أقصى غاية الجود

مازال الحاجُ محمدٌ يُلقي بكلِّ سمعِه إلى حديثِ الشيخِ اليومي بعد صلاةِ العصرِ ، وما زالَ المسجدُ يتمايسُ زهوًا بأعدادِ المقبلين على الصَّلاة ، وعلى الدرس الذي بات يُحيي في قلوبهم مآثرَ الإسلامِ ، فالمسلمون ـ هنا ـ  استهواهم صدقُ نبرات الشيخِ ، وحرارةُ أنفاسِه، وهو يجددُ في نفوسِهم الهممَ ، ويلهبُ في أحنائها مشاعرَ اليقين بالله ربِّ العالمين . وكأنما أغرى الشيخَ حُسْنُ إصغائهم ، وذكرُ سيرة الموسرين الصَّالحين في بلادِهم التي عاثَ بها الأعداءُ فسادًا وقتلا وتدميرا وحصارا ، وكان ينظرُ في الوجوهِ فيعجبه ما تفيضُ به أساريرُها من بشارتِ الخيرِ . وهو يعلمُ أنَّ صفةَ الخيرِ سجيَّةٌ عند المسلمِ تمنحُه القوةَ للجودِ والبذلِ الدائم في سبيلِ الله . وهي قوَّةٌ مستَمَدَّةٌ من حقيقةِ الإيمانِ بالله ، كان الشيخُ يذكرُهم بأصحابِ القصصِ الذين خلَّدَ التاريخُ ذكرَهم الجميلَ ، لأنَّ في قصصهم عبرةً ومواعظَ ، ولأنها نماذجُ متميزةٌ  ، ارتفعَ أهلُها بمزاياهم و رؤاهم ، فقد شعروا بسعادةٍ تغمرُ صدورَهم التي تجذَّرَ فيها الإيمانُ ، فأغدقَ بثمارِه اليانعاتِ ... و ربَّما أكبَّ الحاج محمد باكيا متضرعا إلى اللهِ تعالى أنْ يكلأه بالرحمةِ ، ويتقبلَ منه صلاتَه وأذكارَه وصدقاتِه ، فذلك هو موضوعُ حديثِ الشيخ في هذا اليوم الميمون ، فبيَّن مافي الزكاةِ من خير كثير ، ومن ترابط بين أبناءِ الأمةِ ، وأسهبَ في بيانِ مآثر هذه الفريضة ، وأنها تغلقُ أبوابَ السُّوءِ والشَّرِّ ، وتُطفئُ غضبَ الرَّبِّ ، وتدفعُ عن المحسنين ميتةَ السوءِ ... وراح الحاجُ محمد يجهشُ في البكاء ، فله مع الموت ذكرياتٌ في أحبَّةٍ افتقدهم ، واحتسبهم عند الله ، بينما ارتفعَ صوتُ الشيخ المحدِّثِ معدِّدا الكثيرَ من فضائل البِرِّ والصَّدقة ، ومعلنا أنَّ البلاءَ لايتخطَّى حِصنَ الصَّدقةِ ،  وأنَّ الصَّدقةَ تباهي بمكانةِ أصحابِها يوم القيامةِ دونَ سائرِ الأعمالِ المرضيَّةِ الأخرى . واختتمَ حديثََه الشَّيِّقَ بما رواه الإمامُ مسلم ـ يرحمه اللهُ ـ في صحيحِه من حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه ، أنَّ رسول الله r قال : ( بينا رجلٌ في فلاةٍ من الأرضِ ، فسمعَ صوتا في سحابةٍ : اسقِ حديقةَ فلان ، فتنحَّى ذلك السحابُ ، فأفرغَ ماءَه في حَرَّةٍ ، فإذا شرجةٌ من تلك الشِّراجِ قد استوعبت ذلك الماءَ كلَّه ، فتتبَّعَ الماءَ ، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقةٍ يحوِّلُ الماءَ بمسحاتِه . فقال له : ياعبدَاللهِ ما اسمُكَ ؟ قال له : فلان . للاسمِ الذي سمعَ في السَّحابةِ . فقال له : ياعبداللهِ لـمَ سألتني عن اسمي ؟ قال : سمعتُ في السحابِ الذي هذا ماؤُه صوتا يقولُ : اسقِ حديقةَ فلان ، لاسمِكَ . فما تصنعُ فيها ؟ قال : أمَّا إذْ قلْتَ هذا ، فإني أنظرُ إلى ما يخرجُ منها فأتصدَّقَ بثُلُثِه ، وآكلُ أنا وعيالي ثُلُثًا ، وأردُّ فيها ثُلُثًا ) .

كان حديثا بليغا مؤثِّرًا شدَّ انتباهَ المؤمنين ، وأوقدَ في صدورِهم جُذى اليقينِ بقدرةِ اللهِ وكرمِه ، كانتْ عينا الحاج محمد تشرئبَّان صوبَ الشيخِ ، وتحلقان لتستطلعا ما وراء السَّحاب ، ولاحَ في خاطرِه سببَ اندفاعِ الصَّحابي الأنصاري صاحب بَيْرُحاء للتبرع بأحبِّ مالِه إليه ، إذْ لم يكنْ تصرُّفٍا عاديًا ، ولكنَّ نبوَّةُ مُحَـمَّدٍ r أرتْهُ ما لم يَـرَ الآخرون من أبناءِ الدُّنيا الفانيةِ . وخرجَ الناسُ من المسجدِ من بساتين الإسلام الوارفة الظلال ، ويشاهدُ الحاج محمد عند بابِ المسجدِ ولديه : حسنا وبدرَ الدين ، وغيرَهما من الشباب الذين تعلَّقَتْ قلوبُهم بالمساجدِ ، وتذكَّرَ ابنَه مصطفى الذي آثرَ الانخراطَ في كتائبِ المجاهدين ، ودعا لهم بالثَّباتِ والنَّصرِ ، وتقدَّمَ حسنٌ صوبَ أبيه ليسلمَه الرسالةَ التي وصلتْ قبلَ ساعةٍ من أخيه عبدالكريم الذي هاجرَ مضطرًّا ، واستقرَ به المقامُ في الغربةِ ، ليعمل في شركةٍ تجاريةٍ يملكها الحاج فاضل ، الذي أُعجبَ بسلوكِ ونشاطِ عبدالكريم ، و وافق على زواجه من ابنته خديجة ، وكان له منها ثلاثةُ أولادٍ . وفرح الأبُ الحنونُ وهو يقرأُ أخبارَ ولدِه وأحفادِه ، وتدمعُ عيناه ، ويتمنَّى أن يراهم في أقربِ فرصةٍ ، ويستغرقُ في التَّمعنِ في تفاصيل الرسالةِ ، ولم يوقظْهُ من رحلته الحانية ، وهو يقرأُ بعَيْنَيْ قلبِه همسات صغارِ ابنِه ، ويدعو لهم بالعافية والسعادة ، إلا أصواتُ المهللين والمكبرين من الجموع الحاشدة التي تحملُ على أكتافِ عزتها أربعةَ جثامين لشهداء سقطوا أثناء اجتياحِ العدو الغاشم للمدينة ضحى هذا اليوم . ويعيد الحاج محمد الرسالةَ إلى ظرفِها ، ويدسها في جيبِه ، وينضمُّ مع الناسِ للصلاةِ على الشهداءِ . وتتفجَّرُ الأحزانُ مرَّةً أخرى في صدر الحاج  ، وتفيضُ عيناه بالدمعِ السَّخين ، بينما أسرعَ ابنُه حسنٌ ليحمل مع إخوانِه نعوش الشهداء ، وهم يعاهدون اللهَ على المضيِّ في طريقِ الاستشهاد حتى النصر . وتعالت أصواتُهم للأخذ بالثأر ، فهم الذين جسَّدوا نيَّاتِهم المباركة بأعمالٍ بطولية أعادت للأمة وجهَ سلفها الغُرِّ المجاهدين . وقد أذهلوا الأعداءَ ، و وضعوا الأصدقاء القابعين على شرفاتِ المهانة يتفرجون على طريقةِ الذبحِ اليومي في مسلخ الطغيان العصري الحضاري . وهم الذين استأثروا بإرثِ النبوَّةِ صادقين جادِّين ، فلا مكان للهوى الهابط في نفوسِهم ، ولا للرغبات الخسيسة في جوانحهم ، ولا وجل من وطأةِ الأخطارِ التي تحدقُ بهم آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار . فلقد استظلتْ قلوبُهم بوعدِ اللهِ ذي الملكِ والطَّولِ في الفتحِ ، فلا بدَّ من تحويل مجرى هذا الظلمِ والاستكبار إلى تبابٍ وانهيار بمشيئة اللهِ الجبَّار مهما بلغت التكاليف .

وتلمحُ عينا الحاج محمد ولدَه حسنا في حديث مع شابين يتلألأُ جبينُهما بنورٍ مُسبلٍ فيَّاض  يحدِّثُ عن نشوةِ الشوقِ إلى جنَّات الخلود . ويتفرَّقُ الشبابُ المؤمنُ على موعدٍ للقاءٍ ظامئِ صاغتْ رؤاه أفراحُهم الروحيةُ . ويقرأُ الحاج محمد بعينِ فراسته النافذةِ أنَّ ابنَه قرَّرَ أمرًا مـا مع صاحبيه ، ويقبلُ الفتى حسنٌ على والدِه وأخيه بدرِ الدين ، ويستأذن للَّحاقِ بصاحبيه ، حيثُ اتفق معهما على إحياءِ سهرة الليلة في بيتِ أحدِهما . بينما عاد الوالد المكلوم مع ابنه ليجدا الأسرةَ منتظرةً على مائدة العشاء .

كانتْ ليلة حافلة تلك التي قضاها حسن الحاج محمد مع صاحبيه المؤمنين ، صاغا فيها موقفا بطوليا يعزُّ به أهلُ الحقِّ ، ويذلُّ به أهلُ الباطلِ والطغيان ، ويترجمُ الثأرَ بتضحيةٍ واعدةٍ لها مثوبتُها عندَ اللهِ . فهم مَنْ يتصدَّوْنَ بحُسْنِ بلائهم واستبسالهم للعدوِّ الذي أوجعَ أفئدتهم بالرزايا الشِّداد المتلاحقة ، فباتَ كلُّ امرئٍ أسوانَ النَّفسِ ، يتحيَّن الفرصَ التي تُطيرُ صوابَ العدوِّ الغشوم ، حتى يعلمَ أنَّ قدرتَنا ـ بفضل الله ـ تفوقُ قدراتِهم مهما كانت ، وما النصرُ إلا من عند الله ، وأنَّ هؤلاء المجاهدين الأبرار هم الأقدرُ ـ بمشيئة الله ـ على الأخذِ بناصيةِ المواقفِ الصَّعبة . ثمَّ انسلُّ كلٌّ منهم إلى دارِ أهله ، وقد آثروا أن يستعينوا على قضاءِ مهمتهم بالكتمان . طرقَ حسنٌ بابَ دارِه ليجدَ أُمَّـه في انتظارِه ، وكأنها علمتْ بلحظةِ وصولِه ، ولطالما تنغَّصتْ لياليها الطويلة بأنواعِ المرارات ، وثقيلِ الابتلاءات ، وما زال يومُ ابنتها سمية ـ يرحمها الله ـ ماثلا بين عينيها الذابلتين ، فلم ترقأ لها عينٌ ، ولم تغب صورتها الحبيبةُ ، فقد توفَّاها اللهُ تبارك وتعالى وهي في سجدة التلاوة عصرَ اليوم السابع والعشرين من شهرِ رمضان المبارك ، والمصحفُ إلى جانبِها ، وقد بقي لها ثلاثةُ أجزاءٍ لتختمَه كعادتها في كلِّ شهر طوال العام ... أين كنتَ ياولدي ؟ أشغلتَ بالي عليك ، الساعة تقاربُ الواحدة بعدَ منتصف الليلِ ، ولا يخفى عليك ما يقومُ به العدو من بطشٍ واعتقال ... واعتنقتْهُ بحنان ، شعرَ به هذه المرة أكثر من سابقاتها ، وهي تلقي على سمعِ قلبِه أنَّاتِها التي لم تستطعْ كبحَ جماحِها هذه المرة أيضا !! قال حسن : مالك يا أمي ... أنا بخير ، وراح يمازحُها : أتشُكِّينَ في سلوكي ؟ هل تعلمين أني ساهمتُ في عمل لايرضيك ؟ أو اقترعتُ مع غيري على أمر فيه بُطْلٌ ؟ تبسَّمت الأمُ ... وتابع حسنٌ : اطمئني يا أمي ، فواللهِ لن أعصيك أبدا ، أمسكَ بيدِها يقبلُها ، ودخلا البيت ، ولمحتْ عيناه والدَه وهو مسجَّى على فراشِه ، وقد أشرقَ وجهُه ، وكيف . لا : وهو من كرام المحسنين في البلدة ، ومن أهلِ الجودِ والعطاء ... لمَنْ هُدمتْ دارُه ، أو جُرفَ حقلُه ، أو فقد المعيل ، أو نزلت به ملمَّةٌ ، حتى أسماه الناسُ مجيزَ المحتاجين . فما طلبَ أحدٌ منه شيئا إلا لبَّاه ، رغم تغيُّرِ النفوس في زمن الفصام النكد مع القيم والعادات الكريمة ، ولكنَّ نفسَ الحاج محمد لم تتغيَّر . وهذه الإشراقة الوضيئة على صفحةِ وجهه الأبلج لدليلٌ لايعتريه البطلان ... تمتمَ حسنٌ في نفسِه : رعاك اللهُ ياأبي علمتَنا كيف تكونُ الحياةُ التي يرضاها اللهُ ، ولم تستسلم يوما للأرزاءِ رغم قسوتها عليك ولكن ...كان يريدُ أن يعبِّرَ لوالدِه عن معنى آخر للجود ، الجود بالنفسِ في سبيل الله ، في أسواق الجهاد التي يفوزُ بها روَّادُ الربح الذي لانظير له في أسواق أهل الدنيا ... دنيا الغفلة والضياع !! وتمرُّ أمام عينيه مواكبُ الجثامين المدماة ، وتسمع روحُه صدى الاستهانة بترفِ الحياةِ الهابطة في قوله تعالى : ( إنَّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهُمُ الجنَّـة ... ) آه ... سامحْني يا أبي ... سامحيني يا أمي ... غدا موعدي مع مَن اعتدوا وبغوا ، واللهِ إني لأشتمُّ ريحَ الجنة خلف ذاك المعسكر الذي ينطلق منه أعداءُ اللهِ لقتلِ أبناءِ ديني و وطني ، سامحْني يا أبي ... سامحِيني يا أمي ، فإني ـ واللهِ ـ قد رميْتُ هذه الحياة كما رمى قبلي صاحبُ التمراتِ تمراته ... انسلَّتْ أُمُّه إلى غرفتِها مثقلةَ الخطوِ وبقية أفراد الأسرة  أنزل اللهُ عليهم السكينة ، فناموا في هناءة .

توضَّاَ حسنٌ وأحسن الوضوءَ ، واستقبل بيتَ اللهِ الحرام ، يصلِّي لله ركيعاتٍ ... ربما كانت آخرَ عهده بالدنيا ، وسأل اللهَ له ولصاحبيْه التوفيقَ والشهادةَ ، وأن يلهمَ أُمَّه وأباه وسائرَ الأسرة الصَّبرَ الجميل ، والثَّباتَ على الإيمان . وكان أخوه عبدالكريم يتابعُ أخبارَ الأهلِ والمجاهدين وهو في غربتِه ، وما زالتْ رسالتُه التي بعث بها يوم وفاة أُخته خديجة محلَّ فخرِ الأسرةِ واعتدادِها ، وعلى الأخص حسن الذي يقراُ فيها صفحاتِ الإيمان في قلبِ أخيه عبدالكريم . وما زالت هداياه الثَّمينة يوزعُها أبوه على المحتاجين ، فقد راجتْ تجارتُه ، ونمت أرباحُه ، وصدق اللهُ القائل : ( إنَّ ربَّك يبسط الرزقَ لمَنْ يشاء ويقدر إنه كان بعبادِه خبيرا بصيرا ) . لقد أضحى عبدالكريم تاجرا مرموقا ، ذا هِمَّة عاليةٍ ، وقُدرةٍ على حُسْنِ التَّعامُلِ وسعة الصَّدرِ ، والصِّدق في المعاملة ، فهو نسخةٌ مكررةٌ من أبيه الفاضل المحسن الجواد . وتشرقُ شمسُ الصَّباحِ دافئةً هادئةً ، ويُطرقُ البابُ على أهلِه ، الذين كانوا يتناولون طعامَ الإفطارِ ، وينهضُ حسنٌ ليرى مَن الطارق ، وإذْ به رسولٌ من أخيه عبدالكريم ، فأدخله البيتَ ، تعرَّف عليه الحاج محمد فأكرمه ، وحدَّثهم الضَّيفُ عن ابنهم البار عبدالكريم ، الذي صار نبراسًا لكلِّ تاجر صدوق ، وقدَّم لهم مبلغا كبيرا من المال ، أرسله ليتصرَّفَ به والدُه كيفما أراد . وانصرف الضَّيفُ ، وجلس الحاج محمد يعدِّد ويسجل أسماءَ الذين يستحقون المساعدة العاجلة . فقال حسن : أعطني يا أبي شيئا من المال ، فإني أعرف أُسرتين بأمسِّ الحاجة للمال في هذه الأيام . ناوله والدُه مبلغا من المال غير يسير ، وانطلق به حسنٌ مسرعا إلى صاحبيه ، فقد حانت ساعةُ تنفيذ ما اتفقوا عليه أمس ، وأقسم أن يأخذَ كلٌّ منهما نصيبَه من المال ، ويقدمه لأسرته الآن ... وقبل الانطلاق بتنفيذ العملية البطولية ... وكان له ما أراد ، فالمجاهدون يدٌ ٌ واحدةٌ في السَّراء والضَّراء .

وانطلق حسنٌ وصاحباه ، يبيعون أنفسَهم لله ، في ميادين الجهاد ، جهاد العدو المتغطرس ، تحت راية الإسلام ، وهم يلبُّون نداءات الثكالى والأيتام والجرحى والأسرى ، ويالها من تلبية :

اللهمَّ لولا أنتَ مااهتدينا فأنزلنْ سكينةً علينا   ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا

  وهرع الجميعُ يردِّدون ، وتدمعُ عينُ أحدِهم ، ويراه حسن فقال له : دموع الشوق للجنة إن شاء الله ... أم دموع ... يقاطعه صاحبُه قائلا : أجل ياحسن إنها دموعُ فرحتي وأنا أشعر أني حقَّقْتُ مايريدُه رسولُ الله r الذي رواه الإمامُ مسلم : ( تضمَّن اللهُ لمَنْ خرجَ في سبيلِه ... ) واستطرد يسردُ الحديثَ النبويَّ البليغَ حول الجهادِ والاستشهادِ ولون الدم وريحه ... وختم الحديثَ بقولِه r : ( فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه لوددْتُ أن أغزو في سبيل الله فأُقتل ، ثمَّ أغزو فأُقتل ، ثمَّ أغزو فأُقتل ) . قال صاحبُهما الآخر : أبشروا بريحِ الجنَّةِ ، فواللهِ إننا لنغزو الآنَ ... اقتحموا معسكر العدوعلى حين غفلة منه ، ودارت معركةٌ لاتسمعُ فيها إلا أزيزَ الرصاص ، وقُتِلَ من العدو عددٌ من جنودِه ، وعلتْ صيحةُ حسن : اللهُ أكبرُ ... اللهُ أكبرُ إذْ أصابتْه رصاصاتٌ فصعدتْ روحُه إلى السماء ، وتعلو صيحةُ الأخر : فزتُ وربِّ الكعبة ... فزتُ وربِّ الكعبة . وتصعدُ روحُه إلى بارئِها في علِّيين ، ونظر الآخرُ فلم يجدْ أحلى من الشهادة والفوز بها كصاحبيه ، فألقى مابقي لديه من القنابل على العدو ، وامتشق بندقيتَه ، وراح يذيقُ الطغاةَ البغاة نارَ الثأرِ والعزة ، فأصابتْهُ رصاصة في رأسِه ، فلحق بصاحبيه ، وهدأت الأصوات ، وفاحت طيوبُ الشهادة من دماء طاهرة زكية ، أصحابُها صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه .

وتتناقلُ وسائلُ الإعلام أخبار العملية البطولية الناجحة ، وتدمعُ عينا الحاج محمد وهو يسمعُ من الرائي نبأ استشهاد ثلاثة من الفدائيين ، فعلم بفراسته وعين قلبِه أنَّ ابنَه حسنا واحدا منهم ، وأما الآخران فهما صاحباه اللذان وقفا معه حول باب المسجد بعد انتهاء درس الشيخ ، وهما مَنْ أخذَ لهما المالَ في صباحِ هذا اليوم . ويستقبل المعزين ( المهنئين ) له باستشهاد ولدِه ، وينطلقُ صوتُ الشيخ في بيت الحاج محمد ، كما انطلق أمس في المسجد ، ويصغي إليه الناس وهو يعدد فضائل الشهداء ، ومكانتهم  مع النَّبيين والمقربين ، وعرَّج على ذكرِ مآثر والد الشهيد في بذله للمال ، ومساعدة المتضررين ، وعمارة بيوت الله ، ولم ينسَ ولدَه عبدالكريم الذي اعتبره النبع الذي لاينضب في تقديم المساعدات النقدية والعينية ، إذْ لم تمنعْهُ غربته من إرسال ما منَّ الله به عليه . وكان آخرها ماوصل إلى أسرتي الشهيدين صباح هذا اليوم . وختم الشيخُ كلمتَه المؤثرة مخاطبا الحاج محمد ، مباركا له بهذه الشهادة لولدِه ، وبحُسْنِ خاتمة ابنته سميَّة التي توفَّاها اللهُ وهي في سجودِها ، وهي تحاول ختمَ القرآن الكريم في شهر رمضان المنصرم ، ورفع الشيخُ يديه يسألُ ربَّه للجميع بحُسن الخاتمة والقبول . وقال : ليهنك هذا الإرثُ يا أبا حسن ، وهذه المنافسة على صفحات الرضوان التي لاتكون إلا للسَّبَّاقين  في فعل الخيرات . وتلا قولَ الله تبارك وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) 77/الحج .

وسوم: العدد 831