سيصل الدم ما بيننا إلى الركب

من الحياة اليومية لمواطن سوري

قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت مع أحد أصدقائي وأنقلها لكم كما عايشتها معه وسمعتها منه.

المكان دمشق والزمان عام 1978 حيث كنت طالباً في السنة الثالثة في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية على طريق المطار. كانت أعمال الاغتيالات قد بدأت تطال رجالات النظام بسبب استئثار عائلة الأسد بالسلطة وحصر المناصب الحساسة بالعلويين عموماً والأقارب خصوصاً وتهميش الأغلبية السنية. هذه الاغتيالات جعلت النظام يكشر عن أنيابه ويظهر بوجهه المافيوي الطائفي الحقيقي ويبدأ بارتكاب المجازر الجماعية والتنكيل بالمواطنين وبشكل عشوائي وانتقامي. كما كانت قد بدأت تظهر إلى العلن حينها الممارسات الوحشية للمخابرات بكافة أفرعها وكذلك لميليشيات سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والتي كانت مهمتها الرئيسية إرهاب الناس وتدجينهم. ولكن كل هذا كان قبل مجزرة تدمر عام 1980 وكذلك مجزرة حماة الكبرى عام 1982، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف.

كانت تربطني علاقة صداقة عائلية مع أحد أساتذة الكلية، وهو أيضاً (شامي عتيق)، حيث كنت أزوره في بيته وأعرف أفراد أسرته، وهو كذلك. وهذا الأستاذ كان من النوع الشعبي، بمعنى أنه كان بطبيعته صاحب نكتة ومن النوع الذي يرفع الكلفة مباشرة مع طلابه ويتعامل معهم كأخ كبير وليس كأستاذ صاحب رهبة، مما جعله محبوباً من قبل جميع الطلاب وأيضاً من قبل زملائه المعلمين. وتبدأ القصة حين أخبرني يوم خميس في منتصف النهار بأنه معزوم من قبل بعض طلاب السنة الثانية من (الطائفة الكريمة) لقضاء عطلة نهاية الاسبوع عندهم في (قصر الضيعة) في جبال اللاذقية، وأنهم سيتوجهون إلى هناك في موكب سيارات مرسيدس ومعهم المرافقة، وسألني فيما إذا كنت أرغب بالانضمام إليهم؟ كنت أعرف أن هكذه (شلة) هي من أبناء المسؤولين، ولذلك لم يلزمني سوى لحظات معدودة للتفكير لأجيبه (الله يهنيك، أنا مالي مصلحة بهيك مشوار)، فقد كانت لدي دائماً حساسية اتجاه هذه المخلوقات الطفيلية التي تركب سيارات أولياء أمورها على حساب الشعب المسحوق.

حين رأيت الأستاذ بعد يومين لاحظت مباشرة بأنه ليس على حاله، فقد كان مكتئباً ويتكلم بالقطارة، وحين سألته (شو في؟) أجاب (بعدين). ثم رأيته قبل نهاية الدوام فقال لي (تعا اشراب شاي عندنا بعد العشا، في شغلة بدي احكيلك ياها). توقعت من جهتي أن تكون هذه (الشغلة) وراء الاكتئاب الذي احتل ملامح وجهه على غير العادة، كما توقعت أن تكون مرتبطة برحلته الأخيرة إلى الساحل. وفعلاً ما أن وصلت إلى بيته حوالي الساعة الثامنة مساء، وحضرت زوجته الشاي، حتى بدأ الاستاذ بالحديث قائلاً: لن تصدق ماذا رأيت في هذه الرحلة!!! لقد أخذوني إلى جبال مليئة بالدشم والاستحكامات العسكرية، وكان هناك العديد من الدبابات والمصفحات والمدافع وحتى مطارات الهيلوكوبتر، مما دفعني لأن أسألهم مازحاً: هل انتقلت جبهة الجولان إلى اللاذقية ولم نعلم بذلك؟

وتابع الأستاذ قصته قائلاً: وهنا التفت إلى أحد الطلاب، والذي كان يبدو أن أبيه هو الأهم مركزاً بين آباء البقية، وأجابني: نحن يااستاذ نحبك، ولكن هذا لايمنع من أن نقول لك بأننا أعداء بالطبيعة، وأن مابيننا الآن، نحن العلويون وأنتم السنة، هو (هدنة مؤقتة)، وأن اليوم الذي (سيصل فيه الدم مابيننا إلى الركب) هو يوم آت لامحالة، والمسألة هي مسألة وقت ليس إلا! فعاد الاستاذ وسأل: وكيف هذا، فأجاب الطالب: أنتم ونحن نعلم بأننا استولينا على الحكم بانقلاب، وعلينا أن نحكمكم بالحديد والنار كي نستمر لأطول فترة ممكنة، وهاهي بوادر ثورتكم علينا ورفضكم لحكمنا قد بدأت تظهر بالاغتيالات التي تجري كل فترة وفترة، ولكن سيأتي يوم سنتقاتل فيه بالأسنان من أجل البقاء، وحين يأتي هذا اليوم، وإذا حصل وخسرنا العاصمة، سنعود إلى هنا إلى هذه الجبال ونعلن دولتنا ونحاربكم في معركة حياة أو موت. ولكن إلى أن يأتي ذلك اليوم، سنبقى نحضر له ليل نهار، ولكن سنبقى في نفس الوقت نحبك ونشرب المتة ونسهر وندخن ونسكر معاً وستبقى أستاذنا المفضل، ولامانع من أن تنقل ماسمعته ومارأيته في هذه الرحلة لمن تعرفهم.

بقي الأستاذ لعدة أيام مكتئباً مما رآه وسمعه، وقد تحقق فيما بعد ماسمعه حين جرت مجزرة سجن تدمر وبعدها مجزرة حماة، تحقق من أن ذلك الطالب لم يكن يمزح ولايبالغ. وطبعاً فما يجري اليوم أيضاً لهو أكبر دليل أن رجالات هذا النظام لايشعرون ولم يشعروا في يوم بالانتماء للشعب السوري، بل وأنهم أعدائه، ليس الآن فقط ولكن منذ استيلائهم على الحكم قبل مايقرب من النصف قرن. ومن جهتي فاني أرى أن قرار تدمير سورية قد تم اتخاذه حين تم تمكين أقلية تشعر بالظلم الاجتماعي والتاريخي وتتحكم بها مشاعر الحقد والانتقام، حين تم تمكينها من الاستيلاء على الحكم كما حصل في (راوندا) الافريقية في تسعينيات القرن الماضي.

ومايزال البعض يتشدق بمقولة (كنا عايشين وماشي حالنا) والأصح أن يقولوا (كنا نايمين والمي ماشية من تحتنا وماشي حالنا)، فالذي كان يحضر نفسه منذ عشرات السنوات ليرتكب هذه المجازر بحجة الدفاع عن النفس، هو شخص لافائدة من الصبر عليه، وكلما استمر الصمت عن إجرامه كلما بات القضاء عليه أصعب وأكثر كلفة إن لم يصبح مستحيلاً. 

وسوم: العدد 823