أحلام حبّ قرب برج الحمام

جمال الحنصالي

طَجنت "فريدة" بيضتين كانتا حبيستين في الثلاجة منذ الأسبوع الماضي، بعد أن رمت بكُرّاس الفيزياء والكيمياء ذي الغلاف الوردي الذي تتوسطه صورة "ديكابرينو" قرب "المكورووند" العاطل. أنصفت كأس الشاي البارد وشربته دفعة واحدة، علّه يطفئ هجير عطشها الوجداني والبيولوجي. فتشت عن الخبز فلم تجدْ إلا بعض الكسرات وقد علق بها مرق لحم الرأس.. عافته وتركته ملفوفا في قطعة قماش يحوم حوله جيش من الذباب. شمرت عن ذراعيها الضئيلتين وأنشأت تمزق البيض بسباتها ووسطاها وإبهامها وإلى الفم مباشرة ! كانت المراهقة الصغيرة جائعة؛ فرحلة غذائها اليومية تبدأ بوجبة الفطور الكلاسيكية؛ مسلسلٌ بطلاه الخبز والزيت ثم إلى قطعة شوكلاطة في استراحة الساعة العاشرة إلا ربع، غالبا ما تكون هدية من إحدى التلميذات الغنيات، مرورا بحبات "الترمس" مملحة عند مولاي علي بقال الحي المجاور للثانوية.

 أنهت "فريدة" اللّمجة في لمح البصر ثم مسحت نظارتها بورقة "كلينكس" كانت مختبئة في جيب سروالها من نوع "الجينز" الذي تركته الجارة منشورا على حبل الغسيل قبل أن تهاجر، ثم نظرت إلى الساعة الحائطية، برّقت عينيها الذابلتين المتعبتين وفجأة وضعت يدها المتسخة على صدرها وقالت:

 _" سألاقيه عند غيبوبة الشمس، عليّ أن أسرع قبل أن تعود ماما من العمل في شركة الموبايلات !!"

 حَرْجَلتْ البنت كغزالة انفلتت من قبضة ضرغام شرس وتسلقت حائطا صغيرا تطلّ من خلاله على العمارة المعلقة بين السماء والأرض، تتوق إلى لقاء مصيري بينها وبينه.

 استنفضتِ المكان وهي تلوك علكة بنكهة النعناع ألصقتها البارحة بدرج مكتبها الصغير. قامت "فريدة" ب "زوووم" دقيق على برج الحمام، تستنظره والخوف أنشأ يدبّ في جوف فؤادها المسكين الذي استسلم لحبال الفرح والاضطراب تشلّ نبضه المنتظم، فاعتلتها حُمْرة خجل مستبدّة أعطت أوامرها لجيوشها كي تمتد على أراضي جسدها النحيف.

 انسحق قلب المراهقة لما أقبل الرجل الهشيم سِجاح وجهها، وقد دهس للتو سيجارة من النوع الرفيع، ومسح حذاءه الأسود من غبار السلالم المهترئة، ثم بلّل يده بقليل من الماء المتبقي في أصيص الجيران، ومررها على شعره الأبيض حتى أرغم بعض الشعيرات المتعجرفة على الانحناء.

 وتقدّم بخطىً وئيدة كأنه ضلّ هِدْيته، تشجع ثم تشهّق على "فريدة" فطوى المسافة الفاصلة بينهما في الواقع بعد أن كانت تحكمها موجات اللاسلكي، مدّ يده المبللة واسْتناع في السير مصافحا إياها، قال كلاما بعينيه أحلى من كلام الأحرف الأبجدية الأجنبية التي يرسلها في منتصف الليل عبر "الموبايل"، تلتحم فتصنع موسيقى رنانة تسحر الفتاة الجميلة !

 ما أن التحمت يد الرجل الأنيق بيد "فريدة" حتى تمغّصها شيء هزّ أبراج أحاسيسها الفتية، وتقلب وجهها وهمهت سائلة إياه:

ما هذا الخط الأبيض التي يساور خنصر يدك اليسرى؟

 دسّ الرجل ذو الأربعين عاما وما ينيف يده في جيب سرواله والعرق قد انهجم على جبينه العريض.

 الرسالة واضحة !

عنيدة كأمك ...

 لم يجد الرجل المراهق بُدا في وضع نقطة نهاية لحلم جميل ما برح ينمو قرب برج الحمام.