التلّة

في دكان الخضروات، استرعى مسامعي حديث شيّق دار بين امرأتين ربيعيتين، إحداهما صاحبة الدكان والثانية من رواد الحانوت، فأخذت املأ سلّتي بالخضروات والفواكه التي لا أحتاجها حتّى يتسنّى لي الاستماع للحديث. قالت الزبونة لصاحبة الدكان بحركة جلية العذوبة:

- وأنا عائدة إلى بيتي، إذ بجاري العربي، وهو من قرية مهجرة مشهورة بنضال أهلها بتشبثهم بأرضهم وما زالوا يصارعون الدولة من أجل حقّ عودتهم، يقف مع جارتي اليهودية ويعلقان علم الدولة على مدخل البناية التي يسكنها عشرات العائلات العربية بمناسبة عيد الاستقلال، فاستعرت غضبًا من المشهد، وسألته مستهجنة: "من سمح لكم بتعليق هذا العلم؟". أجاب الجار العربي المهندم على آخر طراز: "علينا التعاطف مع مشاعر جيراننا اليهود".

- وماذا أجبته؟

- قلت له، وماذا مع مشاعري أنا وأولادي وشعبي؟ هل نسيت أنّ يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا؟ ألا تخجل وأنت رجل دين وخادم في بيت الله وتعمل على نشر المحبة، وتقترب من عقدك السابع من أن تعتلي السلّم لتعلق هذا العلم؟ انزل عن السلم قبل أن أصوّرك وابعث بصورك لأهل بلدك المشردين في أرجاء الوطن. والله إذا لم تنزل هذا العلم حالاً، سأعلق لكم العلم الفلسطيني.

سألتها البائعة بتعجب: وماذا فعلت؟

- اتصلت على الفور بصديق يهودي يساري، يحتفظ في بيته بعلم فلسطيني كبير، نرفعه في المظاهرات التي نشارك بها، فجاءني به وعلّقته في مدخل البناية، وتلقّيت الدعم من بعض العائلات على جرأتي... لم تمض دقائق معدودة حتى وصلت الشرطة على أثر اتصال من هذا الجار. لم يستطع رجال الشرطة أن يفعلوا شيئًا ضدي، فمن حقي أن أعلق أي علم. وأبلغني أحد رجال الشرطة العرب بأنّ جيراني في البناية اقلقوا راحتهم بالاتصالات، وطلب منّي أن نحل القضية بيننا. جاءت الصحف العبرية كتبت وصورّت الأعلام، وأدليت بتصريحي، حيث لا يمكن لامرأة يهودية واحدة أن تفرض رأيها علينا جميعًا. جاء أولاد الحارة وتصوروا مع العلم الفلسطيني. ومنذ سنتين لم يعلق أي علم في مدخل البناية. وهمس أحد الجيران بأذني، بأنّه في نفس البناية تقيم شابة وأمها من نفس القرية المهجرة وكانتا تعلقان العلم الأسود في يوم الاستقلال، فكان الجيران ينهالوا عليها بالشتائم والمسبات إلى أن أنزلت العلم، وفي نفس الوقت تقوم الجارة اليهودية بتعليق العلم كل عام ولم يتجرأ أحد بالاعتراض.

- ماذا تفعلون في هذا اليوم سألتها صاحبة الدكان؟

- في يوم النكبة، نخرج أنا وأولادي للمظاهرات مع الكوفية والأعلام الفلسطينية من مدخل البناية ولا يتجرأ أحد على فتح فاهه... قبل فترة وجيزة اتصل بي أحد النشيطين في لجنة البناية يسألني بأن الجارة اليهودية إيّاها تطلب الاذن بتعليق العلم فقلت له سأعلقها قبل أن تعلقه. وعليك أن تخجل أنت واصدقائك في البناية من تملقكم الزائد، الصداقة والجيرة واجب، لكن ليست على حساب المبادئ. ظل واقفًا بلا حراك مسحورًا ببخار الكلمات.

2

واصلت الزبونة حديثها وفي صوتها خيط من الأسى وتحولت نبرتها إلى التأكيد والتفخيم:

- في حي التلة، ذلك الحي الارستقراطي الذي أعيش فيه، يعترضون على كل شغلة صغيرة أقوم بها، لأنّنا لسنا من ربع العطور ذات الروائح النفّاذة. يراقبون كل حركاتنا، حتّى سيارتنا الأنتيكة لم تسلم من أذاهم، لأنّها ليست كسيارتهم الفخمة، مرّة يرفعون لنا ماسحة السيارة ومرّة يزيحون المرآة، وأخرى يرمون بالقاذورات على زجاج السيارة واعترضوا على كيفية وقوف السيارة، ومرّت فترة لم نستعمل سيارتنا لأن أولادي كانوا مسافرين، فاتصلوا الجيران بالبلدية مدّعين بأن السيارة لا يوجد بها رخص، فجاءت البلدية وفندت اقوالهم. وبعد أن وصل السيل الزبى ضاق ابني بهم ذرعًا، فخرج إلى الشارع وصرخ بأعلى صوته كي لا يقتربوا منا وسيارتنا.

سألت صاحبة الدكان وهي ترفع بسبابتها أحد جفنيها:

- ما الذي يجبرك على السكن بينهم في مثل هذا الحيّ؟

- اخترت هذا البيت منذ عدة أعوام لأنّ به مصعدًا وستنتقل أمي المقعدة من بيتها للعيش معنا. ومُنحنا موقف خاص لسيارتي بسبب إعاقة أمي، فقام هذا الجار بالتواصل مع البلدية يعلمهم بأنّ أمي انتقلت للسكن في القرية وهي ليست بحاجة إلى مكان لسيارتها، وأنا بدوري أبلغت البلدية بأن أمي لا تستطيع الحديث بسبب اعاقتها وأن أمي ما زالت تعيش معنا في بيتنا. لم يتركوا سبيلا للحط من قدرنا والإساءة الينا.

وفي نفس اليوم الذي غادرتنا به والدتي إلى مدن السماء، أزال هذا الواشي اللافتة التي تشير لموقف سيارة أمي، وعندما جاء ليعزيني قلت له لا تدخل بيتي أيها الخرائي... في أحد الأيام، جاءت سيارات الشرطة واعتقلت ابنتي، فسألني ذلك الواشي ونظرة الشماتة في عينيه عن الخبر، فقلت له: اُعتقلت لأسباب امنية، حط ايديك ورجليك بميّ باردة.

3

أضافت الزبونة: جاري هذا اسمه اسم غربي وليس عربي، هو مسؤول عن لجنة البناية، مع ان العمل في اللجنة يجب أن يكون تطوّعيًا ولكنه كان يتقاضى أربعين شاقلًا من كلّ بيت بالإضافة لرسوم لجنة البناية شهريًّا، ومنذ أن وصلتني هذه المعلومة رفضت أن أدفع حصته. كان يتلذذ بافتعال المشاكل لطردنا من العمارة فكلّما أقام ابني احتفالًا في البيت يستدعي الشرطة، حتّى مللت منه فاتصلت به وقلت له، من اليوم سأتصل بالشرطة في كل مناسبة تقومون بها، ومناسباته كانت كثيرة ومن حينها توقف عن ابلاغ الشرطة. ‎

اختتمت الزبونة حديثها تجملها مسحة من الحزن والتعب: في بنايتنا هناك من يرمي أكياس زبالة من برندة بيته إلى الشارع، ووجهت أصابع الاتهام نحونا، وبالصدفة رأى ابني زوجة جارنا إيّاه ابن القرية المهجرة تلوح بكيس الزبالة وترميه من الطابق الرابع، فقام بتصويرها فيديو، وطلب مني أن أرسله لمجموعة الجيران في لجنة البناية، وكتبت لهم ها هي صاحبة الكعب العالي وروائح العطر التي تزكم الأنوف بالصورة الحيّة تكب كيس زبالتها من أعلى إلى الأسفل.

4

علق في مدخل البناية بأن محاضرة قيّمة ستقام في قاعة البلدية فهرول الجيران للاستماع للمحاضرة وفي اليوم الثاني دقّت إحدى الجارات على باب بيتي وسألت:

- هل ابنك محاضر لقد شبهت أحدهم به.

عندئذ نظرت إليها نظرة دافئة وَراضية:

- نعم انه ابني المحاضر الذي استمعت اليه.

وحين جاءت طواقم التلفزيون لتصوير فيلم وثائقي عن اهلي وقصة تشريدهم، اخذنا اذنًا من البلدية بإغلاق الشارع. ومنذ الساعة الخامسة صباحًا وصل عمال البلدية وفضوا المرآب الكبير من السيارات وأدخلت سيارة التصوير الكبيرة فقاموا الجيران بالاعتراض، وقمنا بدورنا بتصوير اذن البلدية وعلقناه في مدخل البناية، وأعلمت الجيران سلفًا بالموضوع، لكنهم اتصلوا واعترضوا على ذلك، وعندما لم تكن بيدهم حيلة اصطفوا بجانب طواقم التصوير بحجة أنّهم أصدقاء العائلة‎ فقال لهم ابني: أنتم جميعًا سفلة.

5

معظم الأغراض التي ملأتها في سلتي لست بحاجة اليها، فأخذت أعيدها إلى مكانها بملامح من الخذلان المتراخي، وكأنّ القصّة تعيد ذاتها من جديد.

وسوم: العدد 932