حب فلسطين

_ مساء الخير ، عمي !

تلمست مصدر الصوت الذي نبع من الجهة اليمنى ؛ في عتمة الحادية عشرة التي يمازجها ضوء واهن من زجاج نوافذ بيت في الدور الثاني ، في شارع خالد بن الوليد . المصابيح مطفأة ، والمحلات موصدة من أول النهار إضرابا في ذكرى يوم الأرض ، ومرور عام على مسيرة العودة وكسر الحصار . لمحت فتى في حوالي السادسة عشرة ، طويلا نوعا ، نحيل الجسم ، يحمل على كتفه علما معقودا بعصا .

سألته : كنت في المسيرة ؟!

فتوقف ، وقال : شاركت فيها . دائما أشارك فيها .

تبينت هوية العلم . علم فلسطين . ليس علم فصيل .

مازحته : إذن تحب فلسطين ؟!

_ كيف عمي ؟! لا تحبها أنت ؟!

_ أحبها ، ألست فلسطينيا ؟

_ كل فلسطيني لازم يحبها .

تعبي المرهق من العمل يمنعني من إطالة الوقوف معه ، وأحب الوصول سريعا إلى موقف السيارات في " السرايا " التي تقل  في هذا الوقت من الليل ، وأنباء التهدئة متقلبة متناقضة ، وقد تهاجم إسرائيل غزة في أي لحظة ، فتستحيل العودة إلى البيت . فارقته بمودة ، فقال : تصبح على خير ، عمي !

                                   ***

سرحت مع خواطري في الليل البارد ، في الشارع المعتم شبه الخالي  . هذا هو الحب الحقيقي لفلسطين . حب عفوي طاهر ، من القلب ، لا سياسة خبيثة فيه ولا نفاق مخادع ، ولا ركض لاهث دنيء خلف مناصب ومكاسب ، وفحيح اتهامات متبادلة فرارا من حقائق سوء ما آلت إليه قضية وطنية فريدة في نبلها وعدلها ، والذين قذفوها في هوة هذا السوء هم أضرى وأعنف من ينفث فحيح الاتهامات السوداء .

                                           ***

" أتحدى أي إسرائيلي أن يرفع علم دولة إسرائيل في الجو الذي رفع فيه صبي فلسطيني في غزة علم فلسطين " ، انبثقت تلك الكلمات من عمق ذاكرتي . قالها ضابط إسرائيلي عن صبي من المنطقة الوسطى تسلق عمود كهرباء في جو عاصف مطير ، وعلق في أعلاه علم فلسطين . في ذلك الزمن ، في الانتفاضة الأولى ، انتفاضة أطفال الحجارة ، كان حمل علم فلسطين أو رفعه على أي  شيء يرادف  الموت العاجل أو الاعتقال والسجن .

                                 ***

لامست وجهي حبات مطر صغيرة إذ نزلت من السيارة . سرت في الشارع لا أسمع سوى وقع خطاي . تعاودني لحظة وقوفي مع فتي العلم ، محب فلسطين . سمعت ورائي صوت دراجة نارية ، وفي ثوان توقفت جواري ، قال سائقها : اركب يا عم !

شاب من  أبناء المنطقة . جلست على مكتبي . حامل العلم لا يفارق بالي .

 صقر من صغار الفلسطينيين  الذين تنبأ  الصهاينة وحلموا  بأنهم سينسون فلسطين بعد موت الأجداد والآباء الذين ضربتهم عاصفة سرقتها وتهجيرهم منها بين الرصاص والقذائف والموت . نحيت  تعبي ورغبتي في النوم ، وبدأت أكتب هذه السطور عن فتى يحب فلسطين حبا فطريا نضرا .

وسوم: العدد 818