حكايةُ عائدٍ من قبره

{جاءتني هذه الالتفاتة الرائعة، والحكاية المفجعة للناس ،إذ لابد منها لكل إنسان ، وفيها ذكرى لمن كان له قلب ، فأحببتُ أن أقدمها كما وردتني من أحد الصالحين ــ ولا أزكي على الله أحدا ــ إلى الإخوة الأحبة رواد موقع أدباء الشام

وفقهم الله

 ***

  عدتُ من عملي إلى داري متعباً منهكاً قبيل العصر…

استقبلتني زوجتي بوجهها البشوش محييَّة حامدةً الله على سلامتي

طلبتْ مني تغيير ملابس عملي والاستلقاء كي أريح قليلا ريثما ينضج الطعام

دلفتُ إلى غرفتي واستلقيتُ على سريري وغططتُ في نوم. عميق

صحوتُ على صوت المؤذن لصلاة العصر

خرجت فتوضأتُ واتجهتُ إلى المطبخ لأجدّ أم أحمد مازالت منهمكةً في إعداد الطعام

جلست إلى المائدة وسألتها كعادتي بتودِّدٍ

ماطعام الغداء يا حبة القلب ورفيقة الدرب؟

لم تردَّ عليَّ وتجاهلتني فأعدتُ السؤال مرة ثانية وثالثة ففوجئت أنها غير مبالية

كانت دهشتي أسرع من غضبي

  ما السبب ؟

أأُصِيبتْ أم أحمد بالصمم ياللمصيبة فللمرة الأولى وعلى مدى ثلاثة عقود من زواجنا أخاطبها ولا تعيرني بالاً أو اهتماما!

دخل ابني إلى المطبخ ناديته ياأحمد ناولني كأسَ ماءٍ من الثَّلاجة

لم يردَّ عليَّ. عجباً هذا الولد البارُّ المهذَّبُ أصبح عاقاً أم حلَّ به الصَّمم

صرخت بوجهه ياأحمد ياأحمد. لم ينظر إليَّ ولم يعرني أيَّ اهتمام. رباه ماذا فعلت من سوءٍ حتى يقاطعاني ولا يكلماني

هممتُ بالخروج فإذا بزوجتي تقول لأبننا

أحمد اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء وقل له نحن بانتظارك

بلغ مني الذهول مبلغا لايعلمه إلا الله

اتجه ابني إلى غرفتي وأنا أرافقه ليوقظني

صرخت بوجهه أمام باب الغرفة فلم يعرني اهتماما

صرخت ووضعت يدي على كتفه يابنيَّ ياقرَّة العين أنا هنا إلى جانبك ماذا حدث لعقلك ؟

لم يلتفت إليَّ ومضى مسرعاً إلى سريري وهو يناديني بابا

  باباوصرخ بااااباااااا فاصفرَّ وجهه وتركني مسرعا إلى أمه وأنا غارقٌ في ذهولي

ارتسم الرعب على وجهه أمام أمه فقالت له

هل أيقظت أباك ؟

تلعثم قليلا ثم قال لها : أمي حاولت إيقاظه مرارا لكنه لم يجبني ! ازدادت دهشتي ماذا يقول هذا الولد المجنون وأنا اسمعه وأنظر إليه

دخلت زوجتي مسرعةً إلى الغرفة وخلفها بقية الأولاد مذعورين فتبعتهم لأرى هول المصيبة

أمرأتي تحاول إيقاظ شخص آخر في سريري يشبهني تماماً ويلبس نفس ثيابي

مدَّت يديها الحنونتين أبا أحمد. أبا أحمد وأبو أحمد لايبدي حراكا وأنا أنظر إليهما بذهول وأجيبها فلاتسمعني

رأيتها قد يئست من إيقاظي واغرورقت عيناها بالدموع

بدأ أولادي بالبكاء والنحيب ومناداة ذلك الرجل الذي يشبهني والملقى على سريري وهم يتعلقون بثيابه أملا في الرد عليهم

كدتُ أجنُّ وأنا لا أصدق ما يجري حولي

يا إلهي ما الذي يحدث؟

  من هذا الرجل الذي هو نسخة عني؟

  لماذا لا يسمعني أحد ؟

لماذا لا يراني أحد ؟

خرج ابني مسرعا ليعود بعد قليل ومعه أبي وأمي وإخوتي وصرخ الجميع وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني وتبكي بكاءً حارا. ذهبت إليها قبَّلتها لمستها ولم تعرني بالا

أمي نبض قلبي أنا هنا أنا حيٌّ ومن هذا الرجل الغريب الذي تلبَّسني ؟

التفتُّ إلى أبي وإلى إخوتي محاولا إسماع صوتي ولكن دون جدوى

ذهب إخوتي لإعداد الجنازة وخرَّ أبي على الكرسي يبكي وأنا في ذهول تام وإحباط شديد من هول ذلك الكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه

جاء المغسل وبدأ في تغسيل ذاك الجسد الملقى على فراشي بمساعدة أبنائي ولفَّهوه بالكفن وأنا أنظر إليهم ووضعهوه في التابوت

توافد الجيران والأصدقاء والأحباب إلى البيت والكل يعانق أبي المنهار ويعَزُّون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان

حملوا النعشَ إلى المسجد ليصلُّوا على شبيهي وخلا المنزل إلا من النساء

خرجت مسرعاً خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا علي

وسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسر وسهولة دون أن ألمس أحدا

كبَّر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم يا أهلي يا جيراني يا أصدقائي على من تصلون ؟

أنا معكم ولكن لا تشعرون

أناديكم ولكن لا تسمعون

بين أيديكم ولكن لا تبصرون

عندما يئست منهم تركتهم يصلون وتوجهت إلى ذلك الصندوق وكشفت الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه

ما إن رأيتُ وجهه حتى فتح عينيه ونظر إليَّ وقال ساخرا :

أنا جسدك التراب. الآن انتهى دوري. أنا إلى الفناء وأنت ياحامل روح الله إلى الخلود والبقاء

لقد لازمتك عمرا مديدا واليوم مآلي إلى التراب ومآلك إلى الحساب فإما الثواب وإما العقاب

لم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقىً في التابوت فاقدا السيطرة على كل شيء

أطرافي لم تعد تستيجيب. أنفاسي في صعود هبوط

لم أعد أرى شيئاً. لم أعد أقوى على الحراك. أحاول الكلام فلا أستطيع

سمعتُ تكبيرات الإمام..ثم همهمات المشيعين

حملوني بعد الصلاة علي والدعاء لي على أكتافهم في صمت مهيب يخيِّم على المكان

  لحظاتٌ وصوتُ التراب ينهال عليّ. لحظاتٌ وصوت قرع النعال تتلاشى عني. ظلامٌ ووحشةٌ وبصيص نور أراه من بعيد

أدركت حينها أنها النهاية التي لم أعدَّ لها العدة الصحيحة في حياتي. لا. لا إنها البداية. بداية الحياة الجديدة الخالدة

صرختُ دون وعي ياليتني قدَّمتُ لحياتي. نعم لحياتي التي بدأت في هذه اللحظات العصيبة

ياربِّ رحمتك التي وسعت كل شيء اجعله حلما وأعدني إلى الدنيا

(رَبِّ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ )

نعم. نعم. وعزتك وجلالك أرجعني لأتصدق وأتصدق وأتصدق وأقوِّمَ كلَّ اعوجاجي

يالذلي فمازال لدي الكثير من اللقاءات والوعود في دنياي الفانية

مازال لدي الكثير من الأعمال التي لم أنجزها

مازال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوص بسدادها

ربِّ أرجعني أريد أن أوصي بفعل خير لطالما أجلته

أريد مكالمة جاري الذي أغضبته

أريد تقبيل قدميَّ أمي وأبي فلربما لم يكونا راضيين عني

أريد أن أنهى عن منكر لطالما رأيته ولم أفعل من أجله شيئا

أريد أن أفضح رئيس عملي الذي طالما تزلفت له خوفا منه وتسترت على سرقاته

أريد. وأريد. وأريد

شيئا فشيئا بدأت أختنق

ثم سمعتُ أصوات أقدام متجهة إليَّ

يا ويلتى سيبدأ الحساب هذا ما كان يقال لي في الدنيا لابد من أنهما منكر ونكير في طريقهما إليَّ

بقيت أصرخ في قبري

رب ارجعونِ

رب ارجعونِ

رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً

لم أسمع إلا صدىً لدعائي

كلا ، كلا ، كلا

بينما أنا في هذه الحالة المرعبة حتي تسلل إلى مسامعي صوت رقيق يهمس في أذني

بابا.. بابا.. الغدا يا بابا جاهز ونحن بانتظارك

فتحت عينيَّ لأجد ابنتي الصغيرة فلذة كبدي مبتسمةً كعادتها في وجهي تحضنني وهي تقول : يلا يابابا الأكل جاهز ........

وسوم: العدد 865