المُتَحَكِّمَةُ الطَّاغِيَةُ

حيدر قفه

وضع رأسه بين كفيه، وارتفق بمرفقيه على فخذيه، وَشَدَّ بصره إلى الأرض يسترجع ماضٍ قريبٍ وبعيدٍ... ليس الماضي هو المهم، ولكن المهم عنده هذه الحال التي تَتَـلَبَّسه عندما تسيطر عليه فكرةٌ معينة...

تأتي الفكرة... يقلِّبها في رأسه عشرات المرات... تتقلب معه مِطْواعة كَمَيِّتٍ بين كفيّ غاسله، لكنها ليست ميتة، بل متحكمة طاغية، تزين له الأمر كأحسن ما يكون... وتفرش له الأرض رياحين وورود، وتظل تُلِحُّ عليه في إصرار عجيب.. تقلقه... تهوِّن عليه النقود في سبيل إبراز ما آمن به، بغض النظر عن جدواها... لكن القلق المستبد لا بد له من إزاحة، وإلا نَغَّصَ عليه الحياة، وأحالها إلى جحيم لا يطاق...

يذكُرُ نفسه منذ كانت الأحلام الوردية خُبزَه وماءَه وهواءَه، عندما كان في ميعة الصبا، وتَفَتُّحِ براعم الإقبال على الحياة، قبل أن تُصادرَ الحياةُ أحلامَهُ واحداً تلو الآخر، ثم تَدُعُّهُ في قفاه إلى الرضى بالواقع المرير.

عندما كان في الخامسة عشرة من عمره... وغلاف مرحلة الدراسة الثانوية يحيط به من كل جانب، إحاطة قشر البيضة بكتكوت يَتَنَغَّشُ، كانت الفكرة تولد في رأسه، ثم تكبر في ليلة أو ليلتين، خلالهما يعز عليه النوم، وتفِرُّ من أجفانه عُسيلة الكرى، ويفقد شهيته للطعام... ويبقى هذا حاله حتى يخرج فكرته إلى حيز التنفيذ.. كانت ناجحة أو دونه لا يعنيه الأمر في هذه المرحلة...

كَبر... تزوج... أنجب... أصبح رب أسرة له وضعه الاجتماعي... يشار إليه بالبنان... ويعرفه الرجال والأطفال والنسوان... مكرمة حباه الله بها... لا بد أن يحافظ عليها... مما هَوَّن عليه الامتزاج بالناس – على ما في ذلك من ضياع الوقت فيما لا فائدة فيه... فالمجاملات التافهة... والمشاركة في الأحزان والأفراح بأبدان خوت من كل إحساس حقيقي ديدن الناس في هذه الأيام، وقلما يجد قلباً صادقاً في مودته... وكما قالت نهيل: "الدنيا تبادل مصالح"... ورغم رفضه لهذا المنطق إلا أن الواقع وكثرة النماذج التي هي كذلك تصفع تمسكه بالقيم في عالم لم يعد يقيم لها وزناً أمام طوفان المنافع والمخاسر... ميزان دقيق يقيمه كُلُّ واحد منهم في نفسه قبل أن يخطو خطوة واحدة.

عندما كرهتْ حكومةٌ بقاءَ رِجْلَيْ صاحبهِ تمشي على أرضهم، وقررت مَجَّهُ إلى خارج هذا التراب إلى تراب لا علاقة له به، إلا أنه يحمل وثيقة من بلده... سعى... ركض... لكن القدر كان أغلبَ وأقوى، فأزمع صاحبُهُ على الرحيلِ... أراد أن يُكرمه... حفلةُ وداع تمحو أسىً وتترك أثراً حسناً في النفس الملتاعة، وبَلسم لروح موجوعة...

كعادته عندما يهم ليعمل حفلةً ما، تداول الأمر مع زوجته، قالت: اذبح له خروفاً وغديه مع أقاربه أو عشيه... لكن الفكرة التي سيطرت عليه كانت عشاءً خفيفاً (سندويشات) منوعة... اعترضتْ... شرحتْ... بينتْ... لكن هيهات لكل هذه العراقيل الوجيهة أن تصمد أمام عقل صلب قد استولت عليه فكرة... فأفكاره لا تقبل المهادنة... فكيف بالإزاحة...

فَـكَّرَ وقَدَّرَ... ورسم خَطَّ سيره... وكتب قائمةٍ بالمدعويين... وقائمة بالطعام والشراب والفاكهة والنُّقْلِ والحلوى.. ثم بدأ في الركض يميناً وشمالاً...

كانت زوجه في شرخ الباب، وعافيتُها مُسَخَّرَةً لخدمته، لا ترفض له طلباً... تُبين وجهةَ نظرها، لكنها في النهاية مجرد مشورة لا تُلْزِمُهُ، وسرعان ما توافق على رأيه إن رأته مُصِرَّاً عليه.

أحضر السمك... الدجاج... اللحم الأحمر... (المقانق)... المقبلات... السلطات... المخللات... وعشرات الأكياس من خبز (السندويشات)، ودخلت زوجته مطبخها... وكم ضحك بعد هذه الحادثة بربع قرن عندما اطَّلَعَتْ زوجته على وصفة تحضير طعام معين في مجلة نسائية تهتم بذلك، فوجدت الطَّباخ الماهر الذي يشار إليه بالبنان يقول كلاماً غير معقول؛ فقالت: أيضحك علينا هذا: وأنا أسكن في المطبخ منذ خمس وثلاثين سنة!! فضحك للكلمة"أسكن في المطبخ"... وأعادت عليه ذكرى تلك الوليمة مرة أخرى.

دخلت مطبخها، وأعدت الوجبات، وحَشَتِ (السندويشات) ولن يقول: الشطائر... وليركض خلفه رجال مجامع اللغة العربية مهددين متوعدين، فشطيرتُهم أَعَمُّ من (سندوتشِهِ) بل (سندوتشُهُ) ذو دلالة مباشرة، وقديماً قال علماء الأصول: يُحمل العام على الخاص، فلا بد أن تعترف بها المجامع كما اعترفت بـ"سُجُقٍ"وغيرها... لا سيما واللغة متطورة... والمعاجم أفقر من أن تحوي كل المفردات...

حشتِ الأرغفة، وصنَّفتها على أطباق مختلفة الطول لتتميز دون كتابة، وَرَصَّتِ أطباق المشهيات، وأكواب العصائر التي تسيغ الطعام وتشجع على الالتهام...

وقَدِمَ الحضور، وتوزعوا الكراسي، وقُدِّم العشاء بألوانه المختلفة، أكلوا... شربوا... تَنَقَّلُوا نُقْلاً تسمع طقطقة قشره بين الأسنان... ومضت الساعة تلو الأخرى وهم لا يحسون بالوقت، ثم جاءت ساعةُ الرحيل... قاموا... انصرفوا شاكرين بأفواههم...

ها هو الليل قد انتصف، وعلى المسكينة تدبير أمرها في استصلاح ما بقي بعدهم من طعام لترفعه صالحاً للاستعمال في الزَّنْقَةِ، وعليهم العيش الأسبوع القادم كله على ما بقي بعدهم من هذا الطعام. أما التالف الذي تأباه النفس بعد الرفاه غير المسلوك في القيم الإسلامية والسلوكيات العنترية، فعليها أن تجمعه على حدة لترميه إلى طيورها الداجنة، ثم تترك الأواني المستعملة إلى اليوم التالي لتنظيفها، فقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وهي قد دخلت مطبخها منذ الفجر، وهي كالنحلة تدور بين القدور والنيران والأرغفة، حتى لا يحترق شيء، أو يُجَار عليه في النار، أو... أو... إلى آخر كُل المحاذير التي يتكئ عليها المتحذلقون في التَّلَمُّظِ بعيوب سيدة البيت... رفعاً لقَدْرهم أو قدر نسائهم...

وبُعيد فجر اليوم التالي، دخلت مطبخها لترى أرتال القدور والأطباق والملاعق والشِّوَكَ وبقايا الطعام ملتصقاً بالقدور أو متعلقاً بالأطباق يغري الصراصير بالمبيت بين الأطباق، والفئران تُسْتَنْفَرُ من جحورها، ولولا أنه دائم الرش والمقاومة لهذه الحشرات والقوارض لامتلأ البيت بها. استعانت بالله، وشمرت عن ساعديها، وبدأت في تنظيف كل هذه الآثار... حتى انتصف النهار... ولكنها كانت على وشك الانهيار من الإجهاد والتعب...

في القائلة... استعادت بعض نشاطها... أما هو... فقد راجع حساباته... الأرقام التي لا تُحابي... ولا تعرف الحُبَّ ولا البغض... لا تنحاز ولا تَعْوَجُّ... مجرد أرقام صماء... ماذا وجد؟!... لو أنه اشترى ذبيحتين لكانت التكلفة أقل مما دفع في هذه (السندويشات) فقد كان السمك من نوع فاخر يصلح (للساندويشات) فكان غالي الثمن، ومرت أزمة انقطع فيها الدجاج فارتفع ثمنه بشكل غير معقول... كل هذه المُنَغِّصَاتِ تجاوزها بالإنفاق الزائد حتى يتلافى التقصير، ويَبْيَضَّ وجهَهُ ووجه زوجته أمام هذا النفر من الأصحاب دون الالتفات إلى الجموع التي ستُنْقَلُ لها الصورة لأسباب عدة... وخلف كل سبب نية وقلب متلون.

أما الأطباق الصغيرة الموزعة بانتظام محسوب بدقة حتى لا يُحرم منها جالسٌ هنا أو هناك، فلا بد أن يكون الطعام قريباً في متناول يد كل واحد، فلا يضطر أحد إلى طلبه، أو إذا خجل صمت مكتفياً بما أمامه، لذا كانت هذه الأطباق على كثرتها تبدو قليلة التكاليف... هذا في عُرف من لا يعرف الولائم في بيته أو بيت أسرته... فليست كل الأسر كريمة... وهذه حقيقة مرة... فالأسر البخيلة لا تقيم ولائم... فهي لا تعرف التكاليف... أما من نشأ في أسرة كريمة ومارس هذا الخلق الرفيع فبنظرة واحدة على المائدة يقدر قيمتها وتكلفتها، أما الغَشِيمُ فَيَظُنُّ أنها لم تكلف شيئاً كسابح الشَّطِّ، ناهيك عن التعب والقلق وحرق الأعصاب. قال الشيخ الشاويش: "المنسف" ولا أسهل منه، ساعة ويكون جاهزاً، أما الطعام المنوع، فحسبك منه طول الوقت، ومضاعفة الجهد، وقلق البال، وحرق الأعصاب. وقال أهل الخليج: (اللي) ما يعرف الصقر يشويه!!.

كانت كلماته لزوجته بالثناء والشكر بلسماً لتعبها، ودواءً لحرق أعصابها، وكم ترك لها العنان أن تُجرب ولو أخطأت، فالحياة هكذا، ولا تولد سيدة بيت ماهرة، فلو قرأت امرأة ألف كتاب طبخ ولم تمارسه فلن تكون ماهرة، كمن قرأ ألف كتاب عن قيادة السيارة ولم يقدها مرة واحدة، فهل يؤتمن على نفسه بَلْه أنفس الآخرين إن قادها بهذه المعلومات الثَّـرَّةِ دون خبرة عملية؟!

هكذا هو... يُهوِّنُ على زوجته كل صعب... ويخفف عنها مشاق الحياة... وييسر لها وسائل الطبخ الجيد... والسرعة المتقنة... لكن الجهد والتعب لا يقدران بمال.

وكم كان حزنه عميقاً عندما عادت إليه زوجته من إحدى الزيارات العائلية ممتقعة الوجه، غائرة العينين، كاظمة حنقها... لا يدري... عليه أم على الناس!! فلما استخبرها الخبر؛ انفجر حنقها جارفاً، وانطلق لسانها كهدير السيل:

-   أتدري ما تقول امرأة فلان؟!

-   ماذا تقول؟

-   تقول: إنكم عشيتم فلاناً (سندوتشات) حمص بطحينة!! نَسِيَتِ اللحم والسمك والدجاج والكفتة و (المقانق) و... و... ولم تذكر إلا صنفاً واحداً كان من المقبلات... لو سمعتَ مشورتي!! أليس من الأفضل لو كان العشاء ذبيحة على منسف... أرخص... وأقل تعباً... وأوجه عند من لا يفهمون الولائم؟!

لم يجبها... أغمض عينيه محاولاً امتصاص الصدمة... بَلَعَ ريقه وسكت.