في ذاكــرة أيّـار سنة 1948

 ها هو أيّار يعود , وبعودته تعود ذكريات مشجية تذيب لفائف القلب , وتحطّم الأعصاب !

 ها هو ذا أيّار يعود , وبعودته يكشف للإنسانية الحيّة عن شريطٍ زاخر بصور الفواجع والآلام , كما يكشف عن صورٍ شتّى من البطولة الحقّة, والتّضحية المقدّسة عند نفرٍ استوقفوا التّاريخ ليسجّل بطولاتهم على صفحاته الخالدة !

 وأمام هذه الصّور الرّائعة , وقفت متأمّلاً شموخ البطولة الّتي لو شاعت بيننا لما غزينا في عقر دارنا , ولما ضُربت علينا الذّلةُ والمسكنة كمن ضرب الله عليهم ذلك , وبذلك صرنا أذلّ من الأذلّين !

 وقفت - مثلا - أمام مشهد بطولة عظيمة لأسرة عربيّة عزيزة , حيل بينها وبين الهجرة إلى أرض الله الواسعة, فوقعتْ يوم النّكبة , في قبضة الأعداء , كما يقع الأسد في شباك الصّائد المتربّص .

 إنّها أسرة من أب وأم وولدهما الوحيد رزقاه في خريف عمرهما بعد يأس طال أمده , إلا أنّ الأعداء أبقوا على حياتهم لحاجة في أنفسهم الحاقدة وراحت الأسرة تتعثّر في عيشها تحت نير الاضطّهاد الصّهيوني وحقده الأسود. وراح الوالدان ينتظران يوم تعقد زهرة حياتهما ,فتُؤتي أُكُلَها , وتؤدّي للوطن المقدّس ما له من دينٍ واجب الأداء

وللأوطان في دم كلّ حرٍّ يدٌ سلفت ودَينٌ مستحقّ

 وأخذ الوالدان يغرسان في نفس وحيدهما الإيمان الحق بدينه وعروبته, ويرضعانه لبان الوطنيّة الصّادقة .

وجاء اليوم الموعود , اليوم الذي تاقت إليه نفوسهما, ورنت إليه أعينهما, إنّه يوم شبابه الصّاعد,فقد بلغ ابنهما العقد الثّاني من عمره , وجلس أفراد الأسرة يتجاذبون أطراف الحديث عن وطنهم الذّي شقي بالأعداء الحاقدين, ثم ساد الصّمت , وخيّم السّكون , ولكنّه كان صمتاً متحرّكاً متحفّزاً , إنّه صمتٌ متكلّم بغير لغة الألسنة والأفواه , إنّها لغة التّصميم على العمل بلا قولٍ يُتَشدّق به .

 وفجأةً نهض الشّاب , وهو يتمتم ببعض العبارات , لم يتبين منها السّامع إلا كلماتٍ متقطّعةً : الوطن ... الانتقام ... بالرّوح والدّم ... ثمّ عانق الشّاب والديه عناقاً حارّاً , وقبّلهما قبلة الوداع, وخرج وفي نفسه شيء خطير ,ولم ينبس الوالدان ببنت شفة , فقد تكلّمت القلوب والمشاعر بدلاً من الألسنة والأفواه !

 ولكن لا يدري المرء ما يخبّئ له القدر , وكما قيل ,, يدبّر المدبّرون والقضاء يضحك "" فقد وصلت في تلك اللحظة سيّارتان مصفّحتان للعدوّ اللئيم , ونزل منهما ضابطٌ وجنودٌ مدجّجون بالسّلاح , فقد أتوا لأخذ الشّاب إلى القيادة لأمر لم يفصحوا عنه ,فوجدوه على الباب , فحاول الشّاب أن يعمل شيئاً , فقد فهم كلّ شيء

ولكن إذا حمّ القضاء على امرئ فليس له برٌّ يقيه ولا بحرُ

وأمسكوا به , وزجّوا به في السّيّارة , وصوّبوا إليه بنادقهم , ثمّ انطلقوا به إلى جحيم الحقد الأسود , عندها شعر الوالدان العجوزان بالجلبة والضّوضاء باب الدّار , فخرجا يستكشفان الأمر فوجدا ... ويا هول ما وجدا !! فقد وقع فلذة كبدهما في قبضة السّفاحين , فعادا أدراجهما إلى عقر البيت , وفي قلبيهما غصّة ولوعة !! فماذا يحسن بهما أن يفعلا ؟ لا شيء إلا أن يفنيا في الدّعاء والتّضرّع إلى الله أن يكلأ ابنهما بعين رعايته , ويجعل له من أمره فرجا !!

 أمّ ابنهما فقد اقتيد إلى ثكنة عسكريّة حيث ينتظره الجلادون والسّفاحون اللؤماء ,وأدخله الجنودإلى بهو واسع يتصدّره رؤساؤهم الأفاكون , وإذا به يتعثّر بجثث مضرّجة بالدم الزّكي الطّاهر ملقاة على الأرض, تنعم عند الله الودود بأحلى الرّؤى , وكان حول الجثث ذئاب مفترسة ولغت من تلك الدّماء المهراقة الطّاهرة , وهي متعطّشة إلى المزيد من هذه الدّماء !!

 فاجتاز الشّاب مواقع هذه الجثث بحسرة بالغة , وطلب لها رحمة الله وفسيح جنانه. وأخيرا انتهى به السّيرإلى زعماء المجزرة الرّهيبة , وبادروه بالسّؤال : هل راقك هذا المنظر الأخّاذ ؟ انظر إليه ثانية , وتفرّس هذه الوجوه فلعلّك تجد فيها عبرة وعظة !! وأمروه بالنظر إليه ثانية , ثم سألوه : ماذا ترى ؟ قال : أرى طلاب حقٍّ , وعشّاق حريّة واستقلال !! أرى أبطالا مجندلين , رضيت عنهم الأرض , وباركت أعمالهم السّماء , ثم صاح بأعلى صوته :

 ويحاً لعيني وللأحشاء قاطبةً قد عزّها أن ترى الأعداء في سكني !!

فما شعر إلا بالسّياط تنهال عليه , والرّكل يأتيه من كلّ جانب , وظلّت اللكمات والضّربات تتناوبه , وكلهم يتعاورونه بأقدامهم , وكأنه كرة بين أرجل مهرة اللاعبين , وكلما أفاق من سكرة آلامه وغيبوبة أوجاعه , ردّوه إلى عذاب أليم , وكان كلما شعر بوجوده , ردّد عبارات تجلب له العذاب الوبيل , إنها شعارات الوطنية المتدفقة , فقد كان يردّد : مرحبا بالموت في سبيل الله والوطن !! لتعش يا وطني حرّاً على جماجم الشّهداء الأحرار , وخسئتم يا شذاذ الآفاق , يا من ضُرِبَت عليهم الذّلة والمسكنة , وباؤوا بغضب من الله !!

 وبعد ليلة ليلاء قاسى فيها العذاب وسكرات الموت قالوا له : لن ينجيك من براثن الموت إلا أمر سهل يسير هو انخراطك في سلك الجاسوسية معنا ,فهذا الأمر وحده هو سبيل نجاتك , وبدَوا وكأنهم مشفقون على زهرة شبابه من الذّبول, وكأنهم حريصون على حياته من الهلاك , وما دروا أن حياته مرهونة بحياة الوطن , وما علموا أن كل جانحة من جوانحه , وكل مضغة سيط منا جسمه تردّد قول الشّاعر :

 وطني وإن القلب , يا وطني , بحبك مرتَهَن

 لا يطمئنّ , فإن ظفرتَ بما يريد لك اطمأن

 وبينما هم ينتظرون منه القبول, إذ هو يطلق صرخة مدوّية تزلزلت لها الأرض , وأطّتْ من هولها الأركان , فقد أنشد من صميم قلبه وبكل أحشائه:

وما العيش لا عشت إن لم أكن مخوف الجناب حرامَ الحمى

بقلبي سأرمي وجوه الـعـداة وقـلبي حديدٌ وناري لظى

وأحمي حـيـاضي بحدّ الحسام فـيعـلـم قومي بأنّي الفتى

 وما كاد ينهي صرخته المدوّية الجبّارة , حتّى انصبّ عليه وابل الرّصاص يمزّق جسمه , وشاءت قدرة الله أن تبقي الحياة في عروقه حتّى تفوّه بالكلمات الأخيرة , فقال : ما أعذب الموت في سبيل الله وفي سبيل الوطن !! وما أحلى الاستشهاد على أرضه !! وحلّقت روحه الطّاهرة إلى بارئها , تحفّ بها ملائكة الرّحمة والحور العين , ويباركها ذو الجلال والإكرام !!!

يجود بالنّفس إذ ضنّ الكريم بها والجود بالنّفس أقصى غاية الجود

وسوم: العدد 822