عبقري الحداثة اللحنية المبدع / عمر الشاعر
مبدع من الزمن الجميل
عبقري الحداثة اللحنية المبدع / عمر الشاعر
هجر الغناء ولم تهجره عبقرية الملحن
توثيقي للفن السوداني
سليمان عبد الله حمد
كانت المدن السودانية تغذي أمدرمان بالطمي الفني ، أيامها يأتي المدد الثقافي الفني المنتظم من مدن مدنى وكسلا ، والأبيض ، وهي المدن التي لعبت دوراً كبيراً في تخصيب غناء الحيبة ، وربما هي ذات المدن التي تماثلت في تجديد دورة الإبداع الرياضي بأكثر من مدن أخرى وبضمور النشاط الثقافي والفني في هذه المدن وأخري توقف المد الغنائي !!!! .
والموسيقار عمر الشاعر جاء من كسلا ليعيد العافية للغناء ويمنحه الكثير من المعايير الجديدة ، وليس هو الفنان الوحيد الذى أنجبته هذه المدنية التي تفتح فيها وجدانه ، وترققت عندها أحاسيسه ، فقد رفدت كسلا إذاعة أمدرمان بالفنانين التاج مكي ، وإبراهيم حسين ، والفاتح كسلاوي ، وأنس العاقب الذي بدأ مغنياً ثم تفرغ للتلحين ، وعبد العظيم (حركة ) وهناك شهدت المدينة بدايات الفنانين كمال ترباس والبعيو وقدمت للأوركسترا عازف الأكورديون الفاتح الهادي وهناك كثير من المبدعين 0
وعلى المستوي الإبداعي جاء أبناؤها الفاتح محمود أبو بكر وأسحاق الحلنقي والجرتلي وكجراي وعبد الوهاب هلاوي ليبدعوا 0
خرج الملحن المبدع عمر الشاعر من هذه البيئة حيث عاصر هناك عدداً من الفرق الموسيقية والتي من بينها فرقة السكة الحديد وفرقة مصنع البصل التي تهتم بالغناء الشعبي والحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون أن الشاعر بدأ مغنياً في كسلا وواصل الغناء حتى عند قدومه للخرطوم 0
ويروي أنه في 1974 م حاول الغناء بنادي الضباط في احتفال كبير حضره الرئيس الأسبق جعفر نميري ، ولما كان صوته غير مجاز عبر لجنة النصوص والألحان رفض القائمون على أمر الاحتفال تقديمه إلا أن الأستاذ/ محمد خوجلى صالحين حدثه في ذلك اليوم بأن بأتي إليه في الصباح للإذاعة ليساعده في أجازة صوته وقد كان بيد أن (جنابو عمر ، كما يحلو للبعض مناداته ) فضل ضفر الألحان وبروز شهادته في صالون منزله ، ومع ذلك ظل يغني العميد بعض المناسبات لصالح أصدقائه والمقربين منه وهناك تسجيلات في التلفزيون يؤدي أغنيات لحنها من أعمال الشاعر الرقيق التيجاني حاج موسى ان يؤدي رائعة الكابلي أغنية (في عز الليل ) 0
وفي حوار له فني يقول عمر الشاعر عن كسلا إنها شكلت معالم وجدانه الفني حيث كان مولعاً ومحباً لها وقد استهوته أله العود ، وعندما كان من الصعوبة أن يصل للعود في ظل تشدد والده المتصوف لجأ إلى جارهم محمد شريف الذي كان يملك الآله العود ، ووجد منه كل التعاون والمساندة لتعلم العزف وبعدها كانت بدايات الانطلاقة حيث سعى مع زملاء له لتأسيس فرقة موسيقية نجحت بشكل متواصل في الانتشار في احياء كسلا وقدمت سهرات غنائية وجدت الاستحسان من جماهير المدينة الذواق ، ارتبطت ألحان عمر الشاعر بعديد من الفنانين ومنهم زيدان إبراهيم وهو صاحب القدح المعلى وفي هذا يقول الموسيقار المبدع الموصلى : ( أن عبقرية عمر وزيدان في الموسيقي السودانية لا تضاهيها إلا ثنائية عبد الرحمن الريح وإبراهيم عوض ) والملحن المبدع عمر الشاعر حقيقة مثال للموسيقي الذي يهتم بسماع الموسيقي بشتى أنواعها من شعبية إلى فنية إلى كلاسيكية جادة 0
تخرج عمر الشاعر من المعهد 1974 م ومن دفعته الآخرين الراحل علي ميرغني ، والدكتور/ الماحي سليمان والفنان المبدع عثمان مصطفي والقائمة تطول أحبتي 0
وقنع الملحن عمر الشاعر بعد تلقيه للعلوم الموسيقية أن التجديد اللحني إنما ينبني على الموروث السوداني وما هذه العلوم النظرية التي يتلقاها طالب المعهد إلا فتح لآفاق تفكيره الموسيقي وتعميق ارتباطه بالموروث ، إن ما يميز ألحان عمر الشاعر هو سلاستها وعذوبتها وحفاظها على الميلودي السوداني الذي يكسبها القبول الواسع ويمنحها القدرة على مقاومة عامل الزمن ، كما حدث الأمر لأغاني الحقيبة ، والتي ما نجحت في منافسة أغاني الستينيات والسبعينيات إلا لأنها مشحونة بالإيقاعات والميلودية الطروبة والشجية 0
وإذا جاز البحث عن موقع عمر الشاعر وسط عمالقة الملحنين السودانيين فهو يقف متميزاً بتنوع نغماته وإيقاعاتها وعدم تشابهها فضلاً عن ذلك فإن هذه الأعمال التي قدمها لعدد هائل من الفنانين تتناسب مع طبقاتهم الصوتية ولا ترهقهم في منطقتي القرار والجواب 0
وحين تسمع زيدان وعبد العزيز المبارك يؤديان من ألحانه تحس براحة صوتيهما وعدم إرهاقة أثناء ترديد الموتيفات في علوها وهبوطها 0
ولعل هذا الأمر يطرح السؤال : حول غياب جيل الملحنين الكبار أمثال عبد الرحمن الريح ، وبرعي محمد دفع الله ، وبشير عباس ، وأحمد زاهر والذين كانوا لخبرتهم الموسيقية يدركون الأبعاد الصوتية للفنانين الذين يتعاونون معهم 0
إن المشكلة التي تواجه هذا الجيل من المغنيين من حيث غياب الملحن المدرك ، هي أنهم لا يدركون الأبعاد الصوتية التي بها يستطيعون أن يبينوا إمكاناتهم الصوتية للمستمع صحيح أن هناك خامات صوتية متميزة ولكن ما ينقصها هو غياب الملحن الذي يخرج جماليات هذه الأصوات كما كان يفعل الملحنون القدامي 0
وأذكر ان فناناً مثل مصطفي سيد أحمد برغم من أن الذين وقفوا معه في بداياته الفنية كانوا ملحنين مقتدرين أمثال محمد سراج الدين وفتحي المك وسلمان أبو داؤد وعبد التواب عبد الله ، ويوسف السماني وبدر الدين عجاج ، إلا أنه سعى للتفرغ لدراسة الصوت في المعهد على يد استاذه الكوري والذي صقل موهبته الصوتية وبعدها استطاع أن يخوض تجريه التلحين وبالتالي جاءت أغنياته معبره عن إمكانياته الصوتية الهائلة والتي لابد أن الدراسة الأكاديمية قد هذبتها فضلاً عن ذلك فإن معرفة الطبقات الصوتية تتيح للمغني إظهار خصوصيته الصوتية والتي هي البصمة الفنية التي يعرف بها كمغني 0
وفي حوار مطول على المبدع عمر الشاعر حول المطربين ا لشباب أورد ما يلي : ـ
( ظللت وعلى المدي الطويل أهتم كثيراً بالمبدعين الشباب ممن لا يجدون الفرص للظهور وإبراز مواهبهم عبر الأجهزة الإعلامية فكان برنامجي (بعض الرحيق) والي كان بإذاعة ولاية الخرطوم وأستمر لعدة سنوات وفتح الطريق أمام الكثير من المبدعين الذين ظهروا بعد ذلك وأثبتوا وجودهم وعب انتقالي إلى مدينة ود مدني كان برنامج (بعض الرحيق) بتلفزيون الجزيرة ومنه خرج عدد من المبدعين الشباب ، ولم نتوقف عند المبدعين من شعراء وتشكيليين ومطربين وعازفين ودراميين بل امتدت الجهود لتصل المبدعين ممن يملكون موعبة التقديم البرامجي ولا يجدون الفرصة ) 000
إذ لا يمكن أن يختار الفنان الشاب أعمالاً لفنانين قدامي مثل زيدان وأبو داؤود (في سلة واحده) ليؤديهما بذات السلم دون ان يدري أنه يرهق طبقاته الصوتية حيث أن لكل فنان من هؤلاء مدي صوتياً محدداً ، وليس بالضرورة أن ينجح محمد ميرغني في أداء أعمال أبو داؤود ان ينجح مجذوب أونسة في أداء الأعمال التي تغني بها الكايلي ، إن حاجة شبابنا المغني إلى ملحن مثل عمر الشاعر وبشير عباس أدعى خصوصاً وأن هذا الجيل فشل تماماً أن ينمي التجربة اللحنية لأغنيتنا ...
ويقول الأستاذ / نزار محجوب عتيق في بحوثاته المميزة حول الأغنية السودانية ، إن تكبيل المصطلح وتأطيره داخل ( المغنيين الشباب )كمرحلة عمرية هو الخطأ الأساسي في التعامل مع المغنيين الجدد مشروع غنائي مستمر ومتجدد هو بالضرورة مشروع غنائي شاب ، فالمبدع يبحث دوما نحو التجديد والتجريب بغض النظر عن الفئة العمرية التي ينتمي إليها ، فحمد الآمين وعركي وقليل غيرهم هم مغنون شباب من خلال فاعلية استمراريتهم التجديدية في مسيرة الأغنية السودانية ، طلما أن ذلك الاستمرار والتجديد يتم داخل ( مشروع غنائي ) حدده ذلك المبدع لنفسه 000
(المشروع الغنائي دوماً أقصد به الرؤية الذاتية للفنان للواقع الاجتماعي /الفني تم تحديد ما يمكن أن يضيفه هو لذلك الواقع ) 0
لم يقتصر التعاون اللحني للمبدع عمر الشاعر مع زيدان بل أتمد ظل أعماله الفنية إلى العديد من الأسماء في الساحة الفنية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ( ثنائي النغم ، ثنائي الجزيرة ، ونجم الدين الفاضل ، وعبد العزيز المبارك وحركة وعثمان مصطفي ، وآخرين ، وكذلك ساهم في مد الفنانين الشباب بأعمال مميزة كانت من نصيب العديد من الفنانين الشباب 000
وهناك ثلاثية ضمت كل من عمر الشاعر وزيدان إبراهيم والشاعر المبدع جعفر محمد عثمان وهو الثلاثي الأول في تاريخ الغناء والذي تتجاوز أعماله العشر أغنيات ويعود ذلك أنهم ظلوا يقطنون حي العباسية لفترة طويلة إلى أن تفرقا ، حيث غادر زيدان الحي والحياة الدنيا كلها ، ورحل جعفر محمد عثمان إلى الحياة الباقية وحط رجال عمر الشاعر في حي آخر 000
نأمل أن يواصل الفنان المبدع عمر الشاعر في إثراء الساحة الغنائية وأن يجد التكريم اللائق به كواحد من عباقرة اللحن في بلادنا الخضراء 0
هذه ومضات وخطفات سريعة من أرشيف توثيق للأغنية السودانية ومبدعيها وسوف يكون لنا لقاء في الأيام القادمات 000 مع صادق مودتي حتى يحين اللقاء مع مبدع وزمــن .