قصةٌ مُحَفِّزَةٌ لطلبِ العلمِ ذكرها ابنُ بَطَّالٍ

قصةٌ مُحَفِّزَةٌ لطلبِ العلمِ ذكرها ابنُ بَطَّالٍ في

                  "مقدمة شرحه لصحيح البخاري")*

ساق ابن بطال بسنده إلى يحيى بن يحيى الليثي (تلميذ الإمام مالك) قال:

"أول ما حدثني مالك بن أنس حين أتيته طالباً لما ألهمني الله إليه في أول يوم جلست إليه قال لي: اسمك؟

قلت له: أكرمك الله يحيى.

وكنت أحدث أصحابي سنًّا.

فقال لي: يا يحيى! الله الله! عليك بالجد فى هذا الأمر، وسأحدثك فى ذلك بحديث يرغبك فيه، ويزهدك في غيره.

قال: قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك، فكان معنا يجتهد ويطلب حتى نزل به الموت، فلقد رأيت على جنازته شيئاً لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا؛ لا طالب ولا عالم، فرأيت جميع العلماء يزدحمون على نعشه.

فلما رأى ذلك الأمير أمسك عن الصلاة عليه، وقال: قدموا منكم من أحببتم.

فقدَّمَ أهلُ العلمِ ربيعةَ، ثم نهض به إلى قبره.

قال مالك: فألحده فى قبره ربيعة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم محمد بن المنذر، وصفوان بن سليم، وأبو حازم وأشباههم، وبنى اللِّبن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولوه اللِّبن!

قال مالك: فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه؛ رآه رجل من خيار أهل بلدنا فى أحسن صورة غلام أمرد، وعليه بياض، متعمم بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازل من السماء، فكأنه كان يأتيه قاصداً ويسلم عليه، ويقول: هذا بلغني إليه العلم.

فقال له الرجل: وما الذي بلغك إليه؟

فقال: أعطانى الله بكل باب تعلمته من العلم درجة فى الجنة، فلم تبلغ بي الدرجات إلى درجة أهل العلم، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائي، فقد ضمنت على نفسي أنه من مات وهو عالم سنتي، أو سنة أنبيائي، أو طالب لذلك أن أجمعهم في درجة واحدة.

فأعطاني ربي حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، وليس بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درجتان؛ درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم؛ ودرجة فيها جميع أصحابه وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسيرني حتى استوسطتهم، فقالوا لي: مرحباً مرحباً! سوى ما لي عند الله من المزيد.

فقال له الرجل: وما لك عند الله من المزيد؟

فقال: وعدني أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم فى زمرة واحدة، فيقول:

يا معشر العلماء! هذه جنتي قد أبحتها لكم، وهذا رضواني قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم له، ليرى عبادي كرامتكم علي، ومنزلتكم عندي.

فلما أصبح الرجل حدث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة.

قال مالك: كان بالمدينة أقوام بدؤوا معنا فى طلب هذا الأمر ثم كفوا عنه؛ حتى سمعوا هذا الحديث، فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا.

*اللـهَ اللـهَ ! يا يحيى! جِدَّ فى هذا الأمر*".

                                "شرح ابن بطال" (١/ ١٣٤)

وسوم: العدد 827