أنا الإنسان... أيها الكون!

حيدر الحدراوي

[email protected]

يجلس المحترم على قمة ذاك الجبل الشاهق , يتأمل الطبيعة , الجبال والوديان , الغابات والمساحات الخضراء , يقلب انظاره من جهة الى اخرى , ليتأمل الانسان في المدن والقرى , الحقول والبساتين , ويرفع انظاره ليتأمل السماء , يحدق في اشعة الشمس طويلا , فيقول :

-         الشمس تضيء نهارا ... والقمر يعكس نورها ليلا ... عقل الانسان يضيء كالشمس ... وفكره ينير كالقمر ... التفكير يعكس وجود العقل وتمامه . 

قطع عليه تأملاته اصوات مدافع , قنابل , صرخات من كل جانب , صرخات موت , صرخات استغاثة , نظر الى المدينة , فشاهد الدخان يرتفع من بعض جوانبها , والسنة اللهب تأكل في بناياتها , نظر الى الجهة الاخرى من الجبل , فشاهد قتالا مريرا بين جماعتين كبيرتين , ساءه المنظر , فأشاح ببصره الى جهة اخرى , فلاحظ ان هناك عراكا مرا بين فئتين , لم يعجبه ما رأى , فغير وجهة بصره , لكنها وقعت ايضا على شجار عنيف بين شابين , حاول تغير وجهة بصره بأستمرار , لكنها لم تقع على ما يسره , هام بالنهوض , ليقف على قدميه , فأذا بصوت خفي :

-         الى اين ايها المحترم ؟ .

-         الا ترى ما يجري في كل بقعة ! .

-         هذا هو حال الانسان مذ ان وجد ... حروب , قتال , عراك , شجار , ظلم , اجحاف ... ما عمّ السلام في بقعة , الا وانتشر ضده في بقاع اخرى , ما حلّ العدل في مكان الا وساد الظلم في مكان اخر ! .

-         لا احتمل السكوت ! .

-         وماذا تراك فاعلا ؟ .

-         سأقوم بمهمتي ! .

-         اي مهمة ؟ ! .

-         مهمة الانسان وقضيته الكبرى ! .

-         ايمكنك اصلاح كل ذلك ؟ .

-         سأبذل ما يمكنني لانجاز المهمة ! .

انطلق المحترم في مسيره , حتى شاهد فتاة تحدق في الزهور , وفي الجهة الاخرى من الطريق , شابان يتعاركان , عراكا مرا , ادمى احدهما الاخر .

انتبهت الفتاة لوجود المحترم , فانحنت بأحترام مؤدية التحية :

-         مرحبا سيدي المحترم ! .

-         مرحبا ابنتي ! .

ثم التفت نحو الشابين , وقال لهما سائلا :

-         لماذا تتناطحان كالثيران ؟ ! .

توقفا عن العراك حالما سمعا صوته , وقال احدهما للاخر :

-         انه السيد المحترم ! .     

تركا العراك واقبلا عليه مسرعين , انحنيا بحضرته , واديا التحية , فقال لهما :

-         لم تجيباني ! .

نظر احدهما بوجه الاخر , ثم تشجع احدهما ليقول مشيرا نحو الفتاة :

-         انا اريدها .. وهو يريدها ! .

-         وليس هناك طريقة اخرى ... الا ان تتناطحان كالثيران ... هل انتما بهيمتين ... تندفعان الى الغريزة دون عقل او تفكير ... حتى ولو ادى ذلك الى حتفكما ! .

-         وما الحل ّ سيدي المحترم ! .

التفت الى الفتاة , واعاد نظره نحوهما ليقول :

-         اليست هي انسانة ! ...لديها عقل ... وتفكر بطريقة ما .... لها رأيها ... وتملك نفسها ... ولها حرية الاختيار ؟ ! .

-         نعم ! .

-         بذكوريتكما تريدان ان تحكما مصيرها ... وتسلبانها عقلها ... رأيها ... اختيارها بهذه الطريقة الحيوانية ... الامر عائد لها !.

تركهما واكمل طريقه , حتى وصل الى فئتين تتقاتلان بعنف , فوقف بين الجمعين , وتوقف القتال حالما وقعت الانظار عليه :

-         لقد كنتما نعم المتجاورين ... فما حدا على ما بدا ؟ .

-         كما تعرف سيدي المحترم ان حدود اراضينا تنتهي هنا ... عندها تبدأ حدودهم ... فكانت هذه الشجرة على الحد الفاصل ... البذرة بذرتنا ... لكنها سقيت من ماء سقيهم ... اهي لنا ام لهم ؟ ! .

نظر الى الشجرة , والتفت اليهم امرا :

-         احضروا قتلاكم وجرحاكم ... ضعوهم ها هنا ! .

جلب كل فريق قتلاه وجرحاه , ووضعوهم بجانب الشجرة , فسألهم منكرا :

-         اكل هؤلاء البشر يموتون واخرين يصابون من اجل شجرة لدى كل طرف منها الكثير , ويمكن لكل طرف ان يغرس غيرها في اراضيه , ويسقيها بماء سقيه ... لم لم تستعملوا عقولكم في حلّ المشكلة ... وان لم تجدوا الحل , فقطع الشجرة خير من كل هذه الخسائر ... واهون من كل هذا العناء ! . 

هرع عدة رجال ليقطعوا الشجرة , وكانوا من جميعا فريق واحد , فاستوقفهم قائلا :

- ان اخترتم قطع الشجرة , فيجب ان يشارك في قطعها الطرفين ... لئلا يتهمكم الطرف الاخر بقطعها ... فيثور لطلب الثأر ! . 

اختار رجلين من كل فئة , اخذوا الادوات اللازمة , وشرعوا بقطعها معا .

************************************

انطلق قدما في مسيرته , حتى وصل الى جماعتين كبيرتين , يقتل بعضهم البعض شر قتلة , وينكل به اشد التنكيل , توسط الجمعين , فتوقف الاقتتال , حدق في وجوه الطرفين , وكل ما حملته ايديهم من انواع السلاح , ولاحظ همتهم واندفاعهم نحو القتال , فقال لهما سائلا , مندهشا , مستغربا :

--         لقد كنتما خير مثالين في التآلف والتآخي ... فما حدا على ما بدا ؟ ! .

-         لقد شتموا الهتنا ... وطعنوا برموزنا ... وسخروا من مقدساتنا ... وسفهوا احلامنا ... اعتنقوا المذاهب ... وسلكوا المسالك ... حتى اصبحوا خطرا علينا ... وعلى حين غرة ... نالوا منا ... فهرعنا لننال منهم ثائرين ! .

بينما هو حدق في الوجوه , فلاحظ انهما شد كل منهما العزم لسحق الاخر , ورفض وجوده , فاختار شخصا من احدا الجماعتين , واوقفه في وسط الجماعة الاخرى , بينما هم ملتفين حوله , طلب منه ان يؤدي طقوسه التعبدية , حسب ما يعتقد وما يمليه عليه دينه ومذهبه ومسلكه , واختار شخصا من هذه الجماعة , واوسطه في الجماعة الاخرى , وطلب منه نفس ما طلب من الشخص الاول , حتى اذا فرغا , طلب حضورهما عنده , فقال مخاطبا الجميع , كل جماعة معنية بالكلام :

-         لقد ادى كل الشخص طقوسه العبادية في وسطكم ... وهو مخالف لكم في المذهب والاعتقاد ... فهل ضرّ او تضرر احدكم بذلك ... هل تصدع رأس احدكم ... هل مرض احدكم ... هل خسر احدكم ماله ؟ ! .

-         كلا .

-         فما الضير اذا ؟ ! .

-         اما ان يتوب عن طريقته او ينتمي لمذهبنا ! .

-         والا ... جزاءه ان يقتل ... ويهتك عرضه ... وينهب ماله ... كلا منكما سيفعل هذا في الطرف الاخر ... اما ان ينتمي او فلا ! .

اطرق الجميع , فأردف قائلا :

-         ثم انكم تدعون الى قتل المخالف لكم في الرأي ... وهل انتم مجتمعون على رأي واحد ؟ ... قد يتفق اثنان منكم على رأي واحد ... لكنهما سيختلفان على اراء كثيرة ... فحري بكم ان تقتتلوا فيما بينكم ... لا ان تقاتلوا طائفة اخرى ! .     

وجم الجميع , فأردف قائلا :

-         عظيم هو الانسان بعقله ... وفكره ... وحرية اختياره ... لكل انسان رأي خاص ... قد يختلف وقد يتفق مع انسان اخر ... ولكل انسان حرية الاختيار ... قد تتفق مع حرية انسان اخر, وقد تختلف معه ... هنا تكمن عظمة الانسان ... هذا المخلوق المتفرد بالتميز على باقي الموجودات ... على المادة وعلى الحيوانات ... كلما زادت وكثرت الاراء وتعددت الحريات دل ذلك على عظمته وعلو شأنه وخطورة امره . 

لاحظ المحترم ان السكون اطبق على الفريقين , تأمل اسلحتهم وأردف قائلا :

-         انظروا الى انفسكم ... حجبتم نعمة العقل ... وانحرفتم في تفكيركم ... واخترتم القتل والتنكيل بأخوتكم ... بني الانسان ... لا لشيء الا لانه خالفكم في الرأي والاختيار ... لكنكم لا زلتم متفقين معه بالعقل ... فابتدعتم مختلف الوسائل والاساليب لقتل الاخر ... حيث لا يختلف عنكم من حيث الخلقة ... وتفننتم في التنكيل به ... بل وحتى بجثته ... هلا استعملتم عقولكم ووجهتم تفكيركم الى التفنن في اساليب مسالمة الطرف الاخر ... هلا جربتم ان تدعوا الى مذهبكم ومسلككم بمختلف وسائل السلم والسلام ... بدل التفنن بالقتل والعنف في دعوتكم لها ... كونوا زينا على مذاهبكم واعتقاداتكم واراءكم واختياراتكم ... ولا تكونوا شينا عليها ! .

اكمل طريقه , بعد ان لاحظ وجومهم , فأستدار ليقول :

-         تفننوا في مسالمة بعضكم ... لا ان تتفننوا في القتل و التنكيل ! . 

**************************************

انطلق في رحلته , حتى وصل الى المدينة , حيث ان الحرب قائمة , اصوات المدافع هنا وهناك , الدخان يملئ الفضاء , ازيز الرصاص في كل مكان , يزلزل قلوب الشجعان , يتردد صدى صراخ الضحايا في الافاق , توقف وقفة تأمل , متمعنا بهذا الكم من الدمار , الانسان والدم , طلب قادة المتحاربين , فحضرا , فاستهل كلامه بالسؤال :

-         ما بالكما ؟ .

-         انها مدينتنا ! .

-         بل مدينتنا ! . 

راقب تنازعهما وتبادلهما السب والشتائم , احدهما يتهم الاخر , فقال مقاطعا :

-         اليس في المدينة سكان ... وسكانها من البشر ... لديهم عقول ... ويملكون الرأي والاختيار ... جيوشكم ... مدافعكم ... رصاصكم دعاكم لتسلبوهم كل ذلك ... فانسلختم من انسانيتكم ... وتحولتم الى وحوش لا عقل لها ولا تفكير ... لا تفقه ولا تفهم ! .

-         انترك الامر للسكان ! .

-         نعم ... لثلاثة اسباب ... الاول لديهم عقول ليفكروا بها ... ثم يختاروا بحرية ... الثاني ... انهم يملكون انفسهم ... الثالث لانهم المتضررين في نزاعكما ! .

-         وماذا بعد الاختيار ؟ ! .

-         على الخاسر ان يقبل بالنتيجة ... وان يحترم اختيار سكان المدينة ... ويتدارس امره ليبحث في اسباب خسارته ... لعله يفوز في المرة القادمة ... وعلى الفائز ان يتحمل المسؤولية ... ويؤدي دوره ... وعليه ايضا ان لا يسخر ولا يستهزئ ولا يبخس حق الطرف الخاسر ! .   

تركهما وانصرف , ليفكرا في شانهما , ويحزما امرهما , ويحسما خلافهما .

******************************

ذات يوم , جلس السيد المحترم على قمة الجبل , ليتأمل الكون , الانسان , الطبيعة , الحيوان , وكل ما يمكن تأمله , لاحظ ان الهدوء مطبقا , والسلام عاما , والامن مستقرا , كل شيء جميل , كما يرتجى ويؤمل , فاقتربت منه الشمس لتقول :

-         اول مرة ارسل اشعة ضيائي فلا قتال ولا دم يسال ! .

اقترب القمر ليشاركهما في الحديث :

-         اول مرة ارسل شعاع نوري فلا نزاع ولا خلاف ! .

بينما قالت النجوم :

-         اول مرة نزين السماء فلا مشاكل ولا اضطراب ! .

وانبرت الجبال لتقول :

-         اول مرة لا نردد صدى صرخات الموت , الالم , الحرمان ! .

بينما دفع الفضول اشجار الغابات الى القول :

-         اول مرة لا نقطع ولا نسقى من دم الانسان ! . 

اثناء ذلك كان السيد المحترم مكتفيا بالاستماع , لم يتفوه ببنت شفة , فلاحظ الجميع سكونه , فقالوا له جميعا سائلين بصوت واحد :

-         من انت ايها المحترم ؟ ! .

فأجاب دونما تردد :

-         انا الانسان ... ايها الكون ! .