مساحات من الزمان والمكان تبكي الإنسان

-1-

تصرخ فيّ الكلمات.. أكتب..

-أكتب سيرة طحن الإنسان في وطنك.. أكتب عن تحوله إلى أرقام.. إلى رهينة تظل مكبلة حتى يفكَّ الرهن بتزلفٍ من كلام.. يرضى عنه السلطان.. ذلك الذي منح الذل والهوان في عروس الشام للإنسان، وهو يقهقه فوق الكرسي ويتكلم بطلاسم سرقت من الأطفال معنى الزمان والمكان..

-كم.. وكم من الصفحات سأكتب عن ذلك الزمان وحتى هذا الزمان.. لن يسعفني العمر لأنتهي من السرد، ولن تمدني القراطيس بما يكفي للتمام..

-أكتب الآن عن شيء مما كان، وبعدها لكل حديث وقته والأوان.

-إذن فأصخ لي السمع، وضع أذنك عند أول الكلمات، وأمسك بها قبل أن تولّي هاربة، خوفاً من ذكرى سيرة همج يسترون بربريتهم بليل حالك، فكأنما هم زوار حقد يخلفون وراءهم عيوناً دامعة، وقلوباً كسيرة، وعقولاً حائرة تتساءل:

-لماذا تحوَّل الزحف عند هؤلاء من مباغتة الأعداء.. إلى زحف يداهم الأهل في بيوتهم الشامية الدافئة، مثل سيل أعمى يترك الأمكنة باردة فاقدة..!!

-أنا مصغٍ لك.. بقلبي يلتقط كلماتك الهاربة من عمى السيل.. فاسرد ما أنت سارد.

-2-

-إلى متى سنظل نترقب المداهمة، ونغيب عن بيوتنا؛ طيوراً مهاجرة، ثم نعود.. لنجد أنفسنا تُقَرِّعنا.. فإلى متى..؟!. هكذا قلت في سري، وكنت أرقب زوجي، وهي تجلي الصحون بعصبية، وتتمتم بكلمات، سمعت بعضاً من همسها يقول:

-هذا الحال ليس بحال.. ألا يكف هؤلاء الأوغاد عن محاصرة الكلمة، وتعقيم العقول.؟.. ولما انتبهت الزوجة لوجودي، نفضت يديها من الماء، ثم نشفتهما بقطعة من (البشكير) وملأت وجهها بابتسامة عريضة، لم أدر أهي مشروع ضحكة أم مشروع بكاءٍ، غير أنها عاجلتني بقولها:

-ما هو شأن هؤلاء الجلادين..؟ أيظنون أن الوطن خلق لهم وعلى قدّهم.. فهم لا يرون الأوطان إلا على نهج فرعون من قبل حين قال: ((لا أريكم إلا ما أرى))، بل إنهم زادوا عليه حين اتخذوا شعاراً يقول: لا مكان في الوطن إلا لمن آمن بنا سراً وعلانية، فراحوا يحاسبون الناس على النيات.. من كان ينوي.. كذا.. فعقابه كذا.

-رميتها بنظرة إعجاب.. تود لو أن القلب فُتح لتضع هذه الجواهر ذخراً داخله، ثم تغلق عليه ليكون درساً للزمان وعبرة..، لقد تواطأ كلام الزوجة مع شعر كان مخزوناً في ذاكرتي الواهنة تلك اللحظة، فاستدرج الاثنان سويداء القلب، شطرات منه، مع شعر كان مخزوناً فتغازل الشفتين الجافتين:

(يتنزى دفئاً حضن  الليل الشاحب، وأنا محصور خلف الليل..)

(أترنح أوشك أن أهوي، لكني حتى الساعة لم أفقد ذاكرتي)

(أختزن الماضي حرفاً حرفاً.. أعرف كل الصور الملقاة على أعتاب القهر)

(أعرف أن الليل يعملقكم، أعرف أن الليل طويل جداً في قطبي)

(لكن حدود التاريخ تطول وتقصر، هل تدرون..؟)......

(فلتنزع عن وجه الماضي أقنعة الأحقاب)..

ولذلك فأنا اللحظة أكتب...

-3-

-أين سرحت أيها الرجل..؟ وإلى أين وصلت يا أبا خالد..؟

-اتركني أكمل..

كان ابني خالد قد دخل عائداً من المدرسة، وقد سمع آخر كلمات أمه:.. ((إلى أين وصلت أبا خالد.. فقال:

-أمي.. أبي مازال أمامَكِ لم يذهب مع أحدٍ منهم.. أما سمعتم خبر مداهمة بيت أبي أحمد الليلة واقتلاعه من بين أولاده وأهله.. وهو الرجل الطيب المسالم.؟

شهقت الأم شهقة كادت تقطع نفسها، وانتظرت هنيهة حتى هدأ روعها، وامتلكت المبادرة، ثم قالت لابنها وبكرها الذي وصل الصف الثامن في مدرسته.

-ومن أخبرك هذا الخبر أيها الشقي..؟..

-كل المدرسة تتحدث بالخبر، ثم إن ابنه أحمد لم يداوم اليوم.

-وماذا يقول الشباب في مدرستكم..؟

-إنهم يتهامسون ولا يعلنون، ولكن تضاريس وجوههم تنم عن ألم مكتوم يكاد يفجر قلوبهم.

قال الوالد:

-هذا قدرنا في الشام، كل منا ينتظر ساعة مداهمة، حيث تسود ثقافة إلى متى..؟ فهل لهذا الليل من آخر..؟.

-إنه لوضع محزن..! وهل بعد هذا الشر من خير؟ أو كما يقولون: هل في آخر النفق من ضوء..؟

كانت أم خالد تردد هذه الكلمات المتحشرجة وهي تربت على كتف خالد، ثم تضيف:

-(الله يرزقكم أياماً خيراً من أيام الويل هذه).. فما كان مني إلا أن بادرتها القول:

-إنا منتظرون.. توكلي على الله يا أم خالد (لا بد من الليل أن ينجلي).

أدارت أم خالد وجهها صوب زوجها وهي تقول: إلى الغداء.. هيا يا أبا خالد.. هيا يا أولاد.. يا بنات.. لقد طبخت لكم اليوم فريكة مع دجاج وسوف تسرون..

بعد الغداء، اضطجع أبو خالد فوق سريره، لكن صورة أبي أحمد لم تغادر مخيلته، فسافر معها بصحبة أفكار راودته، وترددت في صدره المأزوم: لا تعرف الحداء، يقبلون عليك أيها الوطن بتجارة مزجاة، لا يسومها أحد، فهي لم تعرف الصدق يوماً.. إذ كانت تقدح عيونهم قتلاً مراً، وقمعاً أسود، كل هذه المهرجانات التي يديرونها. تتحول عرياً للوطن.. للناس، فهل غير العري تنتج انتخاباتهم؟ وهل غير العري تنتج الشعارات.. إنه اليباب يحط في أرض الخير، على يد من تنطق أحرفهم بالنفاق.. بالموت.. بالكراهية..)).

-4-

لم أصح من نوم استغرقني وأنا سارح مع تلك الأفكار إلا على صوت أذان المغرب، ينطلق من مئذنة الحي حيث كان أبو أحمد الإمام الطيب حاضراً أبداً، وعلى الفور جال في خاطري السؤال التالي:

-ترى.. هل أجد أبا أحمد في المسجد يؤمّنا في الصلاة الآن، ويكون كلام خالدٍ مجرد إشاعة..؟ طردت السؤال مباشرة، ثم قمت إلى وضوئي.. وأنا أردد: أرجو أن لا يخيب ظني.. تسارعت ضربات قلبي وأنا أدلف برجلي اليمنى إلى حرم المسجد.. في البداية، وقبل أن أتوسط الحرم، كان قلقي يمنعني من أن أوجه نظري مباشرة ناحية المحراب، استمهالاً للنتيجة.. لذا فقد تسرَّعْتُ الخطا دون أن أفعل، لكن دقات قلبي ازداد وجيبها، وفي صدري احتدمت شتى الأفكار، كان الأمل والخذلان فيه يتصارعان على المكان، ولا أدري لماذا ترددت في كياني تلك اللحظة جملة مرت معي في كتب التاريخ، تصف فعل جلاوزة الاتحاد والترقي التركي في آخر أيام الدولة العثمانية، حين كانوا يداهمون البيت ليلاً، فيطرقون أبوابها الآمنة، دقات راعبة، وعندما كان يأتيهم السؤال الراعب: من الطارق..؟.. يقولون: افتح جمال يدعوك؟!!.. وعندها يرتج البيت من الداخل، لأن باقي القصة معروف، حيث كان الناس يذهبون، ثم لا تعرف لهم طريق.. أهم يذوبون في مياه البوسفور، أم يغيبون وراء الشمس على حدِّ تعبير جلاوزة مصر بعد الثورة (الانقلاب).. وصحوت من شرودي خلف تلك الصور القاتمة من تاريخنا، على آخر جملة من الإقامة، لا إله إلا الله.. فقلت بدون تردد.. صلى الله على حبيبنا محمد أهل الخير والفلاح والعدل والأمن.. اللهم رب هذه الدعوة التامة.... وجاءني صوت من خلفي.. تقدم أبا خالد وأُمَّنا.. فرَّج الله كرب أبي أحمد.. التفت باتجاه القائل وكانت عيناي مبتلتين بدمعتين حارَّتين، هزمتا الأمل الذي كان يصارع الخذلان في صدري، وتقدمت إلى المحراب، وعلى شفتي كلمات تأبى أن تتدحرج: ((لا حول ولا قوة إلا بالله.. كأن هذا نذير دوري.. الله أكبر.. معلنة.. وأعزُّ وأجلُّ مما أخاف وأحذر في سري.

-5-

في اليوم التالي، وكان الشارع مبللاً ببعض مطر ربيعي خفيف، هطل الليلة الماضية، وقد عوَّدنا نيسان على مثل هذه الهبات الخفيفة، وكنت أسير بحذر خوفاً من الانزلاق، بينما رحت أحيي أو أردّ على تحيات المارة من أهل الحيّ، الذين أحبهم ويحبونني، ولكني بحدسٍ خفي، كنت أرى في عيونهم ملامح إشفاق علي، تصدر عن حزن عميق يسكن العيون، مذ كان تشرين (التصحيح).. ذو الأيادي الباطشة، والعيون الحاقدة، والفعل المدمِّر. ولا عدمنا ذكريات الجلاء التي مسخوا صورتها بمهرجانات تشرين الفاسقة. وعندما بلغت الشارع الرئيسي المؤدي إلى مدرستي، التي تبعد عن منزلي مسافة ثلاثمائة متر، استوقفني صوت الجزار الشامي الصديق، الذي أتعامل معه لتأمين حاجات عائلتي من بعض اللحم:

-صباح الخير أبا خالد.. قلوبنا معك.. الله لا..

وضعت يدي على فمه قائلاً: أبو ياسين لا تكمل.. أخشى عليك..!

-أبا خالد.. أنا لا أخاف أحداً إلا الله.. لا يهمك.. ولكن كن حذراً.. لا تدعهم يتمكنوا منك.. غادرته وأنا أوصيه.. أنت تحتاج إلى الحذر يا طيب الروح.

كانت المدرسة على حدود بساتين الغوطة الشرقية يلدا وما بعدها، حيث كنت أستمتع بخضرتها اليانعة، وأنا أشرح الدرس، من خلال النافذة المطلة على ذلك البحر الأخضر المتصل بزرقة السماء، حيث كان يُدرّ على البلد شتى الخيرات التي ينعمها الله، وتلقى الشكر من أهل الشكر، ومن الطير يصدح فيملأ الأنحاء بعذب الشكر والامتنان للمعطي الكريم.. ليختلط شكر التغريد، ببعض شكري الذي كان يملأ صفحة قلبي وجوانب روحي. ولم يكن يفسد عليّ تلك الصورة الساحرة، إلا خلط الاستمتاع بها بالتخطيط لكيفية الهروب، إذا داهمنا الهمج هنا في حرم المدرسة، وكانت شجرة الصنوبر التي تعانق النافذة، وتمتد إلى خارج السور، هي الملاذ لي في آخر المطاف للنجاة، الموسومة بتوفيق الله.

-6-

عندما وصلت بوابة المدرسة العريضة، وقفت أتفقد أوراق التقرير الطبي والإجازة التي منحها لي مستشفى جامعة دمشق.. حيث حللت به نزيلاً يوم البارحة صباحاً، بمساندة أحد الأطباء الطيبين المقيم فيه متخصصاً في الجراحة.. قلت له:

-   عملية بسيطة جداً أريد من ورائها أن آخذ إجازة، أتغيب فيها عن البيت والمدرسة، لأن فلاناً اعتقل بسبب ورود اسمه في حفلات التعذيب، ولا أستبعد أن يُضطرّ لذكر اسمي في مثل تلك الحفلات الجنونية، وهو اللصيق بي سكناً وصداقة.. وأنا لا أريد أن أذهب هكذا بلا ثمن.. وأنت تعلم أننا لم نفعل إلا ما أمرنا الله به من بذل الخير؛ بالكلمة الطيبة لكل من نلقاه، ولا شيء غير ذلك. فأجابني دون تردد:

-       تكرم عيونك (لك خاي).. الآن أدخلك وأهيئ لك كل المطلوب.

وقد تمّ كل ذلك بسلاسة وسرعة وتعاون من كل من كان موجوداً في المستشفى وشارك في الإخراج، بل رأيت السرور الوافي والشعور بالغبطة الكاملة في عيون الممرض والممرضة اللذين شاركوا الطبيب العملية، التي لم تحتج إلا لتخدير موضعي قليل المساحة.

ونعود إلى المدرسة.. دلفت من بوابتها العريضة، إلى حديقتها الشاسعة الأبعاد، المباهية بشجيرات الورد الجوري التي أخذت بالتفتح، واستقبال الداخلين بشذاها المنعش، ونضارتها التي تسبح الله، وتعظم خلقه.. قلت هامساً:

-       ليس لمن هو في مثل وضعي أن يتمتع بهذا الجمال...

ولكن صوتاً آخر ردّ عليّ يقول: أنت تعرف منذ البداية أن طريقك محفوف بالأشواك.

-       نعم.. نعم.. ولكن..

يبدو أن (لكن) هذه ألقت بنفسها بين شفتيّ، فانتحرت في الفضاء، دون أن أنتبه لفعلها لألجمها.. إذ أن زميلي مدير المدرسة وقد حاذاني في الدخول من البوابة بادرني بالقول: (ولكن.. ولكن..) ماذا يا أبا خالد..؟ هل تتكلم مع نفسك؟ أعتقد أنه ليس بعد.. لم يحن الوقت..

-   ومن قال ذلك يا أبا الخير.. صباح الخير أولاً.. ثم دعك من هذا الهراء.. (ليس بعد).. (لم يحن الوقت).. ألم يفسد حزبكم علينا كل شيء..؟

-   (هس) الحيطان لها آذان.. واقترب الرجل مني، ثم همس في أذني (عتبك على من يحترم أحداً منهم أو شيئاً مما يقولونه)، ودَعْها في سرك... (طيّب)؟ وتعبأ هواء الصباح من حولنا بقهقهة أزالت شيئاً من الاحتقان في صدري.. ثم بادرته..

-       إنه الحرص على الإدارة إذن.. نحن نفهم على بعضنا من أول الحكاية.. يدخل الواحد الحزب من أجل مثل هذه الأشياء..

وقهقهنا مرة ثانية، ودفعني أبو الخير أمامه قائلاً..

-       أراك مهموماً.. أين تفاؤلك.. ثم ما هذه الأوراق التي بين يديك تتفقدها، وتحدث نفسك من أجلها..

-       لقد عملت عملية بسيطة في كتفي، وأعطوني إجازة لمدة أسبوعين.. وقد حضرت لأقدمها لك وأودعك..

-       خير.. خير إن شاء الله.. أجر وعافية..

-       بسيطة.. المقصود.. الإجازة..

-       ها.. آه.. آه.. فهمت.. الآن فهمت.. هات الورقات.. وعجل بالذهاب.. نرجو الله أن نلقاك قريباً على خير.

-7-

لقد أثارت فطنة المدير وتعاونه دهشتي.. نعم.. إني أعلم مدى هشاشة انتماء الكثيرين للحزب، ولكن أن تجد التعاون وتفهم الأمور من بعضهم، فهذا لا تفصح عنه إلا التجارب، وقد حصل.

وعدت إلى منزلي، بينما كانت رشاشات من رذاذ نيسان تبلل وجهي، فتبعث في جوانحي رعشة أمل وتفاؤل، دخلت بها إلى المنزل بحيوية فائقة، وأنا أنادي:

-       أم خالد.. أين أنتِ.. إليّ.. إلي..

-       ها.. خير إن شاء الله.. لعلها فُرجت، أراك متفائلاً، عيناك تتحدثان بحديث الأمل..

-       تعالي، لا بدّ لنا أن نتحدث الآن، فلعلنا لا نلتقي بعد اليوم..!!

لم تستوعب المرأة حديثه.. ورددت بصوت خافت.. (لا نلتقي بعد اليوم).. (فأل الله ولا فألك).. ولم كل هذا التفاؤل والحيوية إذن..؟

-       فهمت ما يدور بخاطرك، ولكنك تعلمين أننا الآن نُمتحن.. وقد اتفقنا من قبل على أننا قد نواجه مثل هذا الموقف.. أليس كذلك..؟

-       بلى.. بلى.. فالذي يبني بناءه في الأعالي.. لا بدّ أن يواجه الصعب للوصول..

كانت تخالط صوتها دمعة ذات عبق حزين، لكنها تابعت كلامها قائلة بلهجة حازمة تسكنها رنة قهر:

-       أبا خالد.. لا إله إلا الله.. محمد رسول الله، بها سنوقف قلب الليل.. هل تدري..؟

-       أم خالد أنا واثق..

-   سافر أنت الآن وإن لم نلتقِ في هذه الدنيا، فسوف نلتقي على حوض المصطفى، ولا تحمل همّ شيء.. كل الذي اتفقنا عليه بالنسبة لوالديك والأولاد، وبالنسبة لإعطاء إشارة معينة أضعها على شرفة المنزل –إذا جاء الهمج- كي لا يقرب إخوانك المنزل، فيقعوا في مصيدة المحتلين الأوغاد..

-   أعرف أن الشمس لا بد أن تطلع من بين الغمام والضباب، ومن بين غلالات من نحيب، تمزقها فتبعث الدفء في الحياة من جديد.. وأعلم أني قد أودعت الأمانة في خصب الحبّ والوفاء.. إلى اللقاء..

-8-

في ليلة ذلك النهار حضر البرابرة.. روّعوا الأطفال الثمانية (سبع بنات وولد ذكر واحد)، ضربوا الوالدة العجوز بكعب البندقية.. عندما صحت من نومها على ضرب الباب الخارجي الصاخب، فخرجت إليهم وهي تقول: مهلاً أيها الوحوش، ما الذي تبغونه؟ أأنتم بشر حقاً، أم أن نفوسكم قدّت من حجارة؟.. أغمي عليها من أثر الضربة وأسعفتها الزوجة، بعد أن احتلوا المنزل، ونهبوا المكتبة، وسكنوا في حجرة الضيوف، يتصيدون الزوار، وملؤوا سطح البناء مع بنادقهم، لكن فألهم خاب، وقال لهم الناس من المارّة بلسان الحال: إننا لم نرَ ولم نسمع لفعالكم مثيلاً، حتى من يهود..!! وبعد مضيّ أيام وهم يحتلون المنزل، يئسوا وغادروا..

والتحقت العائلة بي بعد شهرين، في دارة عربية آمنة مضيافة، ذات حسب ونسب.. وها أنذا أكتب، وخالد إلى جانبي وقد أصبح رجلاً ذا عيال يقول لي: أبي، ها هو الألم الذي تحدثنا عنه يتفجر الآن كلمات حق حرة تسطرها للأجيال.. وها هو جواب كلمات أمي أيام كنا في أسرهم، تتحول اليوم إلى أملٍ بالخلاص..

-       قل إن شاء الله يا ولد..

-       إن شاء الله.. وما عنده قريب..

 

وسوم: العدد 817