الجزيرة 2.. الثورة من منظور صعيدي

الجزيرة 2.. الثورة من منظور صعيدي

هشام بن الشاوي

[email protected]

الجسرة الثقافية الالكترونية -خاص-

يصر  صاحب "طيور الظلام" على أن يغرد خارج السرب، ويقدم أعمالا سينمائية متميزة نكاية في الزمن السبكي،  الذي طغت فيه أفلام الرداءة، القبح والابتذال، وذبحت فيه السينما المصرية على يدي  الجزارَيْن، والمضحك المبكي أن أحدهما لم يكتف بالإنتاج، وآثر أن يكتب اسمه تحت الكلمة الساحرة  "إخراج".

بعد سبع سنوات، يعود شريف عرفة ليقدم جزءً ثانيا من عمله الملحمي (اللّا يُنسى) "الجزيرة"،  مستفيدا من التحولات الكبيرة، التي شهدتها  أرض الكنانة  بعد ثورة  25 يناير، دون أن يسقط في كمين أفلام الثورة، التي صارت تتشابه ثيماتها وأساليب إخراجها تقريبا، رغم تباين المدارس الفنية، فمن يشاهد مثلا : "بعد الموقعة" أو "الشتا اللي فات" أو "فرش وغطا"، سيلاحظ  الحضور الطاغي والصوت العالي لمتابعات القنوات الفضائية.

يبدأ الفيلم بهروب منصور الحفني (أحمد السقا) من السجن، في زمن الانفلات الأمني، عند نقله إلى سجن الاستئناف، وينجو من حكم الإعدام، ويلجأ إلى الجزيرة، مصطحبا ابنه علي (الممثل الواعد أحمد مالك)  الذي هرّبه خارج الجزيرة عمه الأبكم فضل (نضال الشافعي)، ويحاول استعادة مجد عائلته، وملكه الذي سلبه النجايحة/ عائلة  كريمة (هند صبري)، التي يفاجأ بأنها صارت كبيرة قومها، وصارت عدوته  أيضا، ويتحالف منصور مع أخواله الرحايمة، من أجل انتزاع لقب كبير الجزيرة من  حبيبته السابقة.

        وسيظهر طرف ثالث في الصراع على الجزيرة، وهم "الرحالة"، بزعامة الشيخ جعفر ( الراحل خالد صالح)، وهم جماعة  لا ينتمي مريدوها  إلى أي مكان معين، ويشترط فيهم السمع والطاعة، يعيشون تحت الأرض؛ يسكنون في الكهوف، يتاجرون في السيارات المسروقة والسلاح، وفي الدين أيضا.

استغل الشيخ جعفر الصراع القبلي بين منصور وكريمة، فأوقع بينهما، حيث ورط منصور أمام أهالي الجزيرة عندما فشل هذا الأخير في  بيع السلاح، الذي استبدل به المخدرات، ثم سعى الشيخ جعفر إلى الزواج  من كريمة للظفر بالزعامة، وتخلى عنها في ليلة الزفاف، وجعل رجاله يبيدون عائلة كريمة

تحالف اللواء رشدي (خالد الصاوي) مع منصور للانتقام من الرحالة، بعدما باءت محاولة الرحالة لاغتيال اللواء رشدي أمام مبنى المحكمة، التي برأته من تهمة قتل المتظاهرين، وراح ضحية تفخيخ السيارة زوجة رشدي وابنيه، ولأنه كان متعاونا من قبل مع منصور، فقد هربه منصور من سيارة الترحيلات، ليدبر له مشتريا للمخدرات، ثم طلب منه فيما بعد  البحث عن مشترٍ منه للسلاح.

وقد تحالف اللواء رشدي، بعدما خذلته الداخلية ليثأر من الشيخ جعفر وجماعته، وقدم الصاوي  أجمل مشاهده التراجيكوميدية مع الفنان الراحل خليل مرسي، الذي تناسته أقلام كثيرة، وهي تترحم على الموهبة الأسطورة خالد صالح، وقد جسد  خليل مرسي دور رئيس اللواء رشدي، وقدم ببراعة مشاهد كوميدية فذة، دون أن يتخلى عن عبوس ملامحه المعتاد على الشاشة، ونبرات صوته الجهورية، لا سيما عند اقتحام منصور وأهالي الجزيرة للسجن، متقمصين دور الثوار، وقيامهم باختطاف رشدي من محبسه.

تتشابك الخيوط والمصالح، ويتحالف منصور ورشدي وكريمة ضد العدو الأخطر الشيخ جعفر  والرحالة، وينضم إليهم رجال ونساء الجزيرة، ولا يخفى على المشاهد  اللبيب الإسقاط السياسي الصريح، فالفيلم استفاد  بدهاء فني من كل الأحداث السياسية، التي شهدتها مصر والوطن العربي، مثل مشهد العثور على الشيخ جعفر مختبئا في حفرة...

وفي لقاء السحاب بين الثلاثي منصور، رشدي، جعفر  يهدد هذا الأخير بنسف الكهف، ويحاول التحالف مع منصور ضد رشدي/ ممثل الدولة، فيختار منصور  أن يموتوا جميعا.. ويختتم الفيلم بنهاية مفتوحة، تشي بوجود جزء ثالث للجزيرة.

بفضل المايسترو شريف عرفة قدم كل المشاركين في العمل مباريات تمثيلية هائلة، فهند صبري جسدت ببراعة دور المرأة القوية/ الضعيفة، التي خذلها حبيبها أكثر من مرة، وعبرت بنظراتها  الزجاجية عن  كل ما يموج في أعماقها أمام أحمد السقا، ونضال الشافعي منح الفيلم مسحة كوميدية، خففت من الإيقاع الدموي للعمل، لا سيما في مشهد ليلة الزفاف الثلاثي، وخالد الصاوي في كل عمل يؤكد أنه ممثل كبير، يطور نفسه دوما، وحتى في ذروة غضبه وانهياره لا يبخل على جمهوره بالبهجة، وهو يرفع لوحة "الشرطة في خدمة الشعب"، ويقول لمديره (خليل مرسي) الشرطة لا تخدم أحدا

"الجزيرة 2" عمل ملحمي يستحق أن يشاهد أكثر من مرة، رغم أن مدته 170 دقيقة، فالملل لا يتسرب إلى نفسك.. وحتما، نحن متشوقون للجزء القادم لعمل صار من كلاسيكيات السينما العربية، وينتمي إلى ما يعرف بالسينما النظيفة. فما أحوجنا إلى هكذا أعمال ترتقي بذائقتنا الفنية، وتحترم عقولنا، بدل غثاء السبكي وأشباهه !