وشاية

عصام الدين محمد أحمد

يطلب المدير فجأة دفتر الحضور والانصراف، تذهب إليه متسكعًا، يبادرك بالقول:

 خذ الدفتر إلى المكتب الفني.

 ياسيدي ياما قرعت الطبول والحرب لم تدور.

تصعد ستين سلمًا، أنفاسك تلهث، جسدك يأن خمودًا:

 ماهي جريرتي ؟

 غلبنى الوهن، وغادرتني البطولة، تكلست حوائط نفسى جميعها.

 جهز نفسك للعقاب.

 ريشى منتوف ومافي مسامي موضع لجرح جديد.

زخم الهلاوس يكبل خطوك بتكرار التوقف، ترتعش ركبتاك، يقولون لك في السكرتارية اترك الدفتر:

 لماذا الهوس بالدفتر؟

 آه تذكرت ـ الآن ـ أن عبدالرحمن أتصل بى قائلا:

 المتضاهرون يقطعون الشوارع والميادين،والجو مليد بالغيوم، أيمكنك أن توقع لى قبل حضور المفتش؟

فكرت في الأمر، أقنعتنى حجته، لم أتريث، وقعت بدلا عنه، وقعت أيضا لزميلين آخرين.

 أدركت ـالآن ـ أن اللوحة تلطشت ببقع سوداء، والعقاب سيأتي لامحالة.

عدت إلي الإدارة وذهني مشتت، أؤنب نفسي، تهرسني المخاوف، تقلقني الهواجس، هذا الرجل القابع خلف مكتبه لن يرحمني، سيصنع مني أمثولة وأضحوكة، لكل موظف ، اسمي مدرج في القائمة السوداء،سبق وأن أصدر قرارًا بإيقافي عن العمل شهرين كاملين.

لم أسع لمقابلته واستعطافه حتي يعفو عني، والآن سنحت له الفرصة للتشفي والسخرية ،جلست فوق مكتبي منتظراً:

أيمكن لسفينتك أن تنجو من فوران الأمواج؟

 لم تمر نصف ساعة وطلبني للمثول أمامه، يتفصدني الارتعاش، أتلعثم وكأنني لم أتعلم الكلام بعد، تارة أشجع نفسي بالتهوين من الحدث، وأخري أتوعدني بفصل الرقبة، دقائق وتجدني واقفًا أمامه، يبادرني بالقول:

أين عبدالرحمن و رجب والششتاوي؟

أستلهم آيات الكذب، الإنكار سيد الأدلة، أهينم:

 لا أدري.

يمتلئ المكتب بالضيوف، بأمر قاطع يستكتبني مذكرة:

وقع الموضحة أسمائهم أدناه حضورًا، وبالسؤال عنهم تبين خروجهم دون إذن، مما يستدعي معاقبتهم لخروجهم عن مقتضي الواجب الوظيفي.

غادرت الغرفة،انزويت بعيدًا عن الأعين، توجعني المطارق، أتقزم، لايقدر بدني علي حمل نفسي، الوشيش يصم آذاني:

 لماذا الكذب:

 النجاة في الصديق.

 ألم توقع لهم؟

 بلي.. ولكن أليس من حقي مراعاة ظروفهم ؟

 من أنت؟

يتثاقل الوقت، أضحي الترقب مأساة، تستدعي الاتصالات المتوالية الغائبين ، أتشبت بطوق النجاة، وعلي أسوأ الفروض الجزاء الإداري لن يكون كالقتل بسكين، أعابث جوارحي المتقدة، أذرع الإدارة طولًا وعرضًا، ربما تقضي الحركة علي التوتر، ترديه قتيلًا، شهيدًا، جريحًا ومخبولًا.

قدم الثلاثة، رسمت لهم التوقيع كما بالدفتر، وأقنعتهم أن الإقرار بالتوقيع وإن كان مزورًا يعفي من المسئولية، وعليهم أن لا يضعفوا أمام المحقق، ويحتاطوا من حيل الترهيب.

 صعدوا إلي الأمانة العامة، لكي يثبتوا حضورهم لحمًا وشحمًا، ويبرروا غيابهم، تمر ساعة، ربما أكثر من ساعة.

 أفكر ـ جديا ـ من هو مفجر قنبلة الوشاية؟

 أتجول بين الأوجه الكثيرة القابعة خلف الحاسبات.

 أيمكنك سبر أغوار النفوس واستنطاق الواشي؟

جميعهم يظهرون آيات الامتعاض، ولا أدري من الصادق ومن الكاذب، والشئ اللافت للتدبر هو تكاثر المفتشين حينما يسند إليّ الدفتر، فانت ـ الآن ـ علي يقين أن هناك من يسعي جاهدًا لزحزحة الدفتر من بين يديك، والسؤال الملح أيمثل لك الدفتر شيئا جوهريًا وحيويًا، أيضيف إلي اسمك لقبًا جديدًا، أيدفعك للترقية؟

من اليسير أن تدرك وجود الكثيرين الذين يكرهونك، يبتسمون في وجهك وحين الغفلة يفجرون جمجمتك ، ماذا يريدون؟ ظروف وظيفتهم لن تتكرر ثانية، يتقاضون أجراً كاملاً مرتفعاً مقابل نصف ساعات العمل ، وزملائهم الشباب علي المقاهي يتجرعون البؤس والفاقة، الآن لاتقل أنني أنحرف لأتعصب ضد وجودهم، أفرز جراثيم الرفض ،ربما يكون أعلانك هذا الموقف أمامهم اكثر من مرة مدعاة لمثل هذه التصرفات الانتقامية!

يستجوبني:

 لماذا وقعت لهم ؟

أرد في آلية:

 لم أوقع لهم.

يضرب الجرس، يأتي المحقق ، يقول منتصرًا:

 عبدالرحمن قال أنك وقعت له.

يلتقط الخيط قائلًا:

 من يكذب في حضرتي جزاؤه عسير.

أعلق وجلًا:

 أعلم هذا جيدًا.

يرمي إلي حبل النجاة قائلا:

أصدقني القول وسأتغاضي عن التجاوز.

وكأنني في التيه، لا أعلم سبيلًا للنجاة. ذهني فقد بوصلته، تنقلي علي المقاهي طوال شهرين كاملين يأز في نافوخي، افلاس البيت من الطعام يكبلني، نظرات التشفي والعبوس تلاحقني، حتي الاصدقاء يتجنبون الحديث معي، لا مفر من الاعتراف:

 بالفعل وقعت لعبد الرحمن.

يسأل:

 لماذا أنكرت في البداية؟

 رددت عليه قبل أن يجتاحه الغضب.

 مالم تعدني بالعفو ماتفوهت بالحقيقة.

عقب بإقتضاب.

 لا تكررها ثانية.

قدماي تسوخان فى رمال الوهم، كاد جسدى أن يتهاوى، لا وقت للتأنيب أو التأمل، لا وقت لأى شىء، جلست على الفوتيه المتاخم لحجرته ، أختنقت أنفاسى، وشحب لونى، وأرتجت أركانى، فالإنسان المحتل موقعه فى الفراغ فراغ، صورته هلامية، وكينونته عبث.

نزلت الشارع، عبرته بصعوبة، تباطئت الخطى، لمحت عبدالرحمن يتبعنى، فحاولت أن أمشى سريعًا حتي لا يلحق بي:

بذورى حلفاء كذب، وأرضى لا تطرح إلا نبتًا شيطانيًا.

 حاذنى وأطلق قنبلته التبريرية:

لم أقصد الاساءة إليك.

أتسلل بين السيارات، أتوه فى الزحام ، ولكنه لا يدعنى أغيب عن عينيه، لن تفيد تبريراته، وخاصة أن كلا من رجب والششتاوى أصرا أمام المحقق أن التوقيع توقيعهما، والمقارنة بين موقفهما وموقف عبدالرحمن فارقة، فعبد الرحمن لم يع أننى خدمته الخدمة الجليلة، صدقته وألتمست له عذر التأخير:

 الشرطة والجيش يطاردان المتظاهرين، والميكروباص حائر لا يجد منفذًا للهروب، وتأخيره حادث لا محالة.

 بالطبع سافرت به الأهواء، ولبسه الخوف فأعترف أننى زورت له التوقيع، أيحق لى أن ألتمس له العذر؟

قد تطول المطاردة فأقول:

 الموضوع أنتهى يا باشا ولا داعى لنبش الرفات.

يصر لاستئناف إيراد الحجج:

 قال لى المحقق أنك كتبت مذكرة ستقضى على مستقبلى الوظيفى.

حضوركم يدحض المذكرة.

يسعى لجرى إلى حوار، ربما يستفزنى ليقر بإنه لم يرتكب خطأ، تترى المشاهد والمواقف، كدت أن أقع أكثر من مره، تذكرت أننى عرجت على الصيدلية صباحا لشراء دواء لوالدتى، ووعدتنى الطبيبة بجلب الدواء الناقص من إحدى الفروع الأخرى، فأتجهت إلى الصيدلية، وأثناء خروجى أعترض طريقى قائلًا:

 من الضرورى أن تسمع لى.

أجبته على الفور:

 لماذا لم تطلعنى على أقوالك قبل أن تقول لى إن الكبير يستدعيك للمثول أمامه؟

 نسيت.

 لم تنس، بل سولت لك نفسك شيئا ما.

 بل غرر بى المحقق.

 عيب، دا أنت راشد.

 ليه تتهمنى أنني عاوز أوذيك؟

 سبق وأن كررت أن الموضوع برمته أنتهى، العتاب لن يغير الأمر، وما حدث كان نتيجة لغبائى.

قصدت المقهى ،  لبس المقعد جسدى المنهك، وللأسف تعقبنى وجلس فى مواجهتي، لا أود الحديث معه، أنطفأ مشعل النقاش، أريد الأنفراد:

 طالت بى السنون ولم أتعلم شيئا ذا بال، تتفلسف بالقول أن الوظيفة لا تبنى مجدًا ولا تترتب عليها مكانه مرمرقة، ، ولكن الحوداث كشفت لك بعد فوات الأوان أنه هناك من يقتل لكى يصبح مقربًا من السلطة، ولهؤلاء أدوات فتك .

 وفجاءة نهض عبدالرحمن من مقعده، يفتش جيوبه فى لهوجة وفزع، يسألنى:

 ألم تر الظرف الذي كان بيدي"؟

 أجيبه بتهكم:

 ركب جناحين وطار.

أمارات الخوف تكسو وجهه، يستطرد متعلثمًا:

 فى الظرف فواتير علاج  وضياعها خسارة باهظة.

أقترح عليه:

 يمكنك الرجوع من ذات الطريق الذى أتيت منه، ربما تجده!

أنتهى من رشف القهوة، أغادر المقهى مفتشًا عن الهواء النقى، لا أقصد موقف الميكروباص  ، آلاف الخطى تلزمنى حتى ينهد حيلى وأنطرح فوق الفراش كالخرقة البالية، تعبرنى الطرقات والشمس تفح لهيبًا.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 814