الخاطرة ٢٣٤ : قصة واقعية (دموع الجوكندا جزء ١)

خواطر من الكون المجاور

كان يوم الجمعة من نهاية شهر نيسان عام ١٩٨٧ في مدينة أثينا ، يوم ليس مثل بقية الأيام ، يوم سيجُرُّ معه أيام عديدة أخرى يتحول فيها الإنسان إلى ملاك يأتي من حيث لا ندري يحمل معه رسالة إنسانية تفتح أعيننا على شيء غريب دخل حياتنا وسهونا عنه ، ثم يختفي وكأن ظهور هذا الملاك في حياتنا كان مجرد حلم ، حلم أعادنا إلى رشدنا ومنعنا من تغيير سلوكنا إلى سلوك يناقض تكويننا الروحي . ما أكثر ظهور مثل هؤلاء الملائكة في الأيام الماضية . وما أقل ظهورهم في أيامنا الحاضرة .

في ذلك اليوم استيقظت حوالي الساعة الثامنة صباحا ، سعادة روحية جعلت جميع خلايا جسدي من أخمص قدمي إلى قمة رأسي تعمل في أفضل حالاتها وكأنها تعبر لي عن هذه السعادة التي كنت أشعر بها من اللحظة الأولى من استيقاظي .حلم بسيط قد يقلب مزاج الإنسان رأسا على عقب ويجعل أموره في ذلك اليوم تسير على أحسن ما يرام .... بسمة خفيفة ارتسمت على شفتي وأنا أتذكر تفاصيل ذلك الحلم الذي كان وراء هذا الشعور اللطيف الذي كان يغمرني . مثل هذا النوع من الأحلام كان يأتيني كل فترة وفترة منذ دخولي في مرحلة المراهقة ، حلم يختلف في عناصره في كل مرة أراه في نومي ، ولكن كان له دوما نتيجة واحدة في النهاية : تفريغ كل ما أنتجته خلايا الجهاز التناسلي إلى خارج جسمي . والغريب في هذا النوع من الأحلام أنه رغم أن نتيجته في النهاية مشابهة تماما لنتيجة المعاشرة الجنسية ، ولكن في مثل هذه الأحلام يتم ذلك بدون أن يكون هناك أي شيء له علاقة بالمعاشرة الجنسية . ففي حلم ليلة أمس مثلا رأيت نفسي وكأنني أطير فوق الجبال ثم أحلق عاليا في السماء وأعود وأهبط ثانية بسرعة خارقة لأطير بين الأشجار ثم أحلق في السماء مرة أخر ثم أهبط ، وفي كل مرة أثناء الهبوط أشعر بنوع من الضيق الممتع يبدأ في صدري ومع كل هبوط ينخفض مكان الشعور بالضيق من الصدر إلى البطن وتزداد متعته ويستمر هكذا حتى يخرج هذا الضيق من الجسد . جميع الأحلام كانت تعتمد على هذا الشعور بالضيق ولكن تختلف بطريقة تحقيقه . هذا النوع من الأحلام جعلني عندما أرى مرأة عارية في لوحة أو تمثال أو غير ذلك لا أنظر إليها كوسيلة تحقق عملية تفريغ ما أنتجته خلايا جهاز التناسل ، ولكن كشيء مقدس خلقه الله ليعبر عن الروح التي تسكن داخله .

كنت في كل مرة أرى مثل هذه الأحلام الممتعة أشكر الله على تلك النعمة التي وضعها في تكويني كإنسان . لا أدري تماما ماذا يحصل مع الآخرين وكيف يفرغ كل مراهق أو كل رجل غير متزوج محتويات ما أنتجته خلاياه الجنسية ، ولكن بالنسبة لي كانت نعمة هذا النوع من الأحلام شيء لعب دور هاما ليس في تكوين شخصيتي فقط ولكن أيضا في مجرى أحداث حياتي ، ففي كل مرة أرى فيها مثل هذا النوع من الأحلام كان في اليوم التالي يحدث شيء غريب يعجز عقلي عن تفسير حقيقته ، كانت ملامح وجهي وخلايا دماغي ونبرة صوتي تكتسب حيوية أكثر أو على الأصح ربما طبيعة أخرى تسر الناظرين إلي وخاصة النساء . ففي كل مرة بعد حدوث حلم من هذا النوع ، كانت أموري جميعها تسير على أحسن حالاتها ، جميع الأبواب كانت تُفتح أمامي لتسهل أموري ، كان الجميع يُظهر لي الإنسان المثالي في داخلهم فأراهم يساعدونني في أي شيء أسعى إليه ، هكذا بدون أي مقابل وكأنهم أخوتي أو أعز أحبابي .

أما بالنسبة لردود فعل النساء ، فكنت أشعر في مثل تلك الأيام وكأن هذا النوع من الأحلام قد أضاف إلى ملامح وجهي بما يشبه مغناطيس روحي يجذب أنظار النساء نحوي ، فمظهري كشاب كان مظهر عادي من النوع الذي - كما قرأت في بعض الروايات والمجلات - لا يجذب أنظار النساء ، فلست طويل القامة ولا عريض المنكبين ولا أملك في حنجرتي صوت رخيم بنبرة رنانة ، فشكلي كان متوسط في مثل هذه الأنواع من الصفات الجسدية ، أما صوتي فلا يكاد يسمعه إلا من أتكلم معه . فقط في ملامح وجهي ربما كنت تفوقت فيها على الكثير من الرجال ، ولكن الوجه بحد ذاته يشكل جزء صغير من حجم الإنسان لذلك لا يعتبر الوجه عنصر أساسي في جذب نظر النساء في الأماكن العامة ، حيث أن معظم النساء - في ذلك الوقت - كن يخجلن من النظر إلى وجوه الرجال الغرباء كي لا يساء الظن بهن ، ولهذا كان هناك احتمال ضئيل أن يلعب الوجه دور هام في جذب أنظار النساء في مثل هذه الأماكن. ولكن في كل يوم بعد رؤية حلم من هذا النوع الذي أسلفت عنه ، كانت الأمور تدخل في عالم آخر له قوانينه الخاصة . كنت ألاحظ أن ملامح وجهي قد أصبحت أهم عنصر في المظهر العام ، فأرى معظم النساء يرفعن أبصارهن نحوي ويتمعنَّ به للحظات طويلة ، وخاصة الفتيات اللواتي كن بمثل عمري ، حتى أن كثير منهن عندما كنت أرفع بصري نحوهن من دون قصد كن يبتسمن لي وكأنهن يعطينني الضوء الأخضر للتحدث معهن والتعارف عليهن . حتى أن كثير من أصدقائي وبسبب تلك الإبتسامات كانوا يظنون أنني أعيش حياة مزدوجة ، أمامهم أظهر كأنسان عفيف ، وخلفهم أنقلب إلى دُونجوان لا يترك فتاة تفلت منه .

ما كان يحصل في كل مرة بعد رؤية حلم من هذا النوع ، كان يجعلني أشعر وكأنني إنسان محبوب من الجميع وأن الحياة جميلة ، جميلة جدا . جميع معارفي كانوا يعتقدون أنني إنسان محظوظ جدا ، ولكن لم يكن أحد منهم يعلم أن سر هذا الحظ السعيد كان أحد أسبابه هو هذا النوع من الأحلام . فما كان يحصل بعد رؤية حلم من هذا النوع لم يكن له علاقة بالجمال الخارجي الذي تراه العين فقط ، فصفات الجسد في مثل تلك الأيام كانت تخسر معانيها، وتتحول الأمور من علاقة مادية ومصالح شخصية بين جسد وجسد آخر إلى علاقة روحية بين روح وروح أخرى . فكنت في مثل تلك الأيام أشعر وكأني أعيش في عالم من نوع آخر ، عالم روحي له قوانين خاصة تتحكم في سلوك الناس بطريقة ميتافيزيقية لا يمكن تفسيرها بالعلوم الحديثة التي نعرفها .

في ذلك اليوم وبعد رؤيتي ذلك الحلم شعرت بأن حدثا سعيد سيحصل في حياتي لأضيفه إلى مخزن ذكرياتي . هذه الذكريات الجميلة كانت أقوى سلاح تساعدني في مواجهة الظروف القاسية التي كنت أمر بها بين كل فترة وفترة ، والتي في كثير من الأحيان قد تجبر الإنسان على فعل ما يخالف ضميره .

نهضت من الفراش وذهبت إلى الحمام وتحممت ، ثم حلقت ذقني ، وعندما فتحت النافذة ورأيت السماء الزرقاء ونور الشمس يضيء في كل مكان بعد عدة أيام ممطرة ، شعور داخلي أكد لي ثانية بأن هذا اليوم سيكون فعلا يوما جميلا ، يوم يحمل معه حدثا سعيدا ، وكوني كنت قد إتفقت مع صديقي ابراهيم أن يذهب معي إلى شركة الهاتف والاتصالات لتقديم طلب خط هاتف إلى بيتي ، ظننت وكأن أمور هذا الطلب ستسير على أفضل ما يرام وأنه بعد فترة قصيرة سيكون في بيتي هاتف أستطيع به الإتصال مع أهلي في سوريا في أي وقت أشاء . فأنا في العادة كنت كسولا بكتابة الرسائل ، وكنت أشعر دوما بتأنيب الضمير لكسلي هذا ، ووجود هاتف في بيتي كان هو الحل الوحيد الذي سيحل مشكلة المسافة البعيدة التي تفصل بيني وبين أهلي .

ظننت أن صديقي ابراهيم سيمر علي مبكرا في الساعة التاسعة على الأكثر، ولكنه أتى في الحادية عشر مدعيا أن تأخره كان مقصودا لأنه في الساعات الأولى من دوام شركة الهواتف يكون الإزدحام فيها شديد والإنتظار لتقديم الطلبات قد يستغرق ساعات عديدة ، أما في الساعات الأخيرة فالأمر مختلف وتقديم الطلبات لن يستغرق سوى دقائق قليلة . وفعلا كان معه الحق فعندما وصلنا الشركة في الساعة الثانية عشر كانت مكاتبها خالية تقريبا من الناس .

سأل صديقي أحد الموظفين عن مكتب تقديم الطلبات ، فاشار له على المكتب المطلوب . كان هناك شخص واحد يقدم أوراقه ، إمرأة عمرها فوق الخمسين . أتجهت مع صديقي إلى المكتب ووقفنا بقرب المرأة لنحجز دورنا قبل أن يأتي شخص آخر . كانت المرأة الفوق الخمسين من العمر تتكلم كثيرا مع الموظفة ، فعلم صديقي بأننا سننتظر دقائق عديدة ريثما تنتهي ، فهز رأسه لي يعبر عن إنزعاجه من سلوك المرأة ، ثم ابتعد وراح يمشي ذهابا وإيابا يتأمل المكان والموظفين والموظفات .

إتكأت على الحاجز الخشبي الذي يفصل بين الموظفين و أصحاب المعاملات ، ورحت أستمع للحوار بين الموظفة والمرأة ، محاولا سماع المصطلحات المستخدمة بمثل هذه الأمور لأستخدمها في حواري مع الموظفة عندما يحين دوري ، فلغتي اليونانية كانت جيدة في الأحاديث العامة ، ولكن في بعض المواضيع التي لها مصطلحاتها الخاصة فلم تكن على أحسن حال . كان الحوار بين المرأة والموظفة حوار من طرف واحد ، المرأة تتكلم جمل عديدة والموظفة إما أن تهز لها رأسها أو أن تجيبها بكلمة واحدة : نعم ، لا ، ممكن . لهذا كنت كلما أدير رأسي نحوهما كان بصري يتجه نحو المرأة ، ولكن في المرة التي تكلمت فيها الموظفة محاولة شرح نقطة معينة في الموضوع ، رفعت بصري نحوها وبعد لحظات من تأملي في وجهها ، شعرت بإحساس غريب ، فنظراتي لها في البداية كانت لفترة ثانية أو ثانيتين على الأكثر ، أما هذه المرة وكوني أطلت التأمل في وجهها على غير عادتي بدا لي وجه الموظفة بملامح أخرى لم أراها من قبل . لم أفهم ما الذي رأيته في وجه الموظفة وحرك جميع مشاعري . شيء غريب ذكرني بلوحة موناليزا (الجوكندا) للفنان العبقري ليوناردو دافينشي . فهذه اللوحة كانت من أحب الأعمال الفنية العالمية إلى قلبي وقمت عليها دراسات عديدة .... في تلك اللحظة رأيت نفسي وبشكل لا إرادي أهمل حاسة السمع فلم يعد يهمني لا الحوار ولا المصطلحات الخاصة بالموضوع ، سؤال واحد وجب الإجابة عليه ، ما علاقة هذا الوجه الذي أراه الآن أمامي مع وجه موناليزا ؟ وكان من عاداتي الصارمة ألا أترك شيئا يحرك مشاعري إلا ووجب علي تحليله وفهم سببه .

كان من عادتي ألا أطيل النظر في وجه أي إمرأة يقع عليها بصري مهما كانت ، فكانت نظراتي نحو أي إمرأة تشد نظري سواء سلبيا أو إيجابيا يتوقف على بعد المسافة عنها ، فإذا كانت بعيدة كنت أتمعن بها لثوان قليلة ، أما إذا كانت قريبة فكانت المدة لا تتعدى أجزاء من الثانية . الموظفة كانت على مسافة حوالي مترين فقط ، وحتى لا تشعر أنني أبحث وأحلل ملامح وجهها كنت أرفع بصري نحوها للحظة خاطفة أتأملها جيدا ثم أدير وجهي عنها ، ومن خلال تلك الصورة التي طُبعت في ذاكرتي كنت أبحث فيها للإجابة على سؤالي الذي حرك جميع مشاعري.

كان هناك اختلاف شاسع بين وجه موناليزا ووجه هذه الموظفة ، موناليزا شعرها كستنائي غامق ، وعيناها عسليتان بحجم متوسط ، ووجهها شبه مستدير ، أما الموظفة فكانت شقراء وعيناها زرقاوتان واسعتان نوعا ما ووجهها شبه طويل . حتى أنني عندما وقع بصري عليها في أول مرة رأيتها فيها ، استغربت ان تكون هذه الموظفة يونانية ، فشكلها يوحي تماما بأنها من سكان أوروبا الشمالية ، ألمانيا أو بريطانيا أو السويد ... ، فما الذي جعلني فجأة أشعر بوجود علاقة قوية بينها وبين موناليزا ؟

من يفهم حقيقة إبداع ليوناردو في لوحة موناليزا لن يصعب عليه الإجابة عن هذا السؤال ، فليوناردو في الحقيقة لم يرسم جسد ولكنه رسم روح ، والشبه بين هذه الموظفة وموناليزا لم يكن في الصفات المادية في الوجه ولكن في التعبير الروحي . فالذي رأيته عندما وقع بصري على وجه الموظفة وشد إنتباهي لها كان ابتسامتها التي تكونت من إنسجام تعبير نظراتها مع تعبير شفتيها ، ولكن الشيء الذي حرك مشاعري وأيقظني من العالم الذي كنت فيه لأدخل عالما آخر فلم يكن في الحقيقة سببه تشابه ابتسامة هذه الموظفة مع ابتسامة موناليزا ولكن إختلافه . وكأن الروح التي أعطت هذه الإبتسامة في وجهه الموظفة كانت هي نفس روح موناليزا ولكن في زمن آخر وبمعنى آخر .

مرة أخرى رفعت بصري نحوها لتلتقط عيني صورتها لأبحث فيها من جديد ، كانت في تلك اللحظة تنظر إلي ، إلتقت عيناي بعيناها ، لا أدري لماذا شعرت بأن نظرة الموظفة لي لم تكن نظرة عابرة ، ولكنها نظرة وكأنها كانت تعلم تماما كل ما كنت أفكر به في تلك اللحظة . لا أدري ما أصابني ... شعرت وكأن قلبي الذي زادت نبضاته فجأة وكأنه سيقفز من صدري إلى خارج جسدي . أخفضت بصري مباشرة ، والتفت بجسدي نحو ناحية أخرى ، ولم أعد أجرأ بالنظر إليها مرة أخرى .

صديقي إبراهيم الذي كان يتحرك ذهابا وإيابا عندما إقترب منا نظر إلى المرأة نظرة مائلة تعبر عن شدة إنزعاجه منها بسبب تأخيرها لنا ، وعندما رآني أنظر إليه قام بحركة بيديه لها معنى (ماذا يحصل معها ألن تنتهي ) .

يبدو أن الموظفة رأت ما فعله صديقي ، فسمعتها تعتذر للمرأة بأسلوب لطيف ، وتقول لها بأنها لا تستطيع مساعدتها أكثر في مشكلتها ، وأن هناك من ينتظر دوره لينهي معاملاته . عندها إلتفت المرأة إلى صديقي الذي سرعان ما أخفى عنها نظرته المائلة وأدار وجهه لمكان آخر ، واعتذرت منه ثم التفتت نحوي واعتذرت بابتسامة دون كلام ، ثم جمعت اوراقها وغادرت المكان .

أخذ صديقي مكانها مباشرة ، وعبر عن إنزعاجه من المرأة للموظفة قائلا لها :

- ما هذا ؟ نفس السؤال تكرره عشرات المرات وبطريقة مختلفة .

فردت عليه الموظفة :

- بعض الناس ليس لديهم ثقة بفهمهم للأمور لهذا يعيدون السؤال نفسه ليتأكدوا من فهمهم له .

فرد عليها صديقي :

- شيء يحطم الأعصاب فعلا ، كان الله في عونكم .

سألته الموظفة وهي تشير إلي :

- هل أنتما معا ؟

فأجابها صديقي بنعم ، فسألته الموظفة عما نريد ، فشرح لها صديقي الأمر ، فطلبت منه هويته لتأخذ بياناتها ، فرأت صديقي يلتفت إلي ويطلب مني بطاقة الإقامة ، فسألته الموظفة بأسم من سيتم تسجيل الطلب ، فأخبرها صديقي وهو يشير بيده نحوي بأنه سيكون بإسمي . في تلك اللحظات ومن لهجة صديقي باللغة اليونانية ، علمت الموظفة بأننا أجانب غير يونانيين ، فسألته الموظفة وهي تشير إلي فيما إذا كنت لا أجيد التحدث باليونانية ، فأخبرها صديقي عني بأنني أجيدها ، فنظرت إليه باستغراب قائلة :

- إذن دعه هو يتكلم عن نفسه طالما أنه هو صاحب العلاقة .

إعتذر صديقي وإبتعد قليلا لأحل مكانه . مددت يدي لها ببطاقة الإقامة فاستلمتها وأخذت تتمعن بها ، ولكن تمعنها فيها طال أكثر من الوقت الطبيعي ، فظننت ربما هناك شيء ما في الإقامة يمنع السماح بتقديم الطلب ، فقلت لها :

- عفوا .

كانت هذه المرة الأولى التي تسمع بها صوتي ، فرفعت بصرها نحوي ، تابعت كلامي قائلا :

- أعتقد أنه لا يوجد أي مانع قانوني لتقديم الأجانب طلب خط هاتف ، أليس كذلك ؟

لا أدري ما الذي جعلها تتأثر وهي تسمع كلماتي ، فرأيتها تتمعن في وجههي ، وابتسامة اعتذار تملأ وجهها قائلة :

- لا طبعا ، طالما لديك إقامة قانونية . لا يوجد أي مانع .

قبل أن تخفض بصرها لتتمعن في بيانات بطاقة الإقامة ، قلت بصوت مسموع بشكل عفوي وكأنني أكلم نفسي :

- الحمدلله .

رفعت بصرها نحوي ثانية وراحت تتمعن ملامح وجهي وابتسمت للأسلوب الذي نطقت به العبارة الأخيرة . في تلك اللحظة شاهد صديقي تلك البسمة وتلك النظرة على وجه الموظفة ، فركلني بقدمه ركلة خفيفة فهمت معناها ولكن لم أفعل شيء كرد فعل على هذه الركلة كي لا تكتشف الموظفة أنه هناك حوار خاص يحدث بالأقدام بيني وبين صديقي عنها .

أخذت الموظفة الإستمارة وأمسكت بالقلم وراحت تنقل إليها البيانات الموجودة في بطاقة الإقامة ، بعد كتابة القليل من الكلمات توقفت ورفعت بصرها نحوي وسألتني سؤال ليس له علاقة بموضوع الطلب :

- انت طالب جامعة أليس كذلك .

- نعم

- في أي كلية تدرس ؟

- في كلية الزراعة .

- في أي صف انت ؟ إذا لم يكن هناك مانع من هذا السؤال .

- لا ، لا يوجد أي مانع . أنا تخرجت من كلية الزراعة في بلدي ، وهنا أتابع دراسات عليا .

سألتني مستغربة :

- كم سنة لك هنا في اليونان ؟

- سنة ونصف تقريبا .

اتسعت عيناها دهشة وهي تقول :

- سنة ونصف فقط ، معقول ؟ أنت تتكلم اليونانية بطلاقة وكأنك مقيم هنا لأكثر من عشر سنوات .

وقبل أن اعقب على كلامها ، رأيت صديقي يقترب نحونا قائلا :

- معك حق سيدتي ، الجميع هنا مندهشون من سرعة تعلمه لليونانية .

هزت الموظفة رأسها لصديقي ثم ألتفتت إلي وسألتني :

- كم سنة ستكون مدة دراستك هنا ؟

فأجبتها :

- الله أعلم ، أنا الآن أقوم بتعديل الشهادة ، وتحتاج إلى سنة واحدة - طبعا إذا نجحت في جميع المواد - ثم أحتاج إلى أربع سنوات تقريبا لتحضير الدكتوراه - طبعا إذا وافق احد الأساتذة في الإشراف على موضوع الدكتوراه .

يبدو أن الجمل المعترضة التي تبدأ بكلمة ( طبعا) قد أثر بها ، فعلقت مبتسمة :

- أتمنى أن تسير أمورك على أحسن حال ، وتنهي دراستك في أقرب وقت .

رفعت بصري إلى الأعلى وكأنني أتحدث مع نفسي بصوت مسموع قائلا :

- آمين يارب .

ابتسامة عريضة كادت أن تتحول إلى ضحكة إرتسمت على وجهها ، فالشباب اليونانيين في ذلك الوقت كانوا نادرا ما يستخدمون عبارات تحوي اسم الله . عندما أخفضت بصري نحوها ، أخفضت هي أيضا بصرها وراحت تتابع الكتابة على الإستمارة .

صديقي الذي كان يتابع بتمعن ملامح وجه الموظفة ، ركلني مرة أخرى بقدمه ، ولكني لم أقوم بأي ردة فعل . فالوضع الذي كنت فيه كان مناسبا تماما لي ، حيث يسمح لي بإطالة النظر والتمعن بوجه الموظفة كسلوك طبيعي بين صاحب المعاملة والموظف المسؤول ، وبشكل لا يسمح سواء لها أو لأي شخص آخر أن يعتقد أن نظرتي لها كانت نظرة تحليل ودراسة شخصية الموظفة . ورغم أنها كانت بعد كتابة عدة كلمات ترفع بصرها نحوي ثم تخفضها لتتابع الكتابة ، ولكن هذا لم يمنعني من التجرؤ في الإستمرار في التمعن في وجهها ، فكنت فقط عندما أشعر أنها سترفع بصرها نحوي كنت أخفض بصري فورا لتظن وكأنني فقط أنتظر منها إنهاء المعاملة . فكل ما كان يهمني في تلك اللحظات هو أن أستطيع قبل مغادرتي للمكان فهم ذلك اللغز في وجه هذه المرأة الذي حرك مشاعري فجأة وجعلني أنتقل إلى عالم آخر مليء بذكريات عديدة أثرت على مجرى حياتي وكونت شخصيتي كما هي عليه اليوم .

عندما إنتهت الموظفة من كتابة البيانات ، نهضت ومدت يدها بالإستمارة نحوي وطلبت مني أن أخذها وأذهب إلى مكتب رقم (٦) لتسجيلها كخطوة ثانية . في تلك اللحظة كنت لا أزال أعيش في العالم الآخر ، لهذا لم أفهم شيئا على الإطلاق مما قالته لي ، فقط أخذت الإستمارة وإلتفت إلى المكان الذي أشارت نحوه دون أن ادري ماذا علي أن أفعل . صديقي لم يفهم حقيقة ما كان يحصل معي في تلك اللحظة ، فظن أنني أبحث بنظري عن مكان المكتب رقم (٦) ، فأشار لي بيده عن مكان المكتب قائلا :

- هناك ، عند الموظفة التي ترتدي الجاكيت الأسود .

لا أدري ما الذي حصل للموظفة بعد سماع ما قاله صديقي ، فرأيتها تطلب مني أن أعيد لها الإستمارة ، وأن أنتظر هنا في مكاني ، وأنها هي بنفسها ستذهب للقيام بهذا الإجراء . ثم أبتعدت عنا متجهة إلى مكتب رقم (٦) .

بمجرد أن رأى صديقي الموظفة تبتعد عنا ، إقترب مني وهمس لي :

- هل لاحظت ملامح وجه الموظفة وهي تنظر إليك؟

فاجبته وكأنني لم أفهم ما يقصد :

- ماذا بها ؟

- إنها معجبة جدا بك .

حاولت أن أظهر نفسي غير مهتم لما أسمعه منه ، فعلقت على كلامه قائلا :

- شعورك هذا مجرد تهيؤات .

فرد علي بحماس يحاول أن يقنعني برأيه :

- ليست تهيؤات ؟ ألم تلاحظ كيف كانت ...

فقاطعته قائلا :

- ألم تلاحظ أنت أيضا كيف استحملت المرأة التي قبلنا أكثر من ربع ساعة دون أن تشتكي من كثرة كلامها .

- لا ، الأمر معك مختلف تماما .

- بل نفس الشيء ، الموظفة يبدو أنها سيدة طيبة وتعامل جميع الناس بكل احترام ورحابة صدر .

- لا ، لا ، نظراتها لك كانت نظرات إمرأة تعبر عن إعجابها الشديد بالرجل الذي تتحدث معه .

وقبل أن أعلق على كلامه ، تابع كلامه قائلا بحماس شديد :

- انظر ، أنا الآن سأخرج وانتظرك خارج المبنى ، وعندما تأتي حاول أنت أن تخلق مواضيع مختلفة تجعلك تتكلم معها لأطول فترة ممكنة ، ثم حاول أن تطلب منها موعد لتقيم علاقة معها .

فقلت له وأنا أتظاهر بإستغراب شديد :

- ماذا تقول ، هل جننت ؟

فرد علي بانفعال :

- الموظفة تريد أن تطلب منها هذا ، أنت الرجل وأنت الذي يجب عليك أن تقوم بالخطوة الأولى ، الموظفة ستكون سعيدة بطلبك هذا وإياك أن تخذلها .... أنا سأخرج الآن قبل أن تأتي .

قال كلامه هذا وابتعد بخطوات سريعة وخرج من المبنى .

حتى تلك اللحظات لم يخطر على بالي أنه من الممكن أن تحدث علاقة بيني وبين الموظفة مهما كان نوع هذه العلاقة ، فقد كنت متعودا على مثل هذا النوع من الإعجابات ولم أفكر يوما أن أستغله في إقامة علاقة مع أي إمرأة ، ولكن كلمات صديقي جعلتني فجأة أتمنى أن يحدث لقاء خاص بيني وبين هذه المرأة .. لا أدري لماذا .. فرغم أني قد عارضت فكرة صديقي بشكل قاطع كون فكره ذهب إلى العلاقة الجنسية ، ولكن في داخلي سررت بفكرة التحدث إليها خارج نطاق عملها ، فهذه الفكرة التي لم تخطر على بالي حتى تلك اللحظة ... هل من المعقول أن أحاول أن أطلب منها أن نلتقي يوما ما ...

مع ظهور هذه الرغبة في داخلي شعرت وكأن صراع بدأ يحدث بين عقلي وأحاسيسي . فكانت أحاسيسي بأكملها تؤيد في التحدث إليها ، ولكن عقلي كان يرفضها تماما .... أي علاقة يمكن أن تحصل بين شاب بالعشرينات مع إمرأة بالأربعينات ، فمظهر الموظفة كان يبدو وكأنها تكبرني بخمسة عشر عاما أو ربما عشرين . وهذا يعني بالتأكيد - في تلك الأيام - أنها متزوجة ولديها أولاد ، فكيف سأسمح لنفسي أن ألتقي بها في مكان عام ، ماذا سيحدث إذا رآنا زوجها ، أو أحد معارفها ، فهناك احتمال كبير أن يحصل هذا الشيء ، ويجب أن أضع هذا الإحتمال في المقدمة وقبل أي إحتمال آخر ، فإذا حصل هذا الإحتمال عندها ستكون نتيجة هذا اللقاء دمار عائلتها بأكملها ، فمن المستحيل أن يرى رجل زوجته مع شاب أصغر منها وينظر إلى الأمر وكأنه شيء طبيعي وخاصة أن هذا الشاب أجنبي ، وأن يفكر بأن العلاقة بينهما علاقة بريئة ، وخاصة أن صفات زوجته كوجه وتناسق جسدي كانت جميلة يعشقها الكثير من الرجال .

ولكن من ناحية أخرى ، كانت تلك البسمة المحيرة التي لم أفهم حقيقة لغزها بعد ، تجعل أحاسيسي ترفض جميع تلك التحليلات العقلية التي تحصل في رأسي ، وتفرض علي أن أرى الأمور من زاوية أخرى ، وأن ما جذب عواطف هذه المرأة نحوي هو ما شاهدته في وجهي من تغيرات بسبب ذلك الحلم الذي عشته ليلة البارحة ، وأن الموضوع بأكمله ليس له علاقة بشعور إعجاب إمرأة برجل كما تصوره صديقي ، ولكن شيء آخر .... لا أدري لماذا كانت مشاعري تؤكد لي بأن هذه المرأة تعيش مأساة وأن روحها وجدت شيء في شخصيتي يمكن له مساعدتها في الخلاص من هذه المأساة . وكان إحساسي بأن هذه المرأة تعيش مأساة هو الذي يلح عليّ أنه من واجبي أن أفعل شيئا من أجلها .

وبينما كنت غارقا في صراع التناقضات التي تحدث داخلي ، رفعت بصري نحو المكتب رقم (٦) ، رأيت الموظفة وزميلتها تبتسمان وتتحدثان وهما تنظران نحوي ، مما رأيته شعرت أنهما تتحدثان عني ، ابتسمت لهما إبتسامة خفيفة وأخفضت بصري .... تذكرت كلام صديقي وهو يحاول أن يؤكد لي بأن الموظفة ستقبل طلبي بالخروج معها برحابة الصدر ، شعرت ثانية بشيء ما في داخلي يفرض علي أن أحاول معها في طلب موعد . هكذا شعرت في تلك اللحظة وظننت أني قد توصلت إلى قراري الأخير ، ولكن فجأة سمعت أصوات أطفال وهم يلعبون ، تأتي من المدرسة الإبتدائية المجاورة لمبنى شركة الهاتف ، شعرت عندها بأن أفكاري عادت ثانية لتتناقض مع بعضها البعض . فصوت الأطفال الذي كنت أسمعه في تلك اللحظات تهيأ لي وكأنه عبارة عن إنذار يحذرني من إقامة أي علاقة مع هذه المرأة ، شعرت وكأن هذه الأصوات هي صوت أبناء الموظفة وهم يقولون لي بما معناه (لا تدمر عائلتنا من أجل نزوة عابرة) . أصوات الأطفال جعلتني فجأة انسى كلام صديقي وجميع أحاسيسي التي كانت تلح علي أن أحاول إقامة علاقة معها حتى ولو كانت هذه العلاقة بريئة .

عندما وصلت إلى هذا القرار ، رأيتها بقربي تنظر في وجهي وكأنها تحاول أن تعرف ما الذي يشغل فكري ليجعلني أسرح في ذهني ولا أنتبه إلى قدومها ، ابتسمت لي وسألتي :

- أين صديقك ؟

- ذهب ليدخن سيجارة خارج المبنى ؟

لا أدري كيف خطرت على بالي هذه الإجابة ، رغم أن صديقي لا يدخن . مدت إلي يدها لتعطيني الإستمارة وقالت :

- الإستمارة جاهزة .

- شكرا جزيلا .

أخذت الإستمارة ، ورغم أني كنت قد قررت أن أضع حدا للذي يحصل بيني وبينها وأنه يجب علي مغادرة المكان ، ولكن قدماي ظلت ثابتة وكأنهما ترفضان الإبتعاد عن المكان . الموظفة ظلت واقفة تنظر إلي وكأنها مستعدة لأن تجيبني عن أي شيء أريد أن أسألها . وهذا ما شجعني على البقاء ، نظرت إلى الإستمارة أصطنع نفسي وكأنني أقرأ ما كتب فيها ، ولكن في الحقيقة كنت أشعر وكأنني أنظر إلى صفحة بيضاء خالية من أي كلمة ، تماما على عكس ما كان يحصل في عقلي ، الأفكار المتناقضة التي كانت تتصارع مع بعضها البعض شلت مقدرتي على إيجاد أي سؤال يسمح لي بمتابعة الحديث معها . فشعرت أنه من الأفضل مغادرة المكان ، فرغم أن أحاسيسي كانت أقوى من تفكيري العقلي ، ولكن إضطرابي النفسي الذي كنت أعيشه في تلك اللحظات جعلني غير قادر على إيجاد أي سؤال .

وقبل أن أقوم بأي حركة لمغادرة المكان ، سمعتها تقول لي :

- هل هناك أي إستفهام تريد أن أوضحه لك .

نبرة صوتها وطريقة نظرتها لي في تلك اللحظة وكأنها وضعت حد لذلك الصراع الذي يحدث في فكري وأعادت له الصفاء ثانية ، فخطر على بالي سؤال هام يتعلق بموضوع الطلب لم انتبه إليه من قبل ، فقلت لها :

- نعم إذا لم يكن هناك أي مانع .

- تفضل بكل سرور .

- كم هي المدة التي تحتاج لأحصل على الهاتف .

- ربما ثلاث سنوات

لم أصدق ما أسمعه ، وقلت لها :

- ثلاث سنوات !

- وربما أربعة .

- ولكن صديقي الذي يسكن بجواري حصل عليه بعد ثلاثة أشهر فقط .

- ثلاثة أشهر ! مستحيل .

- هكذا أخبرني ولا أعتقد أنه هناك سبب ليكذب علي .

- منذ متى حصل عليه ؟

- قبل أربع سنوات تقريبا .

- آها نعم فهمت ، نعم كلامه صحيح ، فقبل أربع سنوات كانت هناك خطوط عديدة جاهزة ، في ذلك الوقت بعضهم حصل على خط هاتف بعد شهر واحد فقط . ولكن الآن الأمر مختلف .

شاهدت الموظفة لمحة حزن ترتسم على وجهي بعد سماع كلامها ، فقالت :

- أنا آسفة .

- بالنسبة لي لا يوجد أي مشكلة ،

ثم تابعت كلامي دون أن أنظر إليها وكأن ذهني قد سرح بعيدا :

- حياتي بسيطة ولا ضرورة لوجود هاتف في بيتي ، ولكن الموضوع يتعلق بأمي ، فهي قلقة علي باستمرار وكان أملي عندما أحصل على هاتف في بيتي أن يجعلها تطمئن نفسيا عندما ستعلم بأنها تستطيع أن تتصل بي في أي وقت تشاء .

رفعت بصري نحوها ، رأيت في وجهها تلك البسمة المحيرة وهي تتأمل وجهي ، فحاولت تبرير سرحان ذهني قائلا :

- تعلمين مدى قلق الأم على أبنائها.

هزت رأسها واتسعت الابتسامة على وجهها وقالت :

- أعلم ذلك ، أنا أيضا أم.

مهلا ...قالت هي أيضا أم! يعني أنها متزوجة ، ودخولي في حياتها سيعني تدمير عائلتها بدون ادنى شك . في تلك اللحظة وقع بصري على الموظفة التي ترتدي الجاكيت الأسود ، كانت تنظر إلينا نظرة وعلى وجهها ابتسامة ماكرة وكأنها تعلم بأن شيئا ما يحصل بيني وبين الموظفة ، وأن حديثنا لم يعد حديث بين صاحب معاملة وموظفة ، ولكن حديث عاطفي بين رجل وأمرأة وأنها تراقبنا وتحاول أن تعلم هل سأطلب منها موعد أم لا .

نظرات الموظفة التي ترتدي الجاكيت الأسود وكأنها قد أيقظتني من العالم الذي كنت قد رحلت إليه لأعود ثانية إلى العالم الواقعي الذي أعيش فيه ، فشعرت وكأن عيون جميع الموظفين والموظفات تحدق بنا وتتهامس عنا .

حاولت في تلك اللحظة أن أقّيم منظرنا أنا والموظفة فيما إذا كان يدعو إلى أي شبهة ، رفعت بصري إلى الموظفة ، رأيتها لا تزال تتأمل وجهي والبسمة المحيرة وكأنها لا تريد أن تفارق وجهها ، كنا قريبان من بعضنا أكثر من المعهود ، مسافة متر واحد على الأكثر ، فهي منذ عودتها من تسجيل الطلب في المكتب المجاور ، لم تجلس بل ظلت واقفة وكأنها سعيدة بوجودي ولا تريدني أن أرحل .

بعد تحليلاتي العقلية هذه لوضعنا الذي كنا عليه ، بدأت أتسآل مع نفسي عما أفعله ، جميع الموظفين يعلمون أن زميلتهم متزوجة ، وأن وضعنا المشبوه هذا سيجعل جميع الموظفين يظنون بأن زميلتهم قد أعجبت بالشاب الذي أمامها وأنها تريد خيانة زوجها معه .لا يوجد تفسير آخر لما يشاهدونه الآن أمامهم .... كيف أسمح لنفسي بتشويه سمعة إمرأة بين زملائها وهي في الحقيقة ليس لها هذا الغرض .... كيف سهوت عن أهم نقطة في هذا الموضوع .... يجب أن ارحل فورا .... هذا ما يجب أن أفعله لأمنع أي أساءة قد تمس سمعة الموظفة .... هذا هو قراري الأخير .. يجب عليَّ أن أرحل فورا .

وكأن أصابع يدي راحت ترفض تنفيذ قراري عندما حاولت طوي الإستمارة لأعلن رحيلي ، ولكني أجبرتها على فعل ذلك ، ثم رفعت بصري نحوها قائلا :

- شكرا جزيلا ، لقد أتعبتك كثيرا ، تماما كما فعلت المرأة التي كانت قبلي .

أتسعت ابتسامتها وتحولت إلى شبه ضحكة ولكنها ضحكة حزينة وقالت :

- العفو .

وعندما ألتفت لأغادر المكان سمعتها تتابع كلامها قائلة :

- مع السلامة .

رفعت بصري نحوها ثانية ، وقلت لها عبارة يستخدمها اليونانيين أحيانا بدل كلمة ( شكرا) :

- أتمنى لك كل خير .

وابتعدت عن المكان متوجها نحو البوابة ، كنت متأكدا تماما من أنها لا تزال واقفة تتابعني بنظراتها ، فنظراتها كنت أشعر بها وكأنها كانت تلامسني .... كم كان بودي عندما وصلت إلى البوابة أن ألتفت وأنظر إليها للمرة الأخيرة ، نظرة طويلة تكون بمثابة نظرة الوداع الأخير ، أعبر فيها عن شدة إعتذاري لتسامحني كوني أرحل هكذا وكأن تلك المشاعر التي شعر بها كل واحد منا نحو الآخر ، كانت وكأنها لم تكن ... ورغم أن جميع أحاسيسي كانت تطلب مني أن ألتفت إليها ، ولكني لم أفعل ، فعقلي في تلك اللحظة كان هو المسيطر ، ومنعني أن أفعل ذلك كي لا أعطي أي فرصة لأي موظف في الشركة أن يمس سمعة هذه السيدة بأي سوء ، وهكذا فعلت وغادرت المكان .

خرجت من المبنى وأنا أعتقد تماما أن قصتي مع هذه المرأة في تلك اللحظة قد انتهت وإلى الأبد ...... البقية في الجزء القادم إن شاءالله .

وسوم: العدد 845