الأفواه المكممة

د. عامر البوسلامة

[email protected]

مشكلتي أني مسكين، لم أعتد دربكة الحياة المعاصرة، يأخذني عواء الذئب إلى حيث لا أريد، يدفعني كخيط دقيق أتمسك به، فأصدق لمعات الحياة، على أنها ناتج طبيعي، من مجموعة مسروقات، رصفتها يد فنان، لكن بلاصق غير مفيد، وألوان كاذبة، بيقت آثارها صارخة، بعد بلل المطر الذي نزل عليها.

آه ثم أه ثم آه.

على الدوام، أتأمل التاريخ، أتصفح الماضي، أقرأ عن جداول الدفاتر العتيقة، أنفض الغبار عن كتب صفت على رفوف خشبية بالية، مائلة، تترنح، تكاد تسقط، امتلأت بالأسفار الصفراء، والزرقاء، والبنفسجية، والوردية، والسمراء، والرمادية.

عجباً لك يا كاتب هذا كله، كيف نسجت بساط مفاهيمه، حتى صار سجادة مدهشة، كسجاجيد بلاد العجم، أو رسوم الروم، أو شعر العرب.

يقترب مني شيخ كبير، لونه مائي، وجهه حكاية نبطية، يده المرتعشة، نبض عاشق، كواه القيد، وحبسته الفواجع، ولوحت به عصا الويل، التي جلدته، كل يوم خمسين جلدة....جلدة بلون الخبز، وأخرى برائحة الفقر، وثالثة بطعم الجريدة المحترقة، ورابعة، على شكل زنزانة منفردة، وخامسة على صورة لطمة رجل الأمن !!؟؟ وسادسة على هيئة غلاف القهر، وسابعة بنشرة أخبار محلية.

-         من أي البلاد أنت ؟

-         من بلد، الملايين المشردة، والأفواه المكممة، والأنفاس المحبوسة، والبراميل المتفجرة، والسجن الكبير، والهدم الخطير، والكيماوي، والغازات السامة، من بلد رائحة الدم، وصورة الموت التي انتشرت في كل معارض حياتنا، في الحدائق، في دور المسرح، في ملاعب الأطفال، في رياض المدارس، في سفن الصيد، في قطارات الأمل، في مطارات الرحيل، والعابث الذي يجثم على صدره، أبو الفساد والجريمة، ما زال يبحث عن المزيد.

 يمسح دموعه، التي دخلت أخاديد وجهه المحزون، وتناثرت على أرصفة محياه الجميل، حتى تقاطرت على صدره المكشوف، فبللت ثوبه، حتى خرجت من ثقوبه، التي فتحتها الأيام. 

-         أرقبك من بعيد منذ فترة، ما لي أراك صامتاً ؟

-         الصمت حكمة .

-         وهل الصامت يكون حكيماً ؟

-         نعم إذا كان يبحث عن الحرية، ويخطط لها.

-         هل لها أبطالها؟؟

-         نعم، نعم ، يكثرون بحوران، ويظهرون بالشام، وينبتون بالفرات، ويبرزون في الشهباء بالبطولات، وبالعدية كانت لهم قصص فداء، وبالخضراء حكاياتهم ملأت الآفاق، وببلد النواعير لهم شامخات، وأنباء، أما الساحل فهم فيه حكاية ثورة.