مثل ظلَّه

علي إبراهيم الدغيم

مثل ظلَّه

علي إبراهيم الدغيم

سورية / ادلب / جرجناز

تأفف الشاب ( قنوع ) من الوضع التعيس الذي يعيشه .

فمنذ الصف الأول الثانوي وهو يعاني الضغوط النفسية والمادية في حباته , يمضي نهاره في المدرسة متشائماً يريد أن يسبقَ زمنه .

- متى تمضي الثانوية العامة وأدخل الجامعة , وأبدأ العمل وجني الفلوس .

ويبني ( قنوع ) آمالاً وأحلاماً على مستقبلٍ في علم الغيب .

يأتي من المدرسة يتناول الغداء , ثم يستلقي , وما هي إلا دقائق حتى يسمع صوتاً حاداً يناديه :

- قم وامضِ إلى حانوت الحاج ( مبروك ) لأنك لو تأخرت سوف يخصم الحاج ( مبروك ) أجرة يومك .

ينهض ( قنوع ) مذعوراً يلبس ثيابه , ويمضي , ولا يعطي انتباهاً لصراخ أمه وأبيه اللذان يدعوانه إلى أن يهتم بدروسه  ليحصل على معدلٍ عالٍ ويدخل الجامعة .

وصل ( قنوع ) وقد تأخر ساعتين عن الموعد .

علا  صراخ الحاج ( مبروك ) قائلاً :

- إذا كنت تجي من المدرسة تعبان فخبرني حتى شوف شاب غيرك , لأنك إذا استمريت على هالحالة أنا رح أخصم عليك , ورح دوّر على شاب غيرك .

خصم الأجرة جعل عينا الشاب قنوع جاحظةً ومذهولة .

صح حينها ذلك الصوت الحاد :

- إياك كل شي إلا الخصم .... هناك ألف رجل ببوس إيدك مشان تعمل عنده .

علا الصراخ بين الحاج ( مبروك ) و( قنوع ) انتهى بطرد قنوع من العمل .

خرج ( قنوع ) والشر يتطاير من عينيه , ومضى مسرعاً إلى البيت , صرخ ذلك الصوت الحاد:

- إلى أين ... إلى أين ؟

نسيت عمل المساء في صالون ( الخيرات _ الصالون الذي لم يرَ الخير فيه قط ) .

أطرق (قنوع ) قليلاً ثمَّ غيّر وجهته إلى صالون الحلاقة .. ليبقى فيه حتى آخر الليل , ثم يعود منهكاً إلى البيت , يضع رأسه لينام , فيصحو ذلك الصوت الحاد من جديد :

- لازم بكرا تشوف عمل تاني , لأن الحاج ( مبروك ) ما عاد يقبلك في محله , ولازم تبني بيتاً جديداً , وتأمّن مستقبلك .....

وتوالت نصائح ذلك الصوت الحاد وافتراضاته التي بقيت مع ( قنوع ) طوال الليل تعكر عليه صفو أحلامه .

وفي اليوم التالي بعد عودته من المدرسة ذهب إلى سوق الهال لكي يعمل عتّالاً كي لا يتمنن الحاج (مبروك ) مرة أخرى .

وهكذا مضت المرحلة الثانوية و( قنوع ) يريد أن بسابق عمره ليجني العسل , ويرتاح في المستقبل كما كان يقول :

- أتعب الآن مشان أرتاح في المستقبل .

صدرت نتائج المرحلة الثانوية ...

وكان ( قنوع ) قد حصل على معدلٍ عالٍ يخوّله في النهاية دخول كلية الاقتصاد .

عاد إلى البيت مسروراً ...

التهاني والمباركات ترافقت مع فكرة عرضها ( مساعد ) رفيق (قنوع ) بالسفر إلى ( مالطا )

كان حلم ( قنوع ) السفر إلى أوربا , فهناك كما يسمع ( الأموال على إيد مين يشيل ) كما يقال .

فكرة السفر عارضها الأهل كلهم , وكلما حاول ( قنوع ) تناسيها جاءه ذلك الصوت الحاد :

- إياك هاي المرة صارت في المرة الجاي ما بتصير .... والفرصة ما تجي غير مرة في العمر.. ..

- لكنّ السفر غير مضمون , وهناك عقبات ( دمدم قنوع بينه وبين نفسه )

صرخ ذلك الصوت الحاد :

- كثير من الناس سافروا بالتهريب , ووصلوا ( مالطا ) والآن يلعبون بالذهب لعب .

دوارٌ شديد أصاب ( قنوع ) وهو يفكر ( السفر أم الاقتصاد ) , خلد إلى النوم , وعاد ذلك الصوت الحاد كعادته لينخر في رأس ( قنوع ) , ويعكر عليه صفو أحلامه .

كان الصباح موعداً لإعلان ولادة القرار النهائي بترك ( كلية الاقتصاد ) والسفر إلى ( مالطا ) , كان ذلك الصوت الحاد الغائب أقوى حضوراً من كل الصيحات التي علت من أمه والأهل أجمعين .

مضى قارب الأحلام يطفو على مياه المتوسط بعدما غادر الشواطئ التركية , وقنوع يشخص بأحلامه قبل عينيه منظر شواطئ ( مالطا ) .....

لكن ْ لسوء الحظ لاحت  أمام عيني (  قنوع ) قوارب الأمن المالطي التي طاردت قاربهم الهارب , وألقت القبض عليهم  , وأدخلوهم السجن .

هناك عاد ذلك الصوت الحاد مرة ً أخرى :

- لا تهتم فما هي إلا كام يوم وتخرج من هنا , ولن يطول مقامك , وستعود تتابع دراستك في كلية الاقتصاد , ولن تخسر شيئاً !

بقي قنوع صامتاً , ولم يهتم بذلك الصوت الذي بدا هذه المرة كالأخرق !

مضت ثلاثة شهور في سجن ( مالطا ) , ثم سُفِّر ( قنوع ) مع من كان معه , وفي طريق العودة تصارعت أمورٌ كثيرة في مخيلة ( قنوع ) , فقد أصبحت الضغوط النفسية أكبر بعد فشله في السفر , وعليه أن يجد مخرجاً من هذا الجب المظلم الذي سقط فيه .

- شوف صاحبك ( عادل ) هلي عرض عليك فكرة العمل بالتجارة عاد ذلك  الصوت الحاد بعد أن خبا لمدة ثلاثة أشهر .

انتظر ( قنوع ) وصوله إلى البلد حتى يلتقي بعادل , وفي تركيا تعرف على شاب عربي مجهول الجنسية يعمل في ( اسطنبول ) , التقى فيه صدفةً , ثم عرض ذلك الشاب على ( قنوع) العمل لديه , وأخبره أن مهمته ( إيصال بعض الصناديق من مكان إلى مكان ٍ آخر ) .

لم يكن ( قنوع ) يعرف أن هذا الرجل يعمل لصالح ( المافيا الغربية ) ويهرّب في هذه الصناديق الأسلحة والمخدرات .

وبدأت الأموال تنهال على ( قنوع ) , وجاء الصوت الحاد من جديد :

- لماذا لا تنفصل عن ذلك الشاب وتعمل لحسابك الخاص أربح لك .

لم يتوانَ ( قنوع ) من طلب الانفصال عن ذلك الشاب , وعندما أخبره أنه يعمل لصالح ( المافيا الغربية ) ارتجفت قدماه , وشخصت عيناه , وبدأ قلبه بالخفقان :

- مافيا !!!

- إي مافيا , مالك ارتعدت , قال الشاب ببساطة , ما كل أغنياء العالم إما تجار مخدرات أو تجار أسلحة .

ارتبك ( قنوع ) ثم عاد ذلك الصوت الحاد مشجعاً :

- لا تتردد

- إياك أن تتضيع الفرصة .

- ومادام عملك متقن فلن يستطيع أحدٌ أن يوقع بك خطراً .

ثم تابع ذلك الشاب كلامه مرة أخرى :

- ولو بقيت تشتغل معي رح سلمك التصدير إلى الشرق الأوسط بأكمله لأنه مربح جداً , ومازالت تلك البلاد خامة نظيفة لا تحتوي على هذه البضاعة , وأنت بتعرف طرق العبور إلى تلك المناطق , ابن البلد .

تردد ( قنوع ) قليلاً , لكنَّ الصوت الحاد كان مشجعاً قوياً لأن يصبح ( قنوع ) أحد تجار الأسلحة والمخدرات في العالم .

وتوالت الصفقات والمرابح .

وأصبحت الأموال تنهال على ( قنوع)  كالمطر .

وفي إحدى الصفقات إلى أحد البلاد العربية , كُشفت البضاعة وبان السر الخفي , ولم يجد ( قنوع ) من منجى إلا الاعتراف .

قدَّم (قنوع ) شهادته , وحُكم عليه بالإعدام شنقاً .

جاء موعد الحكم , وتجمع الناس ....

والتف َّ الحبل الغليظ على رقبة ( قنوع ) معلناً نهاية عمرٍ أمضاه بالأحلام والأماني , والبحث المرير عن المستقبل والسعادة .

حينها ...

انفصل ذلك الصوت الحاد عن ( قنوع ) , وحلَّق في الجو باحثاً عن قنوعٍ آخر كي يسكنه !!!