دكتور لا تشوف حالك علينا

غادرتُ سوريّة إلى فرنسا في نيسان عام 1990 للاختصاص, و بعد غيابٍ دامَ أربعَ سنواتٍ كنتُ في طريقِ العودةِ إلى دمشق على متنِ طائرةِ شركة الطيران العربيّة السوريّة (Boeing 707) التي قد يتذكّرها البعضُ منكم. لمْ يُفسِدْ عليّ فرحتي بالرجوعِ إلى دمشق بعد هذا الغياب الطويل نسبياً سوى ما جرى ذلك اليوم خلال الرحلة.

فبعد تناولِ وجبة الطعام سمعتُ أحدَ المُضيفين يهتفُ بالمُكبّرِ قائلاً هل يُوجَدُ معنا طبيبٌ فهناك مسافرٌ مريضٌ يحتاجُ إلى استشارةٍ ؟ رفعتُ يدي و توجّهتُ نحوَ مضيفٍ آخرٍ يقفُ بالقربِ من مقعدِ المريض المعني. كان هذا الأخيرُ شاحباً و الإعياءُ يبدو على ملامحه و رأسُه ملقىً على كتف زوجته. كان عمرُ المريض حسب الزوجة يُقاربُ الستين عاماً و بعد أنْ أنهى وجبته و وقفَ ليذهبَ إلى المرحاض وقعَ فجأةً و هو لا يشتكي فيما عدا ذلك من ألمٍ صدري أو أيّ عرضٍ آخر.  طمأنتُ الزوجةَ و المضيفين و الفضوليين الذين اجتمعوا حولنا بأنّ الأمرَ بسيطٌ و شرحتُ لهم بعباراتٍ مبسطةٍ ـ و هنا أحمدُ الله بأنّني ممن تعلموا الطبَ باللغة العربية ـ  بأنّه عانى من هبوط ضغطٍ شرياني انتصابي أو من وعكةٍ مُبهميّة (vasovagal syncope)  ويكفي بتمديد المريض و رفعِ ساقيه.

و بعد مرورِ خمس عشرة دقيقة عاد فيها لونُ المريضِ إليه و تشكّرتني زوجته و انفضَّ الجمعُ, سألتُ المضيفَ أنْ يُخلي لي مقعداً خلف مقعد المريض حتّى نهاية الرحلة فيما لا سمحَ الله أنْ يحتاجَ إلي مرّةً ثانيةً. و هنا وَقعتْ كلماتُ المضيف في أُذني كالصاعقة : "دكتور لا تشوف حالك علينا, كتّر خيرك و يعطيك العافية و تفضّل لمحلك".

*****

في 03/04/2017 كنتُ في عودتي من مطار بيروت الدولي إلى باريس على متن طائرة الشركة الفرنسيّة. و قبلَ وصولنا إلى مطار (Charles De Gaulle) الدولي بحوالي ثلاثين دقيقة, سمعتُ المضيفة الفرنسيّة تسألُ عن طبيبٍ بالمُكبّر لأنّ هناك مريضٌ يحتاجُ لاستشارةٍ (و هنا أحمدُ الله بأنّي أتكلّمُ اللغة الفرنسيّة). لحسن الحظ كانت شكوة المريض ضمن مجال اختصاصي. عمره حوالي السبعين عاماً و كانَ قد شعرَ بثقلٍ في الطرف العلوي الأيمن و صعوبةٍ بإيجاد الكلمات لمُدّة عشر دقائق تقريباً. شرحتُ له و للمضيفة أنّ الأمرَ هو احتشاءٌ دماغي عابر (TIA). لم أُعطه الاسبرين و إنْ كان احتمالُ النزف أو نوبةُ صرعٍ بسيطةٍ ناجمةٍ عن ورم دماغي ضئيلاً جداً و اكتفيتُ بإعطائه مهدئاً لأنّه كان قلقاً و عُدتُ إلى مكاني.

بعد دقائق عادتْ رئيسة المضيفين على مقربةٍ مني و قالت لي : أَخْلَيْنا لكَ و للمريض مقعدين في الدرجة الأولى و قائد الطيّارة يريد محادثتك.  دخلتُ إلى غرفة القيادة. و بعد أنْ تشكّرني القائد جزيل الشُكر تحدّثَ بالهاتف إلى طبيب المطار ليستقبلَ الفريقُ الطبي هناك المريض ثُمَّ طلب منّي أنْ أشرح لطبيب المطار الحالة.

و أخيراً طلبَ القائد من رئيسة المضيفات أنْ تُعطيني وصلاً صالحاً لمُدّة سنة فيه خصمٌ بمقدار 50% على سعر البطاقة القادمة على متن طائراتهم و زُجاجة شمبانيا. شكرتُه على جميع هذه الهدايا و قُلتُ له أنّ الهديّة الكبيرة التي من الممكن أنْ يُقدّمها لي هي صورةٌ تذكارية في غرفة القيادة معه و مع مساعده. أخذنا عدّةَ صورٍ و أضعتُ للأسف الصورةَ التي تظهرُ بها رئيسة المضيفين فقد كان بودّي أنْ أضعها مع هذا المنشور لأنها كانت جميلةً أو لأنّ رقّتها و معاملتها اللطيفة جعلتاني أراها جميلة.

رجَعَتُ إلى مقعدي بين فرحٍ و حزين و أنا أتذكّرُ ما حدثَ معي قبلَ ثلاثة و عشرين عاماً :

"دكتور لا تشوف حالك علينا, كتّر خيرك و يعطيك العافية و تفضّل لمحلك".

وسوم: العدد 893