الطالب والمطلوب!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

على غير العادة، ذهبتُ إلى المقهى، وأنا يائسٌ حزين! فطلبتُ كوباً من الشاي الأخضر. وعندما مرَّ بائعُ الصُّحف، اشتريتُ إحداها، ولم أطَّلعْ عليها! وبعد فترةٍ، رنَّ هاتفي المحمول؛ وكانت حالتي النفسية سيئةً؛ فلم أستطعْ الرَّدّ! وظللتُ أُفَكِّرُ في كلامها اللذيذ، وكبريائها المُستحبَّة، وحُبِّها الغريب!

وفوجئتُ بشخصٍ تبدو عليه سيماءُ الصالحين، وتلوح من غُرَّته أنوارٌ عجيبةٌ! وبينما أنا أنظرُ إليه مشدوهاً، جاءه رجلٌ، وقال له: أنت جبران؟! قال: نعم. فأعطاه الرجل ورقةً، وهو يقول: سيدتي .. تبعث إليكَ بها.

فظهرتْ البشاشةُ على وجه جبران، وأخذ يشمُّ الورقة، ويضعها على صدره، ويُفاخِرُ، وهو يصيح كالمجذوب: هذه الورقةُ .. حديثةُ عهدٍ بالمحبوب! فمَن سَرَّه أن يرى شيئاً من رياضِ الجَنَّةِ؛ فليرَ هذه الورقة!

فقام كلُّ مَن في المقهى  إليه مُسرعين، يُحَدِّقون في الورقة، والرجل! لكنَّني ظللتُ في مكاني، لا أنبس بكلمةٍ، ولا حركةٍ، حتى انتهى الناسُ من شمِّ الورقة، وقد علتْ أصواتُهم متعجِّبةً من رائحة الورقة الزكية، التي ما انطبعتْ من قبلُ في أنوفهم!

فاقتربتُ – على حذرٍ- مِن صاحب الورقة، وقلتُ له: إذن، أنتَ جبران؟!

فأجاب بثقةٍ: نعم. فهل أنتَ تعرفني؟! وهل مِن خدمةٍ أؤديها إليكَ؟!

فأسرع الكلامُ من فمي مُنطلِقاً، على غير ما أُريد: أرجوك .. بَلِّغْ سلامي إليها.

فنظر إليَّ مليَّاً؛ ثمَّ قال: وهل أنتَ تعرفها؟!

فهززتُ رأسي بالموافقة، فسألني على غير ما أتوقَّع: وهل أنتَ مِن الطالبين أم مِن المطلوبين؟!

فحار جوابي! وتصبَّبَ العرقُ من جبهتي، وبدتْ عليَّ قشعريرةٌ، وارتفعتْ درجةُ حرارتي ، ويَبَستْ أعضاء جسمي! ثمَّ سرحتُ بعيداً، حيثُ الفردوسُ، ومقعدُ صدقٍ، وجَنَّةُ عدنٍ! ثمَّ وقعتُ على الأرضِ؛ فغِبْتُ عن الوعيِّ مُدَّةً ليست بالطويلة ولا بالقصيرة! وعندما عُدتُ إلى الحياةِ؛ وجدتُ جبرانَ، وقد أجلسني مكانه، وظلَّ يُنَظِّف ملابسي، وهو يضع خِطابَها على أنفي، وهو يقول: سيِّدي، هذا الخِطابُ لكَ أنتَ! والناس مِن حوله يراقبون ما يحدث باستغرابٍ شديدٍ!

وبمجرد أنْ شَممتُ الورقةَ إلاَّ وتذكَّرتُ ماضي حياتي السعيد؛ فدَبَّت العافيةُ في أوصالي، فرجعتُ شابّاً، بعد أن بلغتُ من الكِبَرِ عِتيَّاً! وعندما وقفتُ للمغادرة، تجمَّع الناسُ مِن حولي، وهم يحملونني على أعناقهم مزهوِّين! وهتافهم العجيب يُدَوِّي في الاُفق: سبحان اللهِ، ما هذا إلاَّ مَلَكٌ كريم!

فقال جبرانُ: أوصني يا سيِّدي!

قلتُ: الوصيَّةُ في التَّركِ!

قال: لم أفهم! قلتُ: الفهمُ .. عكسُ الطَّريق!

قال جبرانُ: فكيف أصلُ إلى مَن أُحِبُّ؟!

قلتُ: بالقطيعة!

لكنَّ(جبران) همَّ مُسرعاً؛ فوقف أمام الجموع، وهو يقول: هل تسمحُ لي يا سيِّدي الجليل، في أن أحملَكَ فوق رأسي، إلى بيت المحبوب؟!

فأشرتُ بالإيجاب، وعندما اقتربت الحشودُ من البيت، بكى جبرانُ، وقال بلوعةِ مَن اقترف ذنباً: سيِّدي، تقدَّمْ؛ فأنا من المطرودين!

وبالفعل، تأخَّر جبرانُ، والناسُ ترى هذا المشهد الغريب. عندئذٍ، ناديتُ بأعلى صوتي قائلاً: سيِّدتي الكريمة، هل للعاصي مِن توبةٍ؟!

فجاءني صوتٌ من الداخل، أشبهُ بالسِّحرِ، يقول: وما علامةُ صدقك؟!

قلتُ: غِبْتُ عن جَمالكم ثلاثين سنةً، وكانت غَيبتي عنكم ذِكْرِي إيّاكم؛ فلمّا حضرتُ وجدتُكم في كلِّ حالٍ! وكلُّ الناسِ يخافون حِسابَ الحبيبِ، وأنا أستعجلُ حسابَ المطلوب!  ليس العجبُ مِن حُبِّي لكم، وأنا عبدٌ وضيع! بل العجبُ العُجابُ مِن حُبِّكم لي، وأنا المطرودُ مِن رحمةِ الحبيب!

إنَّ المحبوبة لو احتجبتْ عنِّي في الدنيا، لاستغثتُ كما يستغيثُ أهلُ النّارِ في النّارِ!

عند ذلك قال جبرانُ مِن بعيدٍ بأعلى صوته: زِدنا يا سيِّدي من الحِكمة!

وصاح الناسُ، وهم يبكون بحُرقةٍ بالغةٍ: أيها الشابُّ الأمينُ، زِدنا إيماناً!

لكنْ خرج صوتٌ من البيتِ، يقول: صدرَ الحكمُ عليكَ بالهلاك!

فلم يرَ الناسُ إلاَّ روحي، وهي تُفارقُ جسدي في الحال!  وورقة الحبيب تطير نحو السماء!

والعجيب في الأمر حقاً؛ وهو ما زالت الأيام تردِّده على مدى الأجيال .. أنَّ قلب (المحبوب) طار من مكانه؛ فحلَّق في أعالي الفضاء، فرآه الناس، وهو يقطر دماً .. وقد هبط ، واستقرَّ إلى جوار قبر الحبيب! وقد افترش العشب الأخضر القبر، وما حوله؛ فغطَّى ساحة المدينة!

ومن يومها؛ اتخذ الناسُ القبر مزاراً، ومهوىً لقلوب العاشقين!