ربح البيع (( ذكريات مع شهيد ))

1 _ مدخل

وإني متى ما أدع باسمك لا تجب         وكنت حرياً أن تجيب وتسمعا

وإني رجل مبتلىً ببكاء الأحبة باكراً .. فلا يتركني الحزن يوماً خالياً ، وأعض على النواجذ ، علّ صبراً يأتي بالفرج ، وأنشد مع الشاعر في ساعة خليّة :

وصبراً إذا ضاق الخناق فإنما     إشارة فتح الباب كانت ( هَيْتَ لك )

عبد الكريم .. وعزيز علينا الفراق .. أتسمع ..؟ ولكن أين الجسد ..؟ لقد غادرنا إلى التراب .. ولكن الروح بقيت تحوم حول الحمى .. تاركةً التراب في تدمر ، حيث محاولات بائسة لدفن الحق هناك ، وينتفش الباطل في أسمال الطغاة ، والدماء الزكية التي التصقت بجدران تلك الأقبية النتنة ، بعضٌ منها دمك المهدور تحت مقاصلهم ، وانحنت الروح فوق الجسد، تودعه قبل أن تحضر جحافل المغول ، ذات صباح صيفي من عام ( 1980 ). الصبر للأحياء وليس لك، فأنت قد غادرت دار الصبر والرباط ، بعد أن فتحوا جرحك ، ورشوا عليه من الملح ، فأصبح الليل يطغى على النهار ، ولكنْ للنهار موعد ، وخلف السُّدف المعتمة ، ترنو عيون متأملة ، فلا ترى وطناً ، ولا تزهو في الأنوف رائحة حبيب ، فكل الأحبة يتقلبون على الجوى داخل سجن رهيب كبير، وأسوار لا تطال قممها يدٌ حرّة، وشوارع المدن في سورية في عام الثمانين وما بعد ، سكنتها الشياطين، التي علِقَت بلسانها رطانات لم تعهدها، ودمرت الفرح فيها أيدٍ باطشة، بعثت فيها عواء الريح الأصفر ، ومع ذلك ظلت القلوب الحرّة تختزن: (صبراً إذا ضاق الخناق فإنما   إشارة فتح الباب كانت "هَيْتَ لك") .

 

2 _ ذكريات :

 

أ _ وكنتَ الحبيب الذي لا يغادر القلب والروح أبداً ، وكنتُ الأريب القريب إلى قلبك وعقلك ، فلم تفترق أجسامنا إلا من أجل لحظة نوم أو عمل ، وكانت المساجد مأوانا ومنتجعاتنا ، نأرز إليها لعلم نتلقاه ، أو دعوة نبتغي لها النماء ، وكانت الكلمة الطيبة سلاحنا ، وكانت أنظارنا تذهب بعيداً ، إلى يوم تزهو فيه فسائل الإيمان، فتصنع وطناً آمناً حراً ، تأوي إليه كل الطير من أبنائه ، لا يخافون إلا الله ، ولا يحسبون إلا حساب خيره وارتقائه .

ذات أصيل ضمخته نسمة باردة ، وحجبت الشمس عنّا غيمة تبكي رذاذاً ، قلت لي والشارع مكتظ صامت :

_ مالك واجمٌ ، تبعث الأسى في النسمة ..؟

نظرت إلى وجهك الأسمر ذي التضاريس الناعمة ، فوجدت في عينيك نكهة روحك المتفائلة أبداً ، فقلت :

_ ابن أمّ : لا شيء في الشارع .. في الوطن إلا ويعلوه الأسى ، وتريدني أن أبتسم ..!

_ يكفي أن تجد في الأوطان من يبكي عليك وهو يدفنك ..!

أعدت النظر إلى وجهه ، كانت خصلات شعره البني الناعم تتطاير مع النسمات ، فيحاول ردّها عبثاً ، فكأن ما يحركها قضاءٌ مبرم ، وبادلني أبو أحمد النظر ، وناولني ابتسامة عريضة ، شعرت أنها اختزنت الفرج كله واللوم كله ، ثم قال :

_ ولكن ، يا ابن أمّ : أين منك وعود الكتاب العظيم ، التي تحملنا معها إلى رَوْح وريحان ، وتطرد الأحزان ، وتُسكن الأفئدة الأماني الحسان .. ألم تُعرّج على ريحانة واحدة منه تقول : (( في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) ..؟

عند سماع آخر كلمة من كلماته ، ارتعش جسدي كله ، وسرت في كياني رِعدةٌ خفيفة ، آتت أكلها صحوة قلب عتيدة تقول : تباعدت المسافات ، مع أن الموت أدنى من المسافة بين زنزانة وأخرى ، وهذا أسامة ابن عبد الكريم يبعث إليه بأشواقه اللاهبة ، لتجتاز أسوار تدمر الصحراوي ، فتضج بالنداء أذني الوالد المأسور ، وتمتلئ عيناه بابتسامة أسامة الصغير ، تتسلق تضاريس وجهه الندي ، علّها تجد موضع شفاعة .. تحنو على جراح إنسان خطفوه من حضن أسرته ، ونقلوه إلى أول بوابات المراثي .. حيث السجن الصغير لا يستوعب السجن الكبير، فيظل الذين يجهزون الأكفان يتقلبون في ساحة السجن الممتدة فوق مساحة الوطن كله ، انتظاراً لوداع أحدهم من ذوي الأرقام ، الذين ضاعت أسماؤهم بين يدي الجلاوزة ، فيحل مكانه في المساحة الضيقة جديد يضيع اسمه ، إذ يتحول هناك إلى رقم لا غير ، تُقلبُه كل يوم سياط الجلاد على كل جهاته بلا هوادة ، فلا هو يعرف لماذا وكيف ، و لا السجان يفقه معنى الإنسان .

ب _ قلت لعبد الكريم وهو يودعني ، وكنت مسافراً إلى خارج الوطن .. عفواً مشرداً : لقد وجدوا أني مدانٌ بجرم مشهود ..

_ تقول جرماً مشهوداً ..؟!

_ ذلك أني كنت أتلو سورة التوبة .. ! ومتى ..؟ أتعرف ..؟ نعم أعرف

_ عند الاستيقاظ من سبات طال ..

_ ولكن ، أليست تلك سورة قرآنية تتلى على مرّ الزمان ..!

_ يقولون لك : إنها فعلٌ وليست تلاوة . .

ولكن ما علينا .. ودّعني ، وسافرت متخفياً ، وقادِم الأيامِ غيبٌ .. وقلبي يقول : كيف يحق لك أن تترك شقيق الروح في هذا السجن الكبير .. إني أراهم من وراء الزمن يحضرون الأكفان له ولأمثاله .. فهم مثلي يتلون الآيات أناء الليل وأطراف النهار ، مارين في سبيلهم على " التوبة " ، وما لهم لا يفعلون .. أليست سورة من السور ..؟! وفجأة وأنا داخل الحافلة داهمني سؤال :

_ هل الموت ذو طعم واحد حقاً ..؟

_ إنك تمزح !

_ كيف ..؟

_ عشقنا الموت تحت شفار السيوف ، ندفع المعتدين ، ولكننا منذ أربعة عشر قرناً كرهنا الموت بيد المارقين ؛ الذين يغتصبون قرار الناس ، ثم ينصبون أنفسهم أوثاناً ..!

ج _عبد الكريم .. ألا تذكر جمعتنا يومياً .. في دمشق أنا وأنت وماهر ، وسعيد ، وعمر ، وخليل ، ومصطفى، وعز ..؟ ألا تذكر آخر ليلة كنا فيها معاً عندك في البيت ؟

وتدفق صوته الساحر في أذنيّ ، وكنت وقتها خلياً في بلاد الغربة ، ذاكرتي استرجعت تلك الجلسة الأخيرة .. وكان عبد الكريم يردّ على ماهر بهدوئه المعهود ، وكان ماهر يدرج من جديد على طريق الخير .

_ ماهر : إن الموت في تدمر ، وعذرا ، والحلبوني ، وفرع فلسطين ، و سجون المخابرات ، له طعم آخر ..

_ طعم ماذا ..؟

_ طعم القهر ، طعم الاستبداد ، طعم الذبح الطائفي ، طعم التفريط بالأرض والادعاء بالحرص على الأوطان ، طعم الهزائم ، طعم الجولان يباع للأعداء ..

 _ ولكنهم يأسرون الشوارع والبيوت والمدارس وكل شيء

_ ماهر : مادامت الإرادة حرة فالأمل منعقد .

وجاء صوت سعيد ناعماً حيياً يقول :

_ ستمطر .. ستمطر ..

قال عمر وهو يهدر على عادته :

_ تمطر ..! اجلس في بيتك إذن ، وانتظر المطر ، الداء كامن في هذا الذي تقول ، أتفهم يا سعيد ..؟

قال مصطفى :

_ المثل يقول : ( على قد فراشك مدّ رجليك ) .

_ يا له من نقاش عقيم ..! من أين تخترعون هذه " الفذلكات " ..؟! السؤال الملح الآن يقول : كيف تكون الشهادة أملاً للخلاص ..؟

وجاء العشاء .. الليلة فلافل وحمص ، والليلة القادمة حمص وفلافل ، وضجت الغرفة العاطلة من الأثاث بالضحك ، ورنّ صوت أبي أحمد من جديد : سمّوا باسم الله ، فغداً يوم آخر ، وسلاحنا الكلمة ..

 

3 _ اللقاء

 

الجمع الذي ذكرت تفرق ؛ منهم من غادر الوطن ، ومنهم من استقر في السجن الصغير والعذاب اليومي ، ومنهم من غادر إلى لقاء ربه على أيدي القتلة ، كان عبد الكريم ممن ظلّ في الوطن ، ظناً منه أن من يؤدي حق

الكلمة فلا حساب عليه ، وهو يَعُدّ نفسه من هؤلاء ؛ فقد ظل يداوم على عمله خائفاً يترقب ، وفي المساء يأوي إلى المسجد ، يؤدي فيه بعض الواجبات الدعوية بحذر ، فالجو امتلأ بالمخبرين ، والناس تُجرّ إلى المعتقلات بالشبهة ، والذي يذهب لا يعود ، ولا تُعرَف له طريقٌ ، لم يسلم من ذلك حتى النساء ، فكلما تقع حادثة ،

يقوم بها حرٌّ لم يصبر على ضيم ، تتحرك أرتال الأجهزة ( الأمنية ) ! من كل لون .. فقد كانت تتوالد كتوالد الأرانب ، تداهم وتأسر ، وتنهب وتقتل ، إذ إنهم قرروا أن معركتهم مع أهل الوطن ، أما الأعداء فحالهم معهم يقول : إن العهد معهم محفوظ ، وهو في القلب .. كيف لا ومنه نستمد البقاء .

ذات يوم ، أتاني خبر يقول : إن أبا أحمد توارى عن الأنظار ، بعد أن دبّر إجازة طويلة من العمل ، وذلك لأنه علم أن اسمه وارد في إحدى القوائم ، وقد يأتي الدور عليه حينئذٍ ، تمنيت لو أنه يفكر بالحضور إليّ في هجرتي ، قبل أن يتحقق الخبر الذي وصله ، فيوضع اسمه على الحدود ، فيصبح خروجه صعباً ، حاولت مع أحد أقاربه أن يوصل إليه أمنيتي بأي طريقة ..

في تلك الأيام سكنني قلق قاهر .. فأصبح وضع عبد الكريم ومصيره يصاحبني كل الوقت ، وكنت كلما غلبني التشاؤم أقوم بالاتصال مع قريبه ، لعلّ خبراً عنه يشفي هواجسي ، ولكن دون جدوى .. وكثيراً ما كانت صورة وجهه الأسمر الناعم ، وجبهته الصافية العريضة ، والتماع عينيه البنيتين ، وقامته المتوسطة الممتلئة بلا إفراط ، لا تكل جميعها من زيارتي حتى في لحظات انشغالي في تدريس تلاميذي ، فلا تنقطع عن حلقي حبات عيني السخينة ، فاضطر إلى السكون لحظات ، كي لا أشرق بتلك الحبات الغالية ..

ولم يكن العجز أقرب إليّ في أي وقت قربه مني في تلك الأيام ؛ فأنا لم أفعل شيئاً من أجل الشيخ عبد الكريم ، فالمنفى لا يعطي مجالاً ولا حراكاً من أجل صنع بشارة ، لكنني فتحت طريق قلبي إلى الله ، وملأت روحي بالأمل بعد الدعاء ، وركنت نفسي إلى شيء من أحلام اليقظة ، تلازمني في غالب الأوقات ، إلى أن كان ذات أصيل من خريف عام ( 1979 ) ، رنّ جرس المنزل ، كنت لحظتها أتقلب بين الصحو والغفو برفقة صورة عبد الكريم .

فتح أحد الأبناء الباب الخارجي ، ولامس مسامعي صوت ابني يقول :

_ أهلاً وسهلاً .. أهلاً وسهلاً ، وأقبل الولد إليّ وهو يصيح : بابا .. بابا .. عمو .. عمو

_ عمو .. من يا ولد ..؟

_ إنه أخوك أبو أحمد .. الشيخ عبد الكريم .

 _ الله أكبر ..

وقفزت من مكاني بقوة .. وأنا أصيح : عبد الكريم ، يا قوة الله ، يا رحمة الله ، وما أن التقت عيناي بعينيه حتى ألقيت بجسمي كله في أحضانه ، وكان العناق طويلاً ، والقبلات لا تنقطع ، وقد نسيت أدب الضيافة لقريب الشيخ الذي كان يرافقه .. إذ لم أفطن لوجوده إلا بعد لأي من العناق الحار ، فخلصت جسمي من بين ذراعي عبد الكريم ، وأقبلت على الضيف مرحباً معتذراً ، بينما كان هو يردد : الموقف مفهوم ، وعذرك مقبول ، توكل على الله .. لا يهمك .

4 _ القدر أسبق

كان عبد الكريم يختلس النظر إليّ ، وكان يفاجئني بنظراته الضاحكة وأنا أتفحص محياه ، فأغض الطرف حياءً ..

قلت له بعد أن غادرنا قريبه :

_ هذا أنت بيننا .. أعتقد أن الأرشد في الموقف أن تبقى هنا ..

_ اترك البت في هذا الأمر للأيام ، وللوضع على الأرض هناك ، ليس من الحزم أن نترك مكاننا فارغاً ، إن كان في الأمر متسع .

وساد المكان صمت قلق ، فلم يكن يُسمع إلا صوت الشفاه ، تسحب الشاي من الكؤوس بعد عشاء دسم..

وقطع عبد الكريم الصمت قائلاً : لقد عَهِدتُ إلى الأهل أن يراقبوا الموقف في الحارة ؛ إن كان هناك تغير في

الحركة ، أو كان غرباء يجوبون شارعنا ؟ ثم ليرسلوا لي مع ( محمد اليلداوي) برأيهم ، وعلى ضوء ذلك نقرر معاً الخطوة التالية ، وإني لأدعو الله أن ييسر لي عودةً آمنةً ؛ فقناعتي التي أدين الله عليها أن مكاني هناك ، وليس في أي مكان آخر .   

كانت كلماته توحي أنه يرجح العودة إلى دمشق ، ولو ببارقة أمل غير مؤكدة ، وقلت في نفسي سراً : سيظل إصرارك هذا يكبر في قلبي ، وأتساءل : هل اليوم القادم يكون أبيض كالفجر الأبلج ؟ إن الذي قرّ في خلدي وكنت أراه رأي العين هو شحوب الكلمات في سطره ، واختلست النظر إليه ، فوجدته ينتظر تعليقي على موقفه ، فشعرت بالخجل لأني أبطأت عليه .. فبادرته القول :

_ اسمع يا ابن أمّ ، انفجر بالضحك عندما سمع الكلمات ..وقال : أما زلت تذكرها يا ابن أمّ .. ثم عاد إلى الضحك ..

_ لا تضحك يا ابن أمّ .. إني سأسمعك كلمات جادات : الحذر لا يمنع من القدر ، ولكننا مأمورون بالأخذ بالأسباب ، وإنك أخبرتني بذهابك غداً لزيارة بعض أقاربك ، وستمضي معهم أياماً ، ولكني أحذرك أن تتحرك أية حركة إلا بعد أن تعود إليّ ونتشاور .. ثم نقرر خطوتك التالية .. هل هذا الذي قلته يجد عندك قبولاً ..؟

_ مئة بالمئة ..

 _ على بركة الله ..

وطالت أيام غياب عبد الكريم عني ، وانتابتني الهواجس ، وقررت أن أسافر إليه لأستجلي الخبر .. إلا أنه في اللحظة التي عزمت فيها الانطلاق فاجأني قريبه بحضوره ، ليخبرني أن أبا أحمد جاءه الخبر من هناك : أن الأمور عادية ، وليس من حراك غريب في الحي .. فعاد والتحق بعمله مباشرة .. وعلمت فيما بعد أنه بعد أن قفل راجعاً من العمل إلى بيته بعد الظهر ، وقد كان يتوضأ على المغسلة الموجودة في " قاع الدار " عندما داهمته دورية كبيرة اقتادته إلى المجهول ، بعد أن تركوا زوجه وأسامة الصغير وأمه يولولون ، ويدعون على المجرمين الذين دفعوا أسامة المتعلق بأذيال والده لا يريد تركه لهم .. وكان سجن تدمر هو المأوى الجديد . ويوم غزو الوحوش من سرايا الدفاع وجيش المخابرات السجن الصحراوي ، دخل هؤلاء على المعتقلين العزل وأعملوا فيهم بآلاتهم الجهنمية قتلاً ، وصدق ظنّي بأن أكفان عبد الكريم كانت تنسج في دوائر الجلادين، قال الراوي: ولكن رشقات من دمه ظلّت مرتسمة  على جدار السجن ، ترسل رسالة تقول : أسامة .. أسامة .. جاء دورك لتقف لهم ، فلا ينقطع الصف، وظلت (لا ينقطع الصف) تتوارث حتى حضرت بين الناس عام 2011م، فضجت الشوارع: (الله أكبر..الله أكبر.. الله.. الوطن.. الحرية.. الكرامة.. وبس)، ولن يصمت الوطن والأحرار عنها مهما طالت الأيام، ومهما عدت الأوثان.     

 

وسوم: العدد 814