خارج النص

عبد الوهاب القطراوي

عبد الوهاب القطراوي

مقعدٌ خشبي، وشوارع مكتظة بالوجع،  ومدينة موغلة في الضجيج ، واثنان يتعاطان الحياة معاً، يستندان إلى جذع شجرة يعلو حفيفها وينخفض كشخير سيدةٍ عجوز، اقترب منها حتى صار صوته مسموعاً، همس:

- أنت أنثى مسكونة بالخوف!!

- وأنا لا خوف يخيفني سوى غيابك!!

-أي غياب وأنا معك؟

- أنت لست معي دائماً، عندما يهوي الليل وتُمضي ساعاته على أطراف المخيم، يؤرقني الخوف، كل صوت عدا صوتك هو نذير شؤم، حتى عندما نضحك يجتاجني الخوف!!.

- أنت محقة، في بيتنا القديم، وسط المخيم، كانت جدتي عندما نستغرق في الضحك تستعيذ من الشيطان الرجيم، تتمتم وهي تمسح دموعها "الله يسترنا من وراء هذا  الضحك الليلة"، وعندما يحل الليل ويبدأ صوت الغربان في السماء، ودوريات الشؤم بين الأزقة تطرق الأبواب وتُخرج الجيران لمسح الجدران، تنتشي جدتي، كأن نبؤتها قد تحققت.

قطع حوارهما،غيمتان حبلاوتان، اشتبكتا، أنجبتا مطراً ورعداً وبرقاً..

تمتمت:

-أنت مسكون بقصص المخيم، تقحمه في كل حواراتنا، 

- كيف لا أكون مسكوناً بالمخيم وأنا ساكنٌ فيه، في المخيم كانت حياتنا بسيطة، كنا عائلة واحدة، نتشارك الوجع والفرح والفقر وحرارة الشمس التي تضرب ألواح القرميد  فوق رؤوسنا فتلفح رقابنا ليلاً،  ، كنا نتقاسم كسرة الخبز، وأوجاع البائسين وأحزان الغائبين وأفراح العائدين ، كنا نتقاسم بيوت العزاء و وصايا الشهداء. ما أتعس اللحظة التي بتنا نتقاسم فيها انقسامنا!!

تابع .. " حتى هذا المطر الذي يهوي فوق رؤوسنا، عندما كنت في بيت المخيم كان ضجيجه مغايراً، يبدأ العزف  خفيفاً خفيفاً وليلاً ، يشتد وقعه شيئاً فشيئاً، حبات المطر تقرقر فوق ألواح القرميد بعنف، يبلغ الذروة عندما يتساقط البرَد، وتبدأ مياه المطر تتسرب عبر المزاريب، في داخلك تتمتم "اللهم صيباً نافعاً" وتغرق بعدها  في  لحظة أعجز عن وصفها تشبه لحظة الإنتشاء، تسكن السماء من فورها، ويسكن بعدها كل شيء!!"

انتابها الذهول، وقالت:

- أنت باذخٌ في الحزن والحياة معاً، صرت أخاف أن أضحك أيضاً وأنت معي!!

- وأنت مغدقة بالحياة، وأنا صرت لا أضحك وأنت لست معي!!

- إذن فلنضحك ملء الوقت الذي نكون فيه معاً!!

مقعد خشبي، وشوارع مكتظة بالوجع،  ومدينة موغلة في الضجيج، وأحياء دمرها القصف والموت، و واحدة تتعاطى الحزن بمفردها، والريح من حولها يحمل أوراق شجر وصور غائبين، وبقايا ضحكات أسقطها الخريف، و وردة مخمليةٌ حمراء تلف عودها بأطراف ثوبها الأسود العتيق، وتمتمات يحملها إليها هزيز الريح " عندما أموت لا تهديني سوى الورد، فلا شيء يشبهك سوى الورد وضجيج المخيم".