاهراتٍ ستقع فاتخذوا كافة الإجراءات، وأصدورا التعليمات لتلبية مطالب المواطنين، والأنكى تأمين التظاهرات.

مهمة نظام الثورة المضادة المصرية إعادة كتابة التاريخ بهدفٍ واعٍ هو فرض وتسييد سرديتهم عن الأحداث

ثم أحرجه البلتاجي القيادي الإخواني إذ سأله عن رأيه بإفادة قائد الجيش الثاني محمد فريد حجازي أثناء المحاكمة الأولى، حين نفى علمه بوقوع تلك الأحداث، وعما صرّح به مبارك نفسه في خطاب 31 يناير، الذي لم يشر فيه إلى تدخلٍ خارجي، وأخيراً عن عجز القوات المسلحة في التعامل مع العناصر المتسللة.

لم تلح عليّ مقولةٌ إبان متابعتي لتلك الشهادة (كما ألحت عليّ أيضاً في السنتين الأخيرتين) قدر مقولة سان جوست إبان الثورة الفرنسية العظيمة بأن من يصنعون نصف ثورةٍ يحفرون قبورهم بأيديهم، فنحن لا نشهد في مصر تطبيقاً عملياً على ذلك فحسب، وإنما أيضا نشهد تأكيداً على أن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ. في العصر الحديث ومع شيوع الكتابة وثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي، انتفى احتكار المعلومة، أو على الأقل صعُب وسقطت كثيرٌ من الموانع الجغرافية واللغوية التي كانت تعمل بدون وصول الخبر أوعلى الأقل تدفقه السريع، فشهود يناير كثيرون ومن شتى أنحاء العالم، وشهادات عديدين منهم مسجلةٌ، كتابةً وصوتاً وصورة، ما جعل مهمة نظام الثورة المضادة المصرية شاقةً عويصة، فهم يعيدون كتابة التاريخ بهدفٍ واعٍ هو فرض وتسييد سرديتهم عن الأحداث، سردية المؤامرة الكونية، بينما يمارسون حالة حصارٍ وإقصاءٍ على السردية الأخرى الثورية، وملاحقةٍ تصل حد الإخفاء القسري والتنكيل بحملتها وشهودها. لا بد إذن من تشويه الشهادات السابقة وطمس الحقائق بفيضٍ من الأكاذيب والمعلومات المغلوطة والتدليس والتلفيق. على سبيل المثال وفي ما يخص موضوع المحاكمة، فقد حُذفت شهادات أشخاصٍ نعرف بعضهم بثبوت استخدام أنواعٍ من الرصاص الفتاك، وفق تقارير الطب الشرعي، أودى بحياة المتظاهرين، حصلت عليه الداخلية حصراً بقيادة حبيب العادلي من الولايات المتحدة، وجرى تدريب عناصر منتقاةٍ من الأمن على التصويب بها في أحد المعسكرات، وهناك اغتيال الشهيد اللواء البطران، الذي رفض أمراً مباشراً من الداخلية بفتح السجن الواقع تحت قيادته. الأهم من هذا وذاك، ألا يخجل هذا النظام بمئات آلاف قوات جيشه، وما يزيدون عليهم من قوات الشرطة والأمن المركزي وحرس السجون من أن يعزوا كل ذلك الفساد لثمانمئة عنصرٍ تسللوا عبر الحدود، ألا يجب أن يحاسبوا ويحاكموا بتهمة التقصير، وعلى رأسهم قائد المخابرات العسكرية والاستطلاع إبان الثورة اللواء المدعو عبد الفتاح السيسي؟

إن كل تلك الشهادات بتسللٍ واختراقاتٍ حدودية (إن صدقت ووقعت) لا تعدو كونها إدانةً صريحةً لأجهزة الدولة وإقراراً دامغاً بفشلها في القيام بدورها هي، التي يفترض فيها وينتظر منها أن تذود عن الحدود وتقف في وجه إسرائيل حين تتهم بضعة مئات من المتسللين عبر الحدود وعناصر من الإخوان بهز وهدم منظومة الأمن المعقدة المليونية، التي ابتلعت تسليحاً وإعداداً ملياراتٍ من الدولارات لا حصر لها كثقبٍ أسود، فوفقاً لتلك الرواية فإن هذه المئات هاجمت أقسام الشرطة وفتحت السجون في أرجاء البلد المتسع، واعتلت العمارات في الميادين واصطادت الثوار في نفس واحد! لم يحدث ذلك في أشد شطحات هوليوود، وحتى رامبو لم يفعلها!

ختاماً، لا يسعنا أن نهمل ونغفل ذلك المسعى الخبيث في أهدافه، بتسليط الضوء على وقائع “التسلل” المزعوم وفتح السجون، تلك الحواشي المشبوهة في حقيقة الأمر، لصرف النظر بعيداً عن الحدث الحقيقي، المتن الكبير الضخم، الجسد الممتد، ألا وهو ثورة يناير بكل ثقلها وحضورها التاريخي الطاغي، فملايين الناس لم ينطلقوا من فراغٍ وإنما من مظالم ومن طلباتٍ اجتماعيةٍ حقيقية، ويستحيل أن يجتمعوا عن تواطؤٍ أو تآمر. ذلك هو ما يتعين التركيز عليه، الحدث (بأل التعريف).

لقد استدعى النظام من أضابير مخلفاته شبحاً قبيحاً، رمزاً حياً في مواتٍ للترهل والانهزام والتردي والانحياز الاجتماعي المعادي للغالبية العظمى، استدعاه شاهداً هو الطاغية المستبد المحكوم عليه في قضية سرقة، ليحلف ويروي، فهل سيدين نفسه أو النظام الذي أبقاه نزيل مستشفى عوضاً عن حبيسٍ قبل أن يطلق سراحه، بالطبع لا، فانطبق عليه وصدق المثل الشعبي المصري” قالوا للحرامي إحلف قال جاءك الفرج”!

وسوم: العدد 805