كلاب الانقلاب

سعيد عبيد

[email protected]

ما إن انزلقت عجلات الحافلة المتهالكة في الطريق الجبلي الوعر فانقلبت، حتى حاصرتها الكلاب الوحشية من كل ناحية. لم تترك فرصة لأحد ممن نجا لينفذ بجلده، حتى السائق الطيب العمُّ صالح خرّقتْ بأنيابها المُدبَّبة فخذَه وكتفَه الأيمنَ وعَضُديْه، قبل أن ينبح الزعيم بحزم: "توقفوا، هذا يكفي. لنكتف الآن بلحم الأموات وعظامهم، ولتحتفظوا بالأحياء". وأضاف بحكمة: "أمامنا شتاء طويل، أفهمتم؟".

بما يشبه المعجزة نجا خالد أيمن من القيد الرهيب قبل أن تَحين ساعة افتراسه: استطاع أن يغري الكلب النحيف "س.س" – وأحتفظُ باسمه لدواعٍ أمنيَّة – بالتنازل له عن نصف نصيبه المتواضع من أسهم المَسلخ البلدي. كان ذلك كافيا ليَسيل لعابه، فحمله على ظهره تحت جنح ظلام الرُّبع الأخير من الليل، إلى غاية بيته.

حكى لي خالد عن كثير من الأشياء المُريبة والمرعبة: عن اللُّعاب الزَّلق الذي كان يملأ الطريق الملتوي، وعن انقطاع لاسلكيِّ الإغاثة في آخر لحظة، وعن مدى العنت الذي لقيه العم صالح حتى لا تنقلب الحافلة حفاظا على أرواح الناس، وعن مقاومته – رحمه الله – بشراسة حتى آخر رمق، وعن الكلبين اللذين كانا بين الركاب يرتديان زيا أنيقا بربطة عنق، ويتحدثان بجهارة وبلا ارتياب عن إعجابهم بالحافلة وبالسائق وبالرحلة وبالمناظر الرائعة، وعن الحبس الانفرادي الرهيب، وعن الأنياب والأظفار... "لكن المفزع حقا هو النباح". قال مرتبكا حتى إن الحروف كانت تخرج بصعوبة من بين فكيه الملتحمين: "تصوّرْ أن النباح الشرس كان يستمر بلا انقطاع طيلة النهار، وثلاثة أرباع الليل! لقد كنا نتحمل كل العذاب، بما في ذلك الموت المعجَّل، إلا ذلك النباح المتواصل ليل نهار". ثم أشار إليَّ بالسكوت - رغم أني كنت ساكتا أنصتُ برعب – وهو يمسك رأسه بين يديه، ويغلق أذنيه براحتيه ضاغطا عليهما بقوة، كأنما عاودتهما نوبة نباح هستيري حادة مفاجئة، ثم ارتمى كالمصروع يتلوّى على الأرض كمن تتناوش جسمَه الغضَّ ألوفُ الحيَّات والعقارب.

عجبت حدَّ الصدمة لِما آلتْ إليه حاله، لا سيما أنه لم يكن يُسمَع في المقهى الهادئ إلا خليط ناعم من وشوشات بعض الرواد، وموسيقى حزينة، وصرير عصّارة القهوة. ارتميتُ أحضنه، وأهدّئ من رَوْعه. وحين التفتُّ لأطلب من أحدهم أن يتصل عاجلا بالإسعاف، وقعت عيناي على رجلين ينظران إليَّ بحقد شديد. ولما فتح أحدهما فاه متمتما بشيء في أذن رفيقه، رمقتُ مرعوبًا خلف الشفة السفلى نابيْن بارزين حادّين، وعلى الطاولة أوراقٌ مبعثرة، وقهوة سوداء، وعلبتا سجائر، وهواتف ذكية، وأيدٍ مُشعّرة بأظفار معقوفة تعبث بلفائف مارلبُورُو بتوتُّرِ مَن يتحفز لارتكاب جُرمٍ وَشيك.